عد إلى نزار طفلا
كلما عدت إلى طفولتي متذكرا أقلامي الملونة والألعاب الصغيرة والعفوية، عدت في منتصف الليل أبحث عن نزار في بيوت أصدقائي الكبار حتى أجده صباحا عند أصدقائي الأطفال. نزار الحب ونزار العفوية ونزار الإنسانية، يأتي إلى مدننا فيغير خارطتها ويربك المرور عليها.
أتذكر أنني اشتريت من معرض طهران الدولي سنة 1997 مجموعة شعرية لنزار قباني تقع في 16 كتيبا. كتبت اسمي وعنواني على صفحاتها الأولى، وأنها تختص بمكتبتي، وبعد قراءتها أعرتها لبعض الأصدقاء ليقرؤها لأني وجدت فيها شيئا يعجبهم. وبعد مرور شهر واحد من شرائها لم يبق مجلد واحد أحتفظ به، سألت أصدقائي عنها، فقالوا إن هناك أصدقاء مقربين أخذوها منهم وسوف يرجعونها في أول فرصة ممكنة. وحتى هذه اللحظة، وقد مرت عشر سنوات، لا أعرف في أي بيت هي تلك المجموعة لنزار.
لا أظن أن أحدا في إيران، وفي مدينة الأهواز خصوصا، يستطيع أن يحتفظ بكتب نزار في مكتبته لفترة طويلة إلا إذا كانت مكتبته بعيدة عن الأنظار. نعم إن نزار يتجول في المدن وينتقل بسرعة ويمنح البساطة والرقة والحب بسرعة ليعطي ثقافة معاصرة ونظرة جديدة بالنسبة للحياة، للمرأة، للحب، وللإنسان نفسه.
من لا يقدم ويعطي كتب نزار للآخرين سوف ينتزعونها منه بالقوة، وهكذا رأينا الكثيرين وسمعناهم يرددون أشعار نزار قباني.
إن نزار قباني في الأهواز يختلف تماما عن نزار في بلد آخر، إنه، هنا، فتح مدارس ومعاهد لتعليم الحب وممارسة الحياة، ولم يكتف بهذا القدر، بل إنه غير لغة الغرام وأعطى خطابا جديدا بالنسبة للحياة الاجتماعية والسياسية، ومن الصعب جدا أن يستطيع شاعر آخر أن يجتاح المدينة بهذه السرعة ويسحر أهلها. قلة من شعراء العالم استطاعوا أن يحتلوا مكانا لدى قراء العربية إلى جانب نزار.
عندما قرأت القصائد النثرية والأشعار المعاصرة انتبهت إلى ذكاء كتابها كيف نجحوا في دفن لغة نزار في كتاباتهم، والأفضلية على ما يبدو أصبحت لمن استطاع أن يخبئه بشكل أفضل.
هناك شعراء عرب جدد جاءوا بقصائد تتواكب مع الفكر الحديث، والحياة الحديثة، والتقاليد الجديدة في الكتابة، تفاجأنا بصورها الرائعة والذكية التي ما كنا نشاهدها عند نزار ولا غيره.. من معاصريه، لكن هؤلاء الشعراء الجدد كان لا بد أن يبني لهم شاعر كنزار جسرا من الكلمات الجديدة حتى يعبروا عن أنفسهم، ويكون لهم شعرهم الجديد.
كان نزار مختبرا شعريا مهما أثرى الشعر العربي الحديث والأدب العربي الجديد وشكل بتجربته مساحة لعبور نصوص نوعية أخرى من الشعر إلينا، ولو لم يظهر نزار لما قرأنا أشعارا جديدة، ولما تعرفنا على خطاب جديد في الحب وطفولة أخرى في الكتابة، لهذا أرى نفسي أحب نزار قباني كل يوم أكثر فأكثر، وكلما ابتعدت عن شعره أحسست أنني طعنت في السن، لكن الطفل في شعر نزار يبقى طفلا دائما ومن يريد العودة إليه عليه أن يصغر أولا، عليه أن يؤمن بالطفل فيه.