ثلاثة مسرحيين رواد في المسرح العراقي

الأحد 2018/04/01
أحد عروض قاسم محمد

قاسم محمد والتجديد في المسرحية الشعبية

 

حين غادر قاسم محمد (1934-2009) إلى الشارقة عام 1997، للعمل في مسرحها الوطني، بسبب الحصار الظالم الذي كان مفروضا على العراق، افتقدنا مخرجا وكاتبا وممثلا بارعا، لكنّ ما خفف من وطأة غيابه الفني عنا أنه وجد هناك فضاءات أوسع لتحقيق إنجازات وإبداعات فنية أكثر، بعد أن ضاقت تلك الفضاءات في بلده، الذي ولد فيه وترعرع وتشرّب بأصالته وتشبّع بحزن وحب أبنائه، معبّرا عن ذلك التشبع وذلك التشرب بتجارب مسرحية شعبية عديدة مازالت كلها راسخة في ذاكرة زملائه المسرحيين والمعجبين به.

وكانت مسرحية “النخلة والجيران”، التي أعدها عن رواية الراحل غائب طعمة فرمان، أولى تلك التجارب التي جسدت، بصدق فني، وقائع مرحلة من تاريخ عراقنا الذي كان رازحا تحت نير الاحتلال البريطاني وموقف العراقيين منه. وقد رسم فيها شخصيات متنوعة في أبعادها من أبناء الشعب، خصوصا من الطبقة الكادحة، وما يعانون جراء التعسف، وما يتطلعون إلى حياة أفضل.

وثمة ميزة ثالثة لتلك التجربة تمثّلت في تصويره البيئة العراقية بكل نكهتها، من وسائل منظرية موجزة ومبتكرة ساعده فيها الفنان الراحل كاظم حيدر. وحدث الأمر نفسه في مسرحية “الشريعة” ليوسف العاني، جاعلا المتفرج يعيش مع شخوصها، ويتلمس مساراتهم ومكابداتهم، حيث بلور معالم المسرح الشعبي الجديد، والتي تمثلت في ما لحق من إنتاجاته المسرحية، وكانت مسرحية “حكاية العطش والأرض والناس″ قد وصلت إلى الذروة في أسلوبها المبتكر، وفي مضمونها الحساس وأحداثها المعيشية التي ركزت على استلاب الحقوق، وانتقل فيها قاسم من الأسلوب التقليدي في بناء المسرحية إلى الأسلوب الاحتفالي.

منذ بداية عودته من بعثته الدراسية خارج البلاد، أظهر قاسم محمد رغبة مدروسة في التجديد عندما دخل مدخل “المسرح التجريبي”، حيث قدم لفرقة المسرح الفني الحديث في مسرح بغداد ثلاثية الكاتب الثوري اللاتيني ازفالدو دراغون، فأخرج الأولى “حكاية الرجل الذي صار كلبا” بنفسه، محققا أسلوب السهل الممتنع، وأخرج الثانية “حكاية صديقنا بانجيتو” المخرج صلاح القصب، وأخرج الثالثة “مرض أسنان” كاتب هذه السطور، محققين تنوعا في الرؤى وفي الأسلوب، ومتفقين في التأكيد على المضمون الشعبي بشأن معاناة الإنسان البسيط في مجتمعات تتحكم فيها أنظمة القهر والاستغلال، وبذلك أتاح قاسم محمد لنفسه ولزملائه فرص التجريب في مسارات المسرح الشعبي الأممي.

وإذا كان هذا المخرج المجدد قد أبدى اهتماما بالغا في تقديم صور مشرقة للمسرح الشعبي، فإنه أبدى اهتماما آخر بتقديم المسرحية العالمية بصيغ يتقبلها المتفرج العراقي، وبالمضامين الإنسانية التي لم تغب عن ذهنه وعن أذهانهم. وفي هذا المجال أخرج لأنطون تشيكوف “أغنية التم”، ولمكسيم غوركي “نفوس″ بعد أن أعدها لتناسب البيئة العراقية، وأخرج للياباني كيخوسيتا مسرحية “طائر الحب”، وللشاعر التقدمي التركي ناظم حكمت مسرحية “شيرين وفرهاد” وللكاتب الأميركي وليم سارويان مسرحية “النصيحة” بعد أن أعدها مقربا إياها من أفكار المتفرجين العراقيين ومشاعرهم. كذلك أخرج للكاتب الإيراني كوهر مراد مسرحية بعنوان “الإملاء”.

