شاعر‭ ‬الحب‭ ‬في‭ ‬قرن‭ ‬العواصف

الثلاثاء 2018/05/01

في جنوب‭ ‬العراق،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬الحياة‭ ‬بساطة‭ ‬منعشة،‭ ‬بين‭ ‬الخضرة‭ ‬والماء‭ ‬والنخيل،‭ ‬حين‭ ‬تصلنا‭ ‬بعض‭ ‬الكتب،‭ ‬تكون‭ ‬مهمة‭ ‬صعبة‭ ‬للفيف‭ ‬من‭ ‬الأصدقاء،‭ ‬إذ‭ ‬عليهم‭ ‬نقلها،‭ ‬أو‭ ‬نسخها،‭ ‬كلٌ‭ ‬ينسخ‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬باليد‭. ‬فيكون‭ ‬الكتاب‭ ‬ملكنا،‭ ‬نتناقله‭ ‬بحرية،‭ ‬وسوف‭ ‬نرجع‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬إلى‭ ‬صاحبه،‭ ‬الذي‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬جلبه‭ ‬من‭ ‬بغداد‭. ‬أيّة‭ ‬عاصمة،‭ ‬منبر‭ ‬للكتب‭ ‬والغموض‭ ‬بالنسبة‭ ‬لنا،‭ ‬والبعد،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬أحد‭ ‬الأصدقاء،‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬يسافرون،‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬السنة،‭ ‬أفتى‭: ‬حتى‭ ‬طابوق‭ ‬البناء‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬الطابوق‭ ‬هنا،‭ ‬في‭ ‬الجنوب‭.‬

ومن‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬استنسخناها،‭ ‬كانت‭ ‬كتب‭ ‬نزار‭ ‬قباني،‭ ‬صغيرة‭ ‬القطع،‭ ‬وملونة‭. ‬وحين‭ ‬جاء‭ ‬أحد‭ ‬الأصدقاء،‭ ‬بعد‭ ‬عودته‭ ‬من‭ ‬بغداد،‭ ‬بكتاب‭ ‬أوراقه‭ ‬زرقاء‭ ‬فاتحة‭ ‬وقال‭ ‬«إنه‭ ‬ملكنا‭ ‬اشتريته‮»‬،‭ ‬كانت‭ ‬أعجوبة؛‭ ‬سفره‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬أولا،‭ ‬وكيف‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬النقود‭ ‬لشرائه‭ ‬ثانيا‭. ‬كنا‭ ‬نحب‭ ‬نزار‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬فقر‭ ‬هادئ،‭ ‬لنا‭ ‬ما‭ ‬نلبس،‭ ‬وما‭ ‬نأكل‭. ‬إلا‭ ‬الكتب،‭ ‬كل‭ ‬بيت‭ ‬فيه‭ ‬مكان‭ ‬للكتب،‭ ‬وأي‭ ‬مكان‭! ‬حيث‭ ‬نستقبل‭ ‬الضيوف،‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬الضيافة،‭ ‬حيث‭ ‬يكون‭ ‬النقاش‭ ‬مفتوحا،‭ ‬وأفضلنا‭ ‬صوتا‭ ‬يقرأ‭ ‬لنا‭ ‬الأشعار‭. ‬ويتعجب‭ ‬الإخوان‭ ‬الكبار،‭ ‬من‭ ‬دأبنا‭ ‬على‭ ‬نقل‭ ‬الكتب،‭ ‬وخصوصا‭ ‬أشعار‭ ‬نزار‭ ‬قباني،‭ ‬وآرثر‭ ‬رامبو،‭ ‬وت‭.‬س‭. ‬أليوت‭.‬

في‭ ‬مغامرة‭ ‬الحب‭ ‬كان‭ ‬نزار‭ ‬سيدا‭ ‬لنا‭ ‬ومرشدا؛‭ ‬إذ‭ ‬أصبحنا‭ ‬نكتب‭ ‬رسائل‭ ‬الحب‭ ‬للأصدقاء‭ ‬في‭ ‬المجلة‭ ‬الهادئة،‭ ‬رسائل‭ ‬ربما‭ ‬تصل‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬تصل،‭ ‬نكتبها‭ ‬ونحن‭ ‬نجلس‭ ‬شلة‭ ‬صغيرة‭ ‬تحت‭ ‬أضواء‭ ‬المصابيح‭ ‬الكابية‭. ‬وعلينا‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬حذرين،‭ ‬لأننا‭ ‬لو‭ ‬تأخرنا‭ ‬بعد‭ ‬التاسعة‭ ‬مساء،‭ ‬سنكون‭ ‬عرضة‭ ‬لمضايقات‭ ‬الشرطة‭. ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬السبعينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬ومع‭ ‬هذه‭ ‬الأشعار‭ ‬كنا‭ ‬نتقبل‭ ‬بساطة‭ ‬الحياة،‭ ‬وقترها‭ ‬علينا‭.‬

