شاعر يأتيك من حيث لا تتوقع
لم أكتف بموقف قار وانطباع واحد عن الشاعر الرّاحل نزار قباني. كانت مواقفي وانطباعاتي متلونة وغير حاسمة. خصوصا وأن الشاعر مبثوث في كلام الجدّات والأخوات، ومردّد بالأسواق أين لا تتوقع وجود ولو كتاب واحد. فهذا الشاعر يكاد يكون الوحيد الذي تسمع صوته مترنّما بثقة في محلات بيع الأسطوانات التي لا تمتّ للشعر بصلة، فمن بين «سامعي» قباني وقارئيه ويا للعجب أولئك الذين يستهلكون ما لذّ وطاب من تلك الأغاني الهجينة.
نزار قباني النجم المتلألئ المقترن بالشعر ما إن يخطر ببال، ولو لدى الشريحة البسيطة، حتى يتزامن ذلك مع الحبّ والمرأة أساسا. هذا الرّجل الذي جعلني أقدم على مغامرات عاطفية شتّى بغية أن ألمس ما لمس هو في المرأة وأن أعيش ما عاش من غنى عاطفيّ. وجعلني أقدم على مغامرة السفر من العاصمة التونسية إلى الوسط بالقيروان لحضور أمسية له وأنا بعدُ طفل صغير، وأن أبيت ليلتي في الطريق الرّئيسيّ تحت شجرة كبيرة أتلهى بصورته اتقاء للبرد.
هذا الرجل الذي قلدته في كتاباتي الأولى الساذجة.
مَن مِن الشعراء الذين جاؤوا بعد قباني لم يتأثروا بسحر بساطته العميقة، ومن لا يسعى إليها لإتمام نضج تجربته؟
قباني ذو الشّعر الذي يجعلك مندفعا مقدما على الأحاسيس كثور هائج. يعلّمك السلوك المرهف والحبّ، يشبه في مخيلتي شخوص الرّوايات الفرنسية القديمة التي تعود إلى العصر الوسيط كرولان (Roland) الفارس البطل الباكي أمام جمال حبيبته، أو شخصية العشاق في أوبرا «بيفاروتّي»، إذ من علامات النبل أن يضعف ويهان الرجل أمام المرأة.
صور قباني كثيرة لكنها متوحدة وسط دائرة كبرى تدعى الجمال.
إنك لا تستحق قراءة قباني بل يأتيك شعره من حيث لا تتوقع؛ تعثر على دواوينه الصّغيرة (التي تشبه الكتب الدينيّة في أشكالها) تحت مخدة أختك المراهقة أو أخيك العاشق. فهذا الرّجل سند العشاق إذ يوفر لهم ما يريدون قوله بالضبط ويعينهم في كتابة رسائلهم المتيّمة. أما كلماته المغناة فلا تملك حدودا فلقد غنى له الكبار كما الصغار ولا أكاد أتوقع فردا يتقن العربية ولو إتقانا بسيطا لا «يرتّل» عليك ما يملأ خمس صفحات من شعره.
الرّجل لا يختلف في انتشاره عن أم كلثوم بل و»تجار الفن» اهتدوا لذلك الأمر فأنجزوا أسطوانة شهيرة بين الصرحين في تخاطب غنائيّ شعريّ.
والشاعر اشتهر بمناصرته للكائن العربيّ الأكثر هشاشة وتأثيرا في سوق القراءة (على اعتبار أن هذا الكائن على ما أعتقد يمثل الشريحة الأكثر قراءة وترويجا لقبّاني) ونقصد المرأة. المرأة الكائن العربيّ الثوريّ الطالع من بيته للتوّ، والذي لا يحاكيك دون الدفاع عن نفسه وعن انتصاره. وجدت المرأة نصيرا رجاليا قويا قوة نزار قبّاني هنا.
وله إضافة إلى ذلك، قصائد وطنيّة مشهورة، منها المغناة وعلى عدم رفعتها -كما يرى البعض- إلا أنها جعلته منافسا لأسماء نعرفها جميعا، قد عُرفت بإنتاجها لهذا الشعر الذي يملك جمهورا واسعا على النطاق العربي.
فالشاعر نزار قباني موجود في كل مكان وأنت تعرفه دون قصد لأنّك لم تعثر عليه في عملية بحث ذاتيّة، بل جاءك للبيت وللبرنامج المدرسي ولصحف بلدك اليوميّة أو في رسالات حبيبتك، وحفظت شعره من أجل الامتحانات أو من غزوه لسمعك الموسيقيّ.