وكان هذا المبدع المتفاني في حب المسرح ورسالته السامية من جملة المسرحيين العرب الذي حاولوا خلال الستينات من القرن الماضي، تحقيق هوية خاصة لمسرحهم بالإفادة من التراث الأدبي والشعبي، فكان أن قدم “أنا ضمير المتكلم” أعدّ فيها مسرحية ملحمية عن قضية الشعب الفلسطيني وأرضه السليبة؛ مستفيدا من أشعار شعراء المقاومة الفلسطينية أمثال محمود درويش وسميح القاسم.

وقدم “بغداد الأزل بين الجد والهزل” اعتمادا على مقامات الحريري وعلى أدب الجاحظ. وقدم “كان ياما كان” اعتمادا على حكايات ألف ليلة وليلة. وقدم “مجالس التراث” اعتمادا على مصادر تراثية عديدة. وقدم “زاد حزني وسروري في مقامات الحريري” اعتمادا على عدد من مقامات الحريري. وقدم أيضا من تأليفه في هذا المجال “الملحمة الشعبية” التي أخرجها له الراحل إبراهيم جلال. وكانت مساهمة قاسم محمد في مسرح الطفل وبعمليه الناجحين “طير السعد” و”سر الكنز″ من العلامات البارزة على الصعيد الفني والإقبال الجماهيري.

وبالرغم من كون قاسم محمد كاتبا ناجحا ومعدا ذكيا، فقد اعترف بقدرة المؤلفين العراقيين الآخرين على تحقيق نجاحات مرموقة فنيا وشعبيا، لذلك أخرج للشاعر يوسف الصائغ مسرحيتين هما “العودة” و”الباب”، وأخرج للكاتب المسرحي جليل القيسي “أنا لمن وضد من؟”، وأخرج لحاكم الشارقة الشيخ الدكتور سلطان القاسمي عددا من نصوصه المسرحية. وفضلا عن ذلك كله عُرف قاسم محمد، في مجال تدريسه فنون المسرح، أو في مجال عمله الإخراجي والتمثيلي، ببراعته في التحليل والتفسير، وحرصه على سبر أغوار الممثلين، واستخراج قدراتهم وصولا إلى تحقيق الصدق في التعبير والتلقائية في الأداء، ومن ثمّ إلى إقناع المتفرجين.

 

بدري حسون فريد: من الإبداع إلى الانزواء

المخرج والكاتب - الممثل قاسم محمد والمخرج والممثل جعفر السعدي - المخرج واللمثل بدري حسون فريد

 

 

بدري حسون فريد (1927-2017) أحد الأعمدة التي شُيّد عليها صرح المسرح العراقي، الذي ارتفع بناؤه منذ أوائل الخمسينات من القرن الماضي، عندما أدرك هو وزملاؤه من طلبة معهد الفنون الجميلة أن المسرح وسيلة من وسائل التثقيف، والتوجيه، والنقد، وتحسين الذائقة، وترويج المحبة والجمال، والدعوة إلى تغيير المجتمع نحو الأفضل. وبعد تخرجهم في المعهد أسهموا في تأسيس كيانات جديدة للعمل المسرحي، كفرقة المسرح الحديث، والفرقة الشعبية للتمثيل، وفرقة مسرح الطليعة، والفرقة القومية للتمثيل. وعندما عاد بدري من بعثته الدراسية في معهد غودمان للفن المسرحي بشيكاغو، أخذ هو وزملاء مثله وأساتذة له، درسوا فن المسرح في خارج البلاد، يعملون بكل جدية وحرص على تطوير وتجديد شكل العرض المسرحي ومضمونه.

أتذكر كيف كنا، أنا وهو، نتنافس على الأولية في التعلم، ونحن طلبة فن، بل ونتعاون في تقديم عروض مسرحية متقدمة داخل معهد الفنون وخارجه، فقدمنا “تضحية معلم”، و”الأستاذ كلينوف”، وذهبنا أنا وإياه، أوائل الخمسينات إلى مدينة كربلاء المقدسة لنقدم من تأليفه وإخراجه مسرحية “أمنية”. وأتذكر أيضا كيف تنافسنا أنا وإياه في تمثيل دورينا الرئيسين في فيلم “نبوخذ نصر”، أول فيلم عراقي ملون وبالسينما سكوب أخرجه كامل العزاوي. كما أتذكر كيف أسهمنا في تحرير مجلة “السينما” لصاحبها السينمائي الراحل كاميران حسني، وكيف كنا نتعرض لنظريات المسرح القديمة والحديثة، وكيف كنا ننتقد ما يقدم من أعمال مسرحية في تلك المرحلة.