وحين‭ ‬وصلنا‭ ‬مراحل‭ ‬الإعدادي،‭ ‬كانت‭ ‬نقاشاتنا‭ ‬تختم‭ ‬بقراءة‭ ‬لإحدى‭ ‬قصائد‭ ‬نزار،‭ ‬وكأنه‭ ‬السلام‭ ‬الجمهوري‭ ‬الخفي‭ ‬لشلتنا‭ ‬التي‭ ‬تحب‭ ‬دوستويفسكي‭ ‬وأندريه‭ ‬مارلو،‭ ‬وأنا‭ ‬كارنينّا‭.‬

ومع‭ ‬نزار‭ ‬كنا‭ ‬نحمل‭ ‬ديوان‭ ‬شاعر‭ ‬عراقي‭ ‬آخر‭ ‬هو‭: ‬محمد‭ ‬مهدي‭ ‬الجواهري‭.‬

‮ ‬حييتُ‭ ‬سفحكِ‭ ‬عن‭ ‬بعدٍ‭ ‬فحييني‭/ ‬يا‭ ‬دجلة‭ ‬الخير‭ ‬يا‭ ‬أم‭ ‬البساتينِ‭/.‬

وحين‭ ‬جاء‭ ‬الشاعر‭ ‬محمد‭ ‬حمد‭ ‬بأول‭ ‬طبعة‭ ‬كبيرة،‭ ‬أعتقد‭ ‬ذلك،‭ ‬لأشعار‭ ‬الجواهري،‭ ‬أعلن‭ ‬«وجدت‭ ‬الإنجيل‭ ‬الثاني‭ ‬يا‭ ‬إخوان‭!‬‮»‬‭. ‬ومن‭ ‬فوق‭ ‬الجسر‭ ‬الحديدي‭ ‬العالي،‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬العمارة،‭ ‬فوق‭ ‬دجلة،‭ ‬يأخذ‭ ‬بقراءة‭ ‬إحدى‭ ‬القصائد‭.‬

كنا‭ ‬نلتهم‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬على‭ ‬الورق،‭ ‬حتى‭ ‬الفيزياء‭ ‬والكيمياء،‭ ‬والفلك،‭ ‬والعلوم‭ ‬الأخرى‭. ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬نضاهي‭ ‬مثقفي‭ ‬المدينة‭ ‬الغامضة‭: ‬بغداد‭. ‬عاصمة‭ ‬المأمون،‭ ‬والبحتري،‭ ‬وحنين‭ ‬بن‭ ‬اسحق،‭ ‬وابن‭ ‬الهيثم‭ ‬والكندي،‭ ‬وإلى‭ ‬آخر‭ ‬المبدعين‭ ‬في‭ ‬البلد‭ ‬الحزين‭: ‬العراق‭. ‬نحن‭ ‬الريفيون،‭ ‬هكذا‭ ‬كانوا‭ ‬يسموننا‭ ‬سخرية،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬الأخير،‭ ‬وفي‭ ‬المنفى‭ ‬وجدت‭ ‬أن‭ ‬العراق‭ ‬الحقيقي،‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬غاندي‭ ‬عن‭ ‬الهند،‭ ‬هو‭ ‬القرى‭.‬

وكبرنا‭ ‬في‭ ‬الزمان،‭ ‬وهربنا‭ ‬خارج‭ ‬الوطن،‭ ‬من‭ ‬العنف‭ ‬السياسي،‭ ‬فضاعت‭ ‬منا‭ ‬الكتب،‭ ‬وشبكتنا‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬أوروبا،‭ ‬في‭ ‬الجوع‭ ‬والتشرد‭. ‬وكم‭ ‬نمت‭ ‬في‭ ‬حدائق‭ ‬فيينا‭ ‬أيام‭ ‬الصيف،‭ ‬تحت‭ ‬سماءٍ‭ ‬رحيمة،‭ ‬لكن‭ ‬دأبنا‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬لم‭ ‬يبطل،‭ ‬وصرنا‭ ‬نمتلك‭ ‬شهادات‭ ‬عديدة‭. ‬ومع‭ ‬اكتشاف‭ ‬عالم‭ ‬الأوبرا‭ ‬والموسيقى‭ ‬الكلاسيكية،‭ ‬تطوّرت‭ ‬ذائقتنا‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬الأشياء‮…‬‭ ‬وجد‭ ‬أحد‭ ‬الأصدقاء،‭ ‬وهو‭ ‬الشاعر‭ ‬صلاح‭ ‬الحمداني،‭ ‬أشعار‭ ‬نزار‭ ‬قباني،‭ ‬بعد‭ ‬عشرين‭ ‬عاما،‭ ‬وأخذ‭ ‬يقرأ‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬الترام‭ ‬أو‭ ‬قطار‭ ‬المدينة‭ ‬بعض‭ ‬أشعاره‭. ‬صمتنا‭ ‬مع‭ ‬صخب‭ ‬باريس،‭ ‬ونحن‭ ‬نسترجع‭ ‬ذاك‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬تعيد‭ ‬طراوته‭ ‬وحلاوته‭ ‬أشعار‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭.‬

نظر‭ ‬إلينا‭ ‬صلاح‭ ‬وقال‭ ‬بابتسامة‭ ‬حزينة‭ ‬«حقا‭ ‬أنه‭ ‬لشاعر‭!‬‮»‬‭.‬

في‭ ‬اللغة‭ ‬البسيطة‭ ‬التي‭ ‬يفهمها‭ ‬ابن‭ ‬الشارع،‭ ‬وُهب‭ ‬نزار‭ ‬موهبة‭ ‬كبيرة‭ ‬فجّر‭ ‬كوامنها‭ ‬وتحدث‭ ‬عن‭ ‬الحب‮…‬‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬كانت‭ ‬الذئاب‭ ‬تترصدنا‭ ‬فيه‭ ‬مثل‭ ‬الحملان‭ ‬الذاهلة‭.‬

وفي‭ ‬أعوام‭ ‬التسعينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وحين‭ ‬جاء‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭.. ‬مدعوا‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬المركز‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬بروكسل،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬بداية‭ ‬أعوام‭ ‬التسعينات،‭ ‬تعجب‭ ‬مسؤول‭ ‬المسرح‭ ‬الفلاماني،‭ ‬وسألني‭ ‬«كل‭ ‬هؤلاء‭ ‬البشر‭ ‬لشاعر‭ ‬واحد،‭ ‬لن‭ ‬يحدث‭ ‬ذلك‭ ‬لأيّ‭ ‬شاعرٍ‭ ‬في‭ ‬بلجيكا‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬هيكو‭ ‬كلاوس‮»‬‭. ([‬1‭])‬

«نعم‭ ‬لأنه‭ ‬يحدثنا‭ ‬عن‭ ‬الحب‮»‬‭ ‬أجبته‭ ‬بهدوء‭.‬

كان‭ ‬الجمهور‭ ‬يكتظ‭ ‬خارج‭ ‬قاعة‭ ‬المسرح‭ ‬الملكي،‭ ‬من‭ ‬مثقفين‭ ‬ودارسين‭ ‬وبائعي‭ ‬السيارات،‭ ‬وأصحاب‭ ‬دكاكين‭ ‬الخضار‭ ‬والفاكهة‭. ‬وأنا‭ ‬أيضا‭ ‬وواحد‭ ‬من‭ ‬الصحب‭ ‬القدامى‭ ‬أيام‭ ‬الوقوف‭ ‬على‭ ‬الجسر‭ ‬الحديدي‭ ‬العالي،‭ ‬هو‭ ‬المصور‭ ‬الفوتوغرافي‭ ‬كريم‭ ‬حسون‭.‬

‭([‬1‭]) ‬هيكو‭ ‬كلاوس‭: ‬كاتب‭ ‬بلجيكي‭ ‬مهم،‭ ‬رشح‭ ‬لجائزة‭ ‬نوبل‭. ‬توفي‭ ‬بداية‭ ‬سنة‭ ‬2008‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.