لهذه الأسباب لم أحسم شخصيا في موقفي من شعره ومما يكتب ومن رؤيته.
ككل مراهق عشقته ورددت أشعاره. وككلّ شاعر ربما تململت فيّ غيرة من انتشاره واستحواذه على الذائقة العامة، فأمك تعرف شعر قباني ولا تعرف شعرك. بعدها تحوّل وجه قباني وما يكتب إلى ذكرى جميلة أنظر لها بحنان. مما يجعلني أعتقد أن هذا الشعر شعر مرحلة عمريّة (تكاد تشبه المراهقة) ضروريّ عليك أن تمرّ عليه أو به.
ولطالما تساءلت عن الأسرار الحقيقية التي تجعل هذا الرّجل منتشرا كل هذا الانتشار الخياليّ، ألبساطة في شعره كما يروّج؟ أم لمناصرته المرأة وما يثير هذا الشأن من ضجيج على المستوى العربيّ؟ لماذا لم تنتشر في هذا المضمار نازك الملائكة وسعاد الصباح وغيرهما كثيرات انتشار نزار قباني، وهن نساء يدافعن عن صوت النساء؟
وماذا عن تشابه ما يكتب مع الشاعر الفرنسي بريفير (Prévert)؟
كنت أرى في قباني صورة الشاعر المنشد في سوق عكاظ «أيام الكلاسيكية» العربية مع بعض الاختلاف أهمّها بساطة لغته الشعريّة وطرافته. لا أدري لماذا أرى في قباني صورة الشاعر تلك، مع شك بسيط ما إذا كان أبونواس سيثير نفس الضجة. وهو الشاعر المحاط بحشد من الجمهور العاشق كما بمغنّ شهير، لقد رأيت ذلك خلال حضوري لأمسية أقامها بالقيروان وأنا بعد في مقتبل العمر، أواسط تسعينات القرن الماضي. أيّ جهد خيالي بذله هذا الرجل ليكون بسيطا ومستساغا من كل الأذواق؟ أي تجارب عاش وأي كتب قرأ حتى يشغلنا ويثير في كل مرة دهشتنا؟
لقد عرفنا كلّ كبيرة وصغيرة عن حياة الشاعر نزار قباني، لا من مسلسل بُثّ في جل الشاشات العربية بل من حكاياتنا اليومية. فمن لا يعرف قصص حبه (مع بلقيس مثلا) ونوادره ومواقفه؟
صورة نزار قباني التي ستذكرها بالألوان على الصفحات الأولى من المجلات والجرائد وشعره المكتوب بالخط الغليظ في ذات الجرائد والصحف، صورة تكاد تغازلك بإمكانية نجوميتك في أي لحظة كشاعر أو ككاتب. تطمئنك وتغيظك في ذات الوقت، فهي ما تؤنسك في لحظة لاجدواك ويأسك وتوحي إليك بوجود جمهور الكلمة وهي ما تجعلك تشك في طبيعة العملية الثقافية العربية.
لا أكاد أعتبر الراحل قد رحل. فموته كان سهلا وجميلا كشعره لكني ألاحظ تكاثر مقلّديه منذ رحيله. وأكاد ألمس الضيق الذي أسس فيه قباني تجربته الشهيرة، ذاك الضيق الذي يجعلك أحيانا لا تفرّق بين قصيدة وأخرى للشاعر، فهل تسع المساحة نفسها مقلديه؟
تجربة نزار قباني تجربة وحيدة وعلى حدة مشت على حافة هشة ونجحت، لذلك يصعب تكرارها كالمتنبّي أو كجاك بريفير، ومن هنا يكتسب هذا الشاعر أهميته. وأظنّ أنّ شهرته كانت بنتا لعفويته الشعرية والإنسانية ولحساسيته العالية.
تقترن في ذهني فكرتا الجمال والشهوة مع نزار قباني وأتساءل ما إذا لم يكن من فصيلة عمر بن أبي ربيعة؟ إذ اختار شاعرنا التجوال برفاهية عالية في أنحاء فكرة المرأة، وصبّ عمقه الوجوديّ والشعريّ فيها. المرأة استعارة نزار قباني المدللة والرّئيسية. سافر فيها إلى درجة لم يترك ما يمكن قوله عنها أو بلسانها، وتكلم عن هزاتها وعواطفها حتى تظنه عالما نفسيّا مختصّا في الأنوثة، كما كتب عن الرجل بكل أنماطه وأحاسيسه، وتجد أحيانا كثيرة كلامك في قصائده.