كانت مسرحية “عدو الشعب” للنرويجي أبسن أول عمل لبدري حسون فريد بعد عودته من البعثة، أخرجه لطلبة معهد الفنون الجميلة، وأثبت فيه رؤيته الجديدة، وحسه الدرامي العالي، ودقته في تفسير محتوى المسرحية. وقد ساعده في ذلك الممثل طعمة التميمي، والممثلة فوزية عارف. وكانت مسرحية “الحصار” للكاتب المسرحي العراقي عادل كاظم أول مسرحية يخرجها للفرقة القومية للتمثيل، فقدم عرضا مكتملا في جميع عناصر إنتاجه، والتمثيل بالدرجة الأولى، حيث شاركت معه في أحد الأدوار الرئيسية، إلى جانب إبراهيم جلال ويعقوب الأمين وغازي التكريتي وعزيز عبدالصاحب، وآخرين من الممثلين البارزين آنذاك.

وراح بدري حسون فريد يقدم نتاجات مسرحية ناجحة الواحدة تلو الأخرى مثل “الأشجار تموت واقفة” و”الجرة المحطمة” و”هوراس″، واتسمت جميعها بدقة التفاصيل ورصانة البناء وتوافق الشكل مع المضمون.

وتألق عرضه الأخاذ لمسرحية “جسر آرتا”، الذي قدمه في أحد المهرجانات ببغداد، ومثلتُ فيه الدور الرئيس إلى جانب زوجته ابتسام فريد وآزادوهي صموئيل. ولا زلت أتذكر حماسة جمهور المشاهدين في استقبالهم لذلك العرض المتفرد، وإشادة الجميع بحسن إخراجه وتمثيله وقوة تأثيره في العقول والنفوس. وكان ذلك آخر عمل له قبل أن يغادر العراق، بسبب الحصار أيضا، مهاجرا إلى ليبيا للعمل في إحدى جامعاتها، تاركا وراءه آثار دوره المشهور “إسماعيل جلبي” في المسلسل التلفزيوني “النسر وعيون المدينة”، الذي ظل عالقا في ذاكرة العراقيين جميعا، وغائبا عن أجيال من طلبة قسم الفنون المسرحية في كلية الفنون الجميلة ببغداد، الذين أفنى جزءا كبيرا من عمره في سبيل تعليمهم وتزويدهم بالمعرفة في مختلف حقول الفن المسرحي، ومخلفا وراءه أهم وثيقتين في مجال التعليم الفني، وهما الكتابان المنهجيان “فن الإلقاء” و”مبادئ الإخراج المسرحي” اللذان تعاونت معه في تأليفهما، وسيبقى الكتابان مصدرين ينهل منهما الطلبة معلوماتهم. وإضافة إلى حرصه على تعليم طلبته، فقد أثبت قدرته العالية في إدارة قسم الفنون المسرحية بكلية الفنون الجميلة لسنوات قبل إحالته على التقاعد.

تغرّب بدري حسون فريد عن بلده، وحاول بجهده أن يواصل عمله الفني في ليبيا وفي المغرب، لكن لم يعرف أحد هناك قيمة هذا الفنان الكبير المضحي ومكانته في بلده، وقد أضناه التعب وهدّه المرض، فعاد إلى بغداد عام 2010، ثم قصد أربيل لينزوي، ربما احتجاجا على تنكر الكثيرين لدوره الكبير في التعليم والإبداع، حتى وفاته في نوفمبر من العام الماضي، بعد صراع طويل مع المرض في أحد مستشفيات أربيل عن عمر ناهز التسعين عاما.

 

جعفر السعدي: سيرة حافلة بالتألق

عرض النخلة والجيران إخراج قاسم محمد

 

 

شاهد الممثل والمخرج المسرحي جعفر السعدي (1921-2000) أول عرض مسرحي، وهو “ذي قار، أو ذيول صفين”، تأليف سلمان الصفواني، عندما كان تلميذا عام 1930 في مدرسة المفيد الابتدائية ببغداد. وتعرف في السنة التالية إلى الرائد المسرحي حقي الشبلي حين عرض في المدرسة نفسها مسرحيته “شهامة العرب”، فشغف بالمسرح منذئذ، وصعد أول مرة على الخشبة عام 1934 ممثلا في عرض مسرحي مدرسي، وانضم بعدئذ إلى اللجنة الفنية التي شكلتها جمعية “بيوت الأمة” في الكاظمية، ومثل في العديد من المسرحيات الاجتماعية والسياسية التي عرضتها عام 1941.

