المقامرة الكونية

الأحد 2018/04/01
لوحة: وليد نظمي

ما معنى أن تربح أو تهزم في عالم اختلت فيه الموازين، وانحطت القيم، وضاعت العلامات، فالطرق متاهات، والعابرون تائهون مؤبّدون في مسالك لا تفضي إلى شيء سوى الجدران. كيف تزن الهزيمة، وكيف تزن الربح وقد اختلطت الأرباح، وعمت الخسارات.

من هم المهزومون ومن هم المنتصرون، عندما يهرق دم الإنسان، ويرتاح المشاهدون من عناء المشاهدة، ويخلّصون ضمائرهم المرتاعة من عقدة الذنب.

تلام الضحية على خطئها، فالضحية، في لغة القوة وثقافتها البذيئة هي صانعة مصيرها الوخيم، لكونها استجابت لنزال مهول لم تقدّر معه حجم قوتها من قوة خصمها الذي صادر حقها في طبيعة وجودها وحقها في الاختيار.

إذ ذاك يبدأ الطقس الكارثي لثقافة القوة؛ يفوز القاتل المستبد بنظرات الإعجاب وصيحات المعجبين. وتفوز الضحية بسخط الساخطين. ولسوف يكون في وسع المنتصر، حتى عندما يكون انتصاره هزيمة نكراء لإنسانية الإنسان، أن يلقي خطبة يسجلها له التاريخ. فالتاريخ أيضا ضحية المنتصرين الهزليين.

أما الضحية الغارقة في دم خسارتها فهي خرساء ودمها أخرس.

***

ما الذي تغير في العالم بعد عشرة آلاف سنة من التطلع الحضاري، وعشرة آلاف سنة من التوحش البشري؟ يشك المرء في أن يكون قد تغير شيء جوهري اليوم في سلوك الإنسان، وكذا في مصائر البشر على ما كانت عليه في عصور بعيدة غابرة لطالما تميّزت بأنها عصور الما قبل. ما قبل الوعي، وما قبل الحضارة.

ما الذي تغير في سلوك الأمم وطباعها ونوازعها وتطلعاتها ما دام المحرك هو نفسه المنطق الغريزي القديم: قوة الغلبة، ولغة الإخضاع بالقوة.

كل ما يجري في العالم اليوم يقول إنّ لا منطق آخر يضاهي منطق القوة العمياء المباهية بقدراتها، وهي تسحق أمامها أجمل ما أبدع الكون: الإنسان!

هل يمكن الحديث، بعد كل ما هجم ويهجم على أعيننا من مآسي البشر في الكوكب، عن ملجأ للحق، في مواجهة القوى المتسيدة الغاشمة، سوى أرض الخوف المنبوشة بيوتها وقبورها بكل ما أبدعته الإمبراطوريات من أدوات الموت؟

بالأمس تباهى قيصر جديد أرسل سفنه وطائراته ومدافعه إلى حوض المتوسط بأنه تمكن من تجريب مئات الأسلحة الجديدة في جسد شعب صغير ووجدها لائقة بقوته، وبسوق السلاح. الذين استنكروا فعلته ووصفوها بالوحشية سبق لهم أن فعلوا الشيء نفسه. وها هو يسائلهم: بأي حق تستنكرون؟

***

قاطع طريق بلباس قيصر في مواجهة صيارفة طردهم المسيح من إنجيله، تعاونوا، مجتمعين، ليرفعوا الشرق كله على صليب الآلام وينذرونه لمرتبة الضحية الكونية.

لم يتغير شيء في هذا الكوكب.

تقدم العالم بمنجزات العلم قرونا عما كان عليه في الأزمنة التي مضت، وها هو بعد عصور البخار والكهرباء والصناعة والذرّة، يصل إلى عصر التكنولوجيا الرقمية. تحوّل التجريد إلى لغة عالمية شاملة يشترك في قراءة رموزها وصورها جميع البشر.

وبعد كل ما أنجزته للبشرية من أدوات يفترض أنها تتيح للبشر معرفة أوسع، وابتكارا أكثر إبداعا وإدهاشا، وتمكنهم من نيل الرفاه الفردي والجماعي، ها هو العالم، في حقيقة الأمر، يواصل انقسامه بين شمال قوي متقدم بنظم حكم ديمقراطية وشعوب حائرة فكريا متخبطة روحيا، وجنوب ضعيف مستفقر بنظم مستبدة ومتخلفة وشعوب جائعة إلى الحرية والخلاص من الاستبداد. ولا يجمع بين الضفتين والعالمين اليوم سوى جشع الشمال ونقمة الجنوب، وانحطاط أخلاقي مستشر، وتقهقر مريع أمام سلطة القوة وهيمنة الاستهلاك وقد بلغا حدود اللامعقول.

في المجتمعات المتقدمة تتفشى الأنانية الفردية، والهروب من الواجب الإنساني بإزاء ما يجري في عموم الكوكب، وفي المجتمعات المحكومة بمنطق القرون الوسطى تسود أخلاق الرعاع الخاضعين لأنماط متلونة من القسوة العمياء، والغيبوبة الفكرية، والتخبط الاجتماعي في أزمات الهوية، والفقر، والاستبداد، والاحتلال، والتشدد الديني، والتخلف العلمي، وغيرها مما ينهش الكيانات القائمة والإنسان.

