عمـارة نـزار
مضت عشرين سنة على رحيل نزار قباني، لا يزال الشاعر يقف بعنفوان على منبر الشعر العالي، ولا يزال صوته، بدفقانه السري اللا منقطع، هو الأكثر سطوعا ونفاذا ومسموعية في عالم شعرنا العربي الحديث. بغنائيته الآسرة ومعجمه البسيط اللاذع وحرفيته النادرة، التي تقدم الصنعة الباهرة في شكل سليقة، استطاع نزار قباني أن يؤسس عمارة جمالية متفردة وراسخة في قارة الشعر المترامية.
إن ظاهرة نزار قباني تنتمي إلى مستقبل الشعر وليس إلى ماضيه، لأنها تمكنت من تحقيق معادلات جمالية ونوعية لم تسجل من قبل في تاريخ الشعر العربي الحديث، على أقل تقدير. لقد كسب نزار مجمل الرهانات التي وسمت منجزه الشعري: رهان جماهيرية الشعر، وصفاء اللغة، ورهافة الوجدان، وعدالة قضايا الإنسان والمرأة والحب وحرية الوطن. رهانات أمدت شعره بعناصر الوجود الضرورية وبالشحنة اللازمة التي ضمنت له البقاء والتألق المتجدد في سماء مستقبل الشعر العربي.
الشعر عند نزار قباني «عمل حضاري بالدرجة الأولى». لذلك فهو يوجد في قلب الجدل العمومي والرهان الحضاري على دور اللغة، هذه الأداة الأكثر خطورة، وبناء الشخصية وصوغ الوجدان العام، في اتجاه تسريع وتيرة التمدن والارتقاء بالحس الجمالي والإبداعي للإنسان. والشاعر، من هذا المنظور، صوت ضمن أصوات جماعية، حامل لموقف ورسالة إلى جانب كل من «الرسام بألوانه، والمثال بكتلة الحجر، والموسيقي بأوتاره».
رسالة تدعوه بإصرار إلى الانخراط، من موقعه الجمالي، للدفع بعجلة التطور وتهذيب الذوق وصناعة الجمال الملازم لكل رقي حضاري. المبدعون في نظر نزار قباني، «خلقوا ليزرعوا القنابل تحت القطار العثماني العجوز الذي ينقلنا من محطة الجاهلية الأولى إلى محطة الجاهلية الثانية.
أما الكتاب الذين يتكومون تحت الشراشف، بانتظار رحيل العاصفة، فسوف يبقون معزولين عن قضايا مجتمعاتهم كالدببة القطبية». ذا الوعي الصريح بمسؤولية الشاعر/المثقف، هو الذي جعله يعبر، في أحايين كثيرة، بلغة النثر الجارحة، في وجه العديد من الاختلالات والتشوهات التي أصابت الوعي والممارسة العربيين في محطات حاسمة من التاريخ الحديث. مواقف كشفت وجع الشاعر وتفاعله مع مجريات واقعه الحي بمزاج حاد متحلل من كل رومانسية كاذبة ومراوغة.
لقد فاوض نزار قباني، وهو الشاعر والدبلوماسي المجرب، من أجل أن يبقى الشعر ديوان العرب الأول. والظاهر أنه حقق فتوحات لافتة في هذا المضمار، حيث جعل من الشعر خبزا وموسيقى يومية لكل الناس. لقد صاغ نزار، عبر قراءاته في الشعر العربي والعالمي أسلوبا وسيطا، لا مبتذلا ولا مستغلقا على الأفهام؛ أسلوبا ينتظم في جديلة واحدة ما بين وتيرة حكائية انسيابية وغنائية عذبة، لمس بوساطتها الوتر الحساس لذائقتنا العربية العريقة التي تغذت على عوالم ألف ليلة وليلة العجائبية، وفروسية المتنبي وعذوبة جميل بثينة وأبي فراس الحمداني وسخرية أبي نواس اللاذعة.
على هذا الأساس، تبقى ظاهرة نزار قباني محرضة على السؤال، ومستفزة للمؤسسة النقدية العربية لاجتراح الأسئلة الحقيقية عن تمثلات الحداثة الشعرية العربية ورهاناتها الجديدة وتجريد آليات النقد لتشخيص أسباب نجاح قصيدة نزار فيما فشلت في تحقيقه تجارب شعرية عديدة على مدى عالمنا العربي المعاصر.
وإذا كان من قيمة لمعاودة النظر في الظاهرة النزارية، في اللحظة الراهنة، فهي تكمن في جعلها معيارا لمساءلة الشعرية العربية الحديثة برمتها.