وبعد أن اكتسب خبرة فنية، ووعى أهمية المسرح ومكانته، التحق بمعهد الفنون الجميلة في بغداد وتخرج عام 1945 ضمن الدورة الأولى، وكان من زملائه في المعهد ودورته المخرج إبراهيم جلال. ونتيجة لحبه وشغفه بالمسرح شارك في تأسيس “الفرقة الشعبية للتمثيل”، التي أجيزت رسميا بتاريخ 12/8/1947، وكان أول رئيس لها عبدالكريم هادي الحميد المحامي. بعدها تبين للسلطات الحكومية أن هذه الفرقة تشارك في العمل السياسي، وفي التظاهرات التي عمت العراق في أواخر الأربعينات من القرن الماضي، خاصة أنها عرضت مسرحية “شهداء الوطنية”، فضايقتها حتى نوقف نشاطها عام 1948.

عُيّن في دار المعلمين عام 1950 كأول مدرس للتمثيل في دور المعلمين في العراق، وجرى انتخابه سكرتيرا للفرقة الشعبية للتمثيل بعد إعادة نشاطها الفني، ثم أصبح مدرسا في قسم التمثيل والإخراج بمعهد الفنون الجميلة بعد أن نقل إليه من دار المعلمين، وبقي فيه إلى عام 1957، حين التحق ببعثة علمية إلى الولايات المتحدة الأميركية للحصول على شهادة الماجستير في الإخراج المسرحي من معهد الفنون في شيكاغو، وبعد عودته إلى العراق عام 1961 أعيد تعيينه مدرسا للإخراج والتمثيل في معهد الفنون، وانتخب مجددا سكرتيرا للفرقة الشعبية للتمثيل. وفي عام 1963 أسس “جماعة سميراميس للتمثيل”، لكنها توقفت عام 1964 بعد صدور قانون الفرق التمثيلية، فانتقل إلى التدريس في أكاديمية الفنون الجميلة التابعة لوزارة المعارف في حينها.

ونظرا لمكانة السعدي وإنجازاته الفنية اختير مع الفنان يوسف العاني عضوا في لجنة اليونسكو عام 1969، التي عقدت اجتماعاتها في القاهرة لاختيار أحسن كاتب مسرحي من الشباب عام 1974. وفي عام 1978 شارك في المؤتمر العالمي المنعقد ببرلين عن الكاتب المسرحي الألماني الشهير برتولد بريخت، ضمن وفد ضم إبراهيم جلال وأحمد فياض المفرجي وأديب القليجي، كما اختير رئيسا لقسم الفنون المسرحية في الأكاديمية، وكان هذا القسم يضم فروع المسرح والسينما والتلفزيون والإذاعة والتربية الفنية، وبقي في هذا المنصب حتى عام 1981. وبعد عطاء دام أربعة عقود أحيل على التقاعد عام 1982، وحصل في العام نفسه على جائزة أفضل ممثل في الدورة الثانية والعشرين لمهرجان براغ الدولي للأعمال الدرامية التلفزيونية، التي شاركت فيها 45 دولة، وذلك عن دوره في تمثيلية “الهجرة إلى الداخل”، تأليف عبدالوهاب الدايني وإخراج الفنان المعروف خليل شوقي.

ترأس عام 1992 بعثة فنية من فرقة المسرح الشعبي إلى الأردن لعرض ثلاث مسرحيات هي “صراخ الصمت الأخرس″، تأليف محيي الدين زنكنه، و”الأنشودة” تأليف ألكسي آربوزوف، و”ترنيمة الكرسي الهزاز″، وجميعها من إخراج الدكتور عوني كرومي. وفي عام 1993 جرى تتويجه رائدا من رواد حركة المسرح العربي في مهرجان قرطاج المسرحي، وباعتباره شخصية لامعة من شخصيات المسرح العراقي.

من بين الأعمال المسرحية التي أخرجها السعدي: “الدب”، “هاملت عربيا”، “عرس الدم”، “أشجار الطاعون”، “يوليوس قيصر”، “أوديب”، و”رقصة الأقنعة”. ومثّل في مسرحيات: “نفوس″، إخراج قاسم محمد، و”الإنسان الطيب” و”هوراس″ إخراج عوني كرومي، و”عقدة حمار” إخراج فاضل خليل. وفي السينما: فيلم “عليا وعصام” (1948)، إخراج أندريه شوتان، “ليلى في العراق” (1949)، إخراج أحمد كامل مرسي، “سعيد أفندي” (1957) إخراج كاميران حسني، “الجابي” (1968)، إخراج جعفر علي، “المسألة الكبرى” (1982)، و”الملك غازي” (1993)، وكلاهما من إخراج محمد شكري جميل.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.