***

كيف نقرأ النتائج الكارثية للديمقراطية الغربية وهي تُصَعِّد إلى مقاعد الحكم، في أمم عريقة ونظم حكم متقدمة، مسوخا من أمثال ساركوزي وبيرلسكوني وترامب، وماكرون وقبلهم المسخ بلير، وغيرهم من صيارفة الأيديولوجيات المنهارة، من مغامرين لا أخلاقيين، ورجالات مافيا، وعنصريين، وقد انهار الفارق بين اليمين واليسار، وبين الأكاديميا والسوق السوداء، وبين الفكر والاستهلاك.

ألا تشبه اللحظة العالمية اليوم في أزماتها المستفحلة وتخبطاتها المتعاقبة اقتصاديا وفكريا واجتماعيا وروحيا اللحظة التي أنجبت الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا ودكتاتورية البروليتاريا في روسيا خلال عشرينات القرن الماضي؟

لا نشتطّ ولا نذهب أبعد من الواقع في ما نرسم من صور لعالمنا العليل. فالعنصرية تطل برأسها من كل زاوية، والعنصريون يرفعون رؤوسهم من كل جحر، وعمّا قليل ترفرف راياتهم في ساحات العواصم الغربية ويجدون لأفكارهم وتطلعاتهم جموعا حائرة وضحايا طردهم السوق من جنانه، وسلبتهم الأزمات الطاحنة الأمان، ليجدوا أنفسهم، كما وجد أجدادهم أنفسهم، جموعا تصدح بنداءات الغريزة العمياء تحت بيارق الفاشية، وطعاما لخنادق الموت.

***

وعلى ضفة أخرى من ضفاف القوى المتسيدة، كيف نصف حال روسيا الإمبريالية الوليدة وحال العالم الغربي معها، لو احتجنا أن نعثر على توصيف لتلك الحال؟ هل نجانب الصواب إذا ما اعتبرنا الرجل الأول في الكرملين قيصرا فاسدا بنوازع استعمارية، يحكم شعبا من الأقنان المستسلمين لحاكم مطلق كل همه الانتقام من الغرب الذي شجع أسلافه على هدم سور السجن الإمبراطوري البائد الذي كان يسمى الاتحاد السوفييتي؟

إن مشكلة مستنكري أفعال الإمبريالية الروسية المتحدرة من صلب الاتحاد السوفييتي المكسور بمطرقة الرأسمالية، وقد تجلت بأبشع صورها في الأرض السورية المحروقة، أنهم بإزاء نسخة مقلدة لهم، نسخة بذيئة، بخطاب تبريري، تعوزه المسوغات المقنعة، تنظر الثقافة الغربية إليها على أنها نسخة مسروقة ومزوّرة.

أما ضحايا الأرض المحروقة فهم مادة للنهش والابتزاز من كلا الطرفين المتنازعين على الأمم الصغيرة، المضطربة والتائهة، كما هو حال العرب اليوم.

كيف نرى هذا ثقافيا؟ وماذا عن المعرفة التي تنتجها هكذا ظاهرة؟ ماذا عن مستقبل هذا المنتج الفكري والأدبي إن وجد؟ وماذا عن سؤالنا الدائم: أين هي النخب الروسية؟ وأين هم ورثة تولستوي وبوشكين وتشيخوف وغوركي وديستويفسكي وسلوجنستن؟

ما الذي سينتجه العالم اليوم، ونحن نشهد فصلا يشبه احتمال انتصار النازية في الحرب العالمية الثانية؟ كيف كانت الأرض ستبدو حينها؛ الفن والثقافة والفكر والتراث الإنساني؟

***

لقد عبر العالم إلى طور الما بعد، وبات في صيغ ينقصها التعريف، فالما بعد هو غير الما قبل، له صور مشوشة، وليست له صورة واضحة ومعروفة. وبالتالي لن يكون في وسع هذه الصور الجديدة والشبيهة بالشظايا الطائشة أن تنتج المعاني الواضحة.

لسنا في بداية التاريخ ولا في نهايته، ولكننا في منعطف مهول، وعلى مفترق كهذا، لا بد للأمم من إعادة إنتاج المعنى لهذا الوجود البشري في لحظة الما بعد وهي لحظة أشبه بالقيامة.

لا بد من صورة ذات معنى لهذا الما بعد، ولا يمكن لهذه الصورة أن تظهر إلا بإنتاج تسمية تطابق المعنى. ولا يبدو أن هذا ممكن دون مخاض يؤسس لعقد جديد بين البشر تنتجه عقول مضيئة لا عقول شريرة.

والسؤال الآن وإلى وقت سيمتد أطول: أيّ عقد جديد بات على الأمم أن تصوغه لتحمي إنسانية الإنسان من أن ينزلق بحضارته أكثر فأكثر إلى هاوية التوحش والجنون. ما هي القيم التي سيتأسس عليها هذا العقد، وما هي العقول الحرة الجديدة القادرة على إنجازه، وقد هيمن الأقوياء الأشرار صيارفة العالم الجديد، بفضل مصادر القوة والثروة، على بني البشر، وحولوهم إلى أرقام في سوق الربح والخسارة، في ما يشبه مقامرة كونية كبرى؟

عندما تكرّر المأساة نفسها، تصبح مهزلة، هذه مقولة دارجة، ولكن ماذا نسمي الوقائع إذ تكرّر نفسها مرارا في قرن واحد؟ هل من ضوء إذن في نهاية هذا النفق، أم ظلام يلتحف بظلام؟

لندن في مايو/ أيار 2018

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.