التمثال

الجمعة 2015/05/01
رسمة لنهاد الترك

بابتسامة مصطنعة تفضح أسنانه المتسوسة، لوّح لزوجته وابنه مودّعاً إياهما من نافذة بيتهم في الطابق الثاني، إلى أن استقلّا سيارة أجرة لتمضي بهما بعيداً.

عندئذٍ.. التقط الدكتور هاني هاتفه الجوال، ليتصل بنسرين وهو يرمق بلهفةٍ شرفتها المقابلة تماماً لنافذته.

بعد دقيقة كادتْ روحه خلالها تطلع من أنفه، طلعتْ نسرين ابنة الجيران إلى الشرفة بوجهها الجميل والشاحب، وعندما شاهدته وضعتْ هاتفها الجوال على أذنها لتردَّ على اتصاله:

ـــ وأخيراً ذهبتْ زوجتي إلى بيت أهلها ولن تعود حتى الصباح كما أخبرتك..

قال لها وهو يغمزها بعينه اليمنى، فأجابته بصوتها الهادئ:

ــ لا مشكلة.. أنا قادمة..

ــ المهم أن لا ينتبه والداك لخروجك من المنزل..

ــ أخبرتُهما أنّي أريد النوم باكراً من أجل امتحان الغد.. ثم هما ينامان باكراً.. وإن حدث أي شيء ستتصل بي أختي فوراً..

ــ إذن أنتظرك.. لا تتأخري.

ــ قبل أن تغلق الخط.. أرجوك، قلّ لي إنك تحبني..

ــ طبعاً أحبك.. وأموت بك أيضاً.. هيا حبيبتي.. لا تتأخري..

أغلق الخط وهو يبتسم لها، فابتسمتْ بتعبٍ يشي بكثير ٍمن الألم الذي ينهش روحها منذ أشهر، ثم غادرتْ شرفتها.

هو لا يحبها، كل ما في الأمر أنه معجبٌ بتفاصيل جسدها الأنثويّة، التي لا تزال تثير شهواته منذ شهرين عندما انتقل ليسكن في هذا البيت الجديد، هرباً من حيّه القديم، الذي دمرته الحرب بين القوّات الحكوميّة وقوات المعارضة.

الدكتور هاني بطبيعته وقبل أن تبدأ هذه الحرب المجنونة، ما كانت تروق لمزاجه طالبات الجامعة أبداً، إنما كان يمارس متعه وأهواءه مع فتيات الغرف المفروشة والأندية الليلية، لأنهنّ أكثر خبرة.. ومختصّات بالإثارة وفنونها، وليس هنالك تكلّف أو أيّ مبرّر للتحدث عن أشياء معهنّ يشعر بأنها تافهة للغاية كمواضيع الحب والأغاني والأبراج و…

لكن وبسبب هذه الحرب المشؤومة، أُغلقتْ كل النوادي الليلية وشقق المتعة، مما جعله مضطراً لأن يرمي شباكه على المراهقة نسرين، وهو مضطرٌ لأوّل مرّة في حياته أن يتحدث عن الحب مثل المسلسلات الكلاسيكيّة التي يكرهها، حتى يحصل على جسدها الجميل، فيروي عطش شهواته التي حرمتها الحرب من مائها لعدة أشهر.

رغم أن جسدها الذي يفوح أنوثة كقطعة حلوى طازجة جاهزة للالتهام كما كان يتخيّل، إلا أنه لم يحب شخصيتها الرومانسية جداً وكأنها نص ٌعتيق يشوبه خطأٌ نحويٌّ فادح.. ألا وهو ذلك الخجل عند نسرين، الذي لم يعتد عليه أبداً عند بائعات الهوى.

إنّها مثل أغلب الناس من حوله.. كلما اتصل على جوالها، أو التقى بها خلسة في الحديقة القريبة من بيتهما، تحدثه وبحزن عن الحرب وأهوالها، عن هلوساتها وكوابيسها، وثمّة خوفٌ عارمٌ ينهمر من عينيها. يراوده شعور بأن ذلك الخوف العميق في روحها هو ما أجبرها على أن تحبه وتتعلق به.. فالإنسان في حالات الخوف ــكما قرأ في إحدى الدراسات النفسيةــ يحاول عاطفياً أن يتعلق بقشّة كي لا يهوي في أعماق كوابيس لا نهاية لها.

وأيضاً، عدم قدرتها على الرجوع إلى جامعتها في العاصمة، حيث يوجد أصدقاؤها الذين من عمرها، بسبب سوء أحوال الطرقات بين المدن التي عصفتْ بها أهوال الحرب. هذا الشيء جعل حياتها فارغة فأرسلهُ القدرُ لها لتتعلّق به، فكان بمثابة الفرصة الوحيدة التي أتيحتْ لقلبها في هذه الفوضى المميتة. هكذا حلّل الدكتور هاني، ومع أنّه يعيش في نفس الحرب التي تعيش بها نسرين وبقيّة الناس.. لكنّ خوفه منها كان أقل، يكاد لا يذكر.

عندما رنّ جرس بيته، كان قد انتهى من إعداد الطاولة في غرفة النوم بما يليق بسهرة ٍحمراء صاخبة. طبقٌ منوّع الفواكه، وزجاجة نبيذٍ غالية الثمن، وكأسان جميلان، وعلبة ُسيجار ٍفاخر.

أسرع إلى الباب وفتحه، لتدخل نسرين وهي ــكعادتهاــ تبتسم له بشحوب، ثم ناولته بخجل وردة وكتاباً.

ـــ هذه رواية جميلة أحببت أن أهديها لك.. إنها…

في حياته لم يقرأ رواية، هو أصلاً يعتبر أن كتابة وقراءة الروايات مهنة من لا مهنة له، قاطعها بأن أخذهما منها ليضعهما بلا مبالاة على خزانة الأحذية.

جوعه لم يمهله حتى يشكرها على هذه الهدية، التقطها على عجلٍ من معصمها وأخذها إلى غرفة النوم.

بجانب الطاولة وقف أمامها ليتأمل عينيها لهنيهة، امتعض في سرِّه من ذلك الحزن العميق في عينيها، فهرب إلى رقبتها وراح يقبلها بنهم.

الساعة المعلقة على الجدار كانت تشير إلى الثامنة والنصف مساءً عندما دوّى من بعيدٍ صدى انفجارٍ ما، تلتهُ رشقاتٌ متقطعةٌ من الرصاص، فجفلتْ نسرين.

لم يهتم لأمر الانفجار، إنما ظلّ منهمكاً باستباحة رقبتها الشهية، مالتْ إلى أذنه وهمستْ بصوتها المخنوق:

ـــ أكيد أن هذا الانفجار قد قتل الآن طفلاً صغيراً كان يكتب وظيفته المدرسية و..

برودة جسدها على إثر شلال قبلاته، وكلامها هذا جعلاه يتوقف عن تبليل رقبتها بلعابه حيث زفر بحنق وقاطعها قائلاً:

ـــ انسي هذه الحرب.. انسي الآن كل العالم.. واستمتعي فقط..

ـــ هل تفكر في الموت مثلي؟ هل تطاردك في نومك كوابيسٌ معتمة؟ الموت يعيش في خيالي.. وأنا أيضاً أعيش في خيال الموت.. قلبي يموت كل يوم ألف مرّة، قلب الموت زنزانةٌ ضيقة ومعتمة، سجنتنا بها الحرب، أشعر بأنّ هذه الحياة ليست حقيقية، تبدو لي وكأنها وهم.. أشعر بأنها مجرَّد كذبة..

باحتْ له وحروفها تختنق في حلقها، فتأفّف منها ومن كلامها الذي بدا له وكأنه طلاءٌ أسودُ يلوّث طبقَ الفواكه، لم يأبه لأسئلتها التي عكّرتْ له مزاجه نوعاً ما، إنما شرع يعبث بأزرار فستانها وهي تردف له:

ـــ أرجوك، أريد إنساناً واحداً في هذا العالم يصغي إليّ، أرجوك اسمعني أنا خائفة و..

كانت تريده أن يصغي لنشيج قلبها، قلبها الذي كان يخفق الآن خفقات مضطربة وثمَّة وهنٌ هائل يلوِّن ملامح وجهها الوديع، بينما هو كان يتأمَّل بشهوة ذلك المفرق الذي يفصل بين نهديها الناعمين، تمتم لها وهو يمصّ شفته السفلى:

ــ أنا أسمعك حبيبتي.. لا تخافي، الحرب مجرد إعلان ٍ تافه يقطع مشاهد مسلسلٍ جميل سرعان ما ينتهي..

شرع بتعريتها من فستانها وهي مستسلمة ٌليديه، وكأنها مجرد دمية، همستْ بوجع له وكأنها في عالم آخر، غير منتبهةٍ لأنفاسه الحارة:

ـــ الموت يتجوَّل كشبح بشع ٍفي ليل المدينة.. يخطف الأطفال، يحرق البيوت، يخرب الحدائق، يلوث الهواء، صوته مخيفٌ وهو يرقص فوق الأنقاض والجثث، هو وحده الحقيقة، نحن أكاذيب والحياة مجرد كذبة.. أشاهد الموت كل ليلة في نومي.. أشاهده في فنجان القهوة.. في المرآة.. وفي الكوابيس أرى نفسي أشلاء ممزّقة ومبعثرة في فراغ أسود لانهاية له.. أقسم لك، في كل مرة أنظر فيها إلى المرآة لا أشاهد نفسي أبداً، وإنما أشاهد قبراً مخيفاً…

كان قد عرَّاها من فستانها، الذي سقط أرضاً، وهي تبدو كأنها روح ٌ مخمورة ترتجل أوجاعها، روحٌ تحتضر على بقايا خشبة مسرح ٍ مهجور.

شهق وعيناه تتسعان وهو يرمق بنهمٍ نهديها الصغيرين من أسفل قميصها الداخلي ذي الحرير الشفاف، ومقلتاه تكادان تخرجان من محجريهما.

مدّ يده إلى نهدها ولعابه يسيل على شفته السفلى، تمتمتْ له بحنين عذب:

ـــ ما هي الأغنية التي تُحبها؟

لم ينتبه لسؤالها، كل خلايا عقله كانت تلهو على حلمتها، أردفتْ:

ـــ أنا الأغنية التي تحبك…

وضع يده على نهدها الصغير من فوق قميصها ثم عصره بقوة بأصابعه الشبيه بأنيابٍ مفترسة، وكأنّه برتقالة صغيرة، فسالتْ من عينها دمعة أخرى

فجأة ً، تناهى لأذنهما صوت باب المنزل وهو يفتح ويغلق، ثم صوتا زوجته وابنه يعلوان في المدخل.

صعقتهما المفاجأة التي لم يظنا أبداً أنها قد تحدث، شهق الدكتور هاني وهو يهمس مذهولاً:

ـــ جاءت زوجتي!!

نسرين وبقميصها الداخلي كاد يغمى عليها من شدة الخوف عندما سمعتْ صوت زوجته، ودون تفكير أسرعتْ كمجنونة لتقفز إلى الكرسي وهي تنوي أن ترمي بنفسها من النافذة إلى الشارع حتى لا تراها الزوجة.

في ذات اللحظة دخلتْ زوجته إلى غرفة النوم، وهي تخلع معطفها بنزقٍ حاد. استدارت إليها نسرين من فوق الكرسي، ومن هول المفاجأة.. ذلك الخوف العارم جعلها تتجمّد في مكانها، وهي تنظر إلى الزوجة وكأنّها تمثالٌ نحته الخوف.

تأفّفتْ زوجته وهي تقول له بانزعاج ٍ بالغ:

ـــ لم نستطع الوصول لبيت أهلي حاولنا كثيراً، لكن كل المداخل إلى حيّهم مغلقة بالحواجز الأمنية، ويمنعون أيّ شخص من الدخول أو الخروج حتى يفتشوه..

مثل أبله ٍ كان أمامها وهو لا يعرف بماذا يجيبها، نسي كلّ اللغة في هذه الدقيقة. لمحتْ زوجته الطاولة والفواكه والنبيذ والسيجار.. ابتسمتْ وهي ترتدي ثوب النوم ثم قالتْ له:

ـــ يبدو أنّك قد أعددت لنفسك سهرة جميلة يا خبيث..

ضحكتْ، سرعان ما صمتتْ وهي ترمق باستغراب نسرين فوق ذلك الكرسي.


رسمة لنهاد الترك

الدكتور هاني.. قلبه سقط بين رجليه، وأيقن في هذه الثانية أن حياته الزوجية قد انتهتْ.

اقتربتْ زوجته بفضول من نسرين وتأملتها لبرهة وهي تحك خدّها، ثمة انبهارٌ خطف روحها، فابتسمتْ ثم قالتْ:

ـــ متى جلبتْ هذا التمثال الجميل؟ أليست هذه هي آلهة الحب عند.. عند.. عند.. ذلك الشعب القديم..

سؤالها الغريب حلَّ عقدة لسانه، فأجابها بحروفٍ متلعثمة وهو يركل خفيةً فستان نسرين برجله إلى أسفل السرير:

ـــ نعم حبيبتي.. إنها آلهة الحب عند الفينيقيين…

تأملته من عدة جهات وعيناها لم تشبعا من جمال هذا التمثال… ثم تمتمتْ له:

ـــ شكراً يا زوجي العزيز.. كم أنت رائع.. رغم هذه الحرب القاسية لا يغيب عن بالك حبنا الجميل، ودائماً تفضّل مفاجأتي بهداياك الرائعة، هذا التمثال تحفة حقيقية… سينبهر به كل من يزورنا.. لكن، غداً علينا نقل هذا التمثال إلى غرفة الضيوف، لنضعه في الزاوية، وأنا سأجلب قطعة قماشٍ من المخمل وأضعها هنا على الكتف…

استدارتْ إلى زوجها، ثم حضنته بذراعيها وهي تقبِّله، همستْ له بخبثٍ مع غمزةٍ من عينها:

ـــ سأذهب لأضع رامي في سريره.. وعندما أرجع سنسهر مع نبيذك سهرة جميلة. تستحق حبيبي ليلة كلها حب، على هذه الهدية الرائعة…

خرجتْ زوجته من الغرفة وهو لا يفهم بشكلٍ واضح ما قد حدث، ثمة غموضٌ كثيف حطًّ كغبارٍ على خلايا عقله، فأعاقه عن العمل.

مشى وهو يتعثر برجليه إليها، ثمَّ همس لنسرين:

ـــ لا تخافي، عندما تنام سأخرجك فوراً من هنا..

ودون أن تحرك شفتيها قالتْ له نسرين بصوتها الذي ينضح ألماً:

ـــ الحياة خدعة.. مجرد كذبة.. أنت وزوجتك وأنا.. كلنا أكاذيب.. وