هالة المستبد وقناع المثقف وفراشة الحرية

الجمعة 2015/05/01

كل كتابة نقية تبدأ من ورقة بيضاء، لكن هذا لا ينطبق على الكتابة العربية، اليوم، مادامت صفحة القدر العربي، منذ الآن وإلى وقت طويل، ستكتب يوميا بالدم، تكتب بالبراميل المتفجرة، وتكتب بالجرافات. تكتب بألسنة النار، وتكتب بالمعاول التي تحفر الأرض، لتودع في أعماقها المضطربة مزيداً من البشر الذين التهمتهم نيران الاستبداد، وأكلتهم خيام اللجوء، ولفظتهم بحار الهجرة.

لا كتابة، سوف تصدر بعد الآن، وإلى وقت طويل، عن المخيلة الشخصية للكاتب العربي، مادامت مخيلة الخراب الجماعي هي من يبتكر صفحات الأيام وحبر الكتابة.

لم يعد في حياة العرب، أشخاصاً، ما هو شخصي. العالم العربي مشرقاً ومغرباً، ومعه الكوكب، يابسة وبحراً وهواء، بمآسيه التي تتوالى سطوراً سريعة في نشرات الأخبار، يهجم على غرف نوم الأشخاص، بالفؤوس والبلطات وبالصور تقطر دماً، فيسكن في حدقات عيونهم، ويطبق على صدورهم. وبين موجة حارة يرسلها حريق منزل مقصوف بطائرة، وموجة باردة تحمل أجساد مهاجرين ملفوفين بطحالب البحر، وتلقيهم في الأسرّة، لن يبقى لك أيها العربي، كاتباً ومكتوباً، في غرفتك العزلاء على خارطة عالمك المحترق، لغة أخرى غير لغة الموت الجماعي. فلا هواء آخر يمكن أن يلفح وجودك الشخصي، وتتنفسه رئتاك، سوى هواء الموت.

***

ماذا تكتبُ الكتابةُ بالحبر، وقد سال حبر الحاضر العربي دماً؟ وماذا يقول الكاتب لمخيلته وقد بات، هو نفسه، جثمانا ممدداً بين جثامين أكلها العقاب الجماعي، وراحت أخيلة العنف وأخيلة الاستبداد تتباريان في مضاهاة مخيلته، وفي ابتكار الحادثة ولغتها، والصورة ومجازها. فلا يبقى من قلم يكتب في لغة العرب سوى قلم الاستبداد، ولا كتابة إلا كتابة الهول.

ولا مصير للجماعة، بعد هلاك فردانية الفرد ودفنه في قطيع من الأضاحي، سوى الغياب في طابور الفظاعات، والظهور في سجلات الهالكين.

وهكذا تمحو الكتابة كاتبها الفرد، وتُظَهِّرُ الكاتبَ الأوحد للمصائر؛ الطاغية بعينه الوحيدة، وأسطورته التي لا تقبل بديلا عن بلاغة الجريمة؛ الخضوع أو الموت.

***

من قبل كانت المأساة المجازية تكتب نفسها في ثقافة ظلّت تطلب الانشقاق قبل أن تحصّل الانسجام، وتسعى وراء الشرخ قبل أن يكتمل المعنى.

فإذا ما تكشف لأهل الجزيرة الطاعون الذي كان قد فشا فيهم عقودا، وكانوا قد غفلوا عن ظهور عوارضه فيهم، واستناموا، إلى أن طافت على صور الأشياء صورته، وطغت على الأحياء والموتى، وراح يلتهمهم كما فعلت السعلاة في كتبهم القديمة، هبّوا، من حيث تقهقر سراتهم، أو هم ظهر لهم أنهم أيتام لا سراة لهم.

فصاروا جمعاً في مهب دموي سمّاه من سمّاه ربيعا، ورأى فيه غيره ملحمة وانتفاضة، وقيل ثورة، فشتاء دمويا، وحرباً ضروسا بين أسباب الموت وأسباب الحياة، من ثم، كما نرى اليوم في الصور، تغريبة كبرى لا سابق لها. ولكل أمّة من أمم الأرض لها سهم في حوادثها وأهوالها.

***

هناك، على أرض المحو، حيث لا كتابة أخرى سوى الملحمة ووقائعها، ظهر من يصرخ، ومن يخبر، ومن يصف، ومن يدوّن في الدفاتر، ومن يقطف من شجر مرّ ثماراً ويرمي للتائهين في التغريبة.

لم يشغل أهل المصيبة أسبابها، أكثر مما شغلهم مصابهم بها وسعيهم إلى الخلاص. ولربما بدا لهم ترفاً أن يلجأوا إلى الوصف، بينما هم في النوازل.

هنا، عند هذا المفترق، من قدر الضحية، ولّدت المصائرُ صانعيها، والمهمات الجسيمةُ أيقوناتها، والبطولةُ أبطالها القادمين من الظلال، والملحمة منشدها المبصر.

وهكذا لم يصمت القلم، كما خيل للبعض، منا ممن ظن أن انتفاضات الحاضر أخرست القلم، ولكنه أبدل صورته.

لم تعد للكتابة صورة واحدة، أو وحيدة كما أرادت لها ثقافة الاستبداد، ولكن صارت لها في العربية صور شتى كما يليق بالكتابة، وكما يقتضي الحال.

***

في الحالة الجديدة صارت الكتابة تنتج المعنى وتؤجل ظهور السطور. وتنتج الصورة وتؤجل الخلاصة.

لم يعد الاستبداد مالك الكتابةَ والكِتاب والكاتبَ، تشققت تماثيله ونصبه عن المعنى الكامل، وتشققت في الكتابة أقنعة الكاهن والمخبر والبطريرك، فإذا بالمستبد وكاتبه معه دودة اللغة ليس إلا.

ولكن من اليرقة البائسة التي عاشت في الظلال مرذولة من حاملي المصابيح، وكاتبي المعاني، ومؤرخي الجمال؛ من دودة الظل الأليم ورطوبة البؤس تلك خرجت الفراشة المدهشة، فراشة الكتابة، وفراشة الحرية.

***

لنصف قرن وأكثر صادر الطغيان العربي الكتابة بشتى السبل، وعندما تمرّدت أسباب الحياة على أسباب الموت، وتدفقت دماء الحرية في شرايين البشر الذين استعبدهم الطغيان وسجنهم في كهوفه، أراد الطاغية من أقنعة الكتابة أن تكون أقنعته، فافتضحت أسماء وتهاوت أسماء في الثقافة العربية، كان جيل من المخدوعين اعتبرها عناوين لمغامرته الفكرية وولعه بالجمال الجديد.

وهكذا تشققت مع تماثيل الطاغية تماثيل أقنعته من الشعراء والأدباء وأهل الفكر، ممن اعتاشوا سراً وعلانية على العلاقة الملتبسة بين الحاكم الشمولي والمثقف الحداثي، ومن صفاته أنه النرجسي، الأقلّوي، المنشق المزيف، الذي لم يكن انشقاقه إلا تعالياً على المجتمع، واغترابا في فراغ سرعان ما قاده على قدميه الخفيفتين إلى بيت الطاعة.

لم يتنبه المؤرخون إلى أن جيل الشوارع العربية الغاضبة أنجز من المراجعات النقدية في خمسة أعوام ما لم ينجزه الوعي النقدي العربي في قرن من الزمان. فقد أسقط، في حركة تاريخية بارعة، الهالة عن الاستبداد، والقناع عن كاتبه، وجعلهما سطرين في جملة ميتة تنتمي إلى ماض ميت.

***

طوبى للكتابة الجديدة، كتابة المستقبل، المكتوبة بالدم قبل الحبر، فهي اليوم في أبهى صورها، لكونها كتبت التاريخين معاً؛ تاريخ الطغيان وتاريخ الكتابة، وشرعت نوافذ الحرية على هواء العالم، وأبواب اللغة على شتى المراجعات، ليبدأ، منذ الآن، في الثقافة العربية تاريخ جديد من وعي الذات ووعي العالم. الذات بوصفها فرداً لا يقبل الصرف، بعد اليوم، في قطيع يسيره راع خائن، والعالم بوصفه كلّ إنساني.

بالجدة والابتكار تنتصر الكتابة لنفسها. هنا يكون المفترق بين ماضي اللغة ومستقبلها. ويكون الحد الفاصل بين حاضر ينشق على نفسه ليكتب بالمأساوي قدَرَه، ويخط السطور الأبلغ في ملحمة الخروج من الكهف.

لندن في 23-4-2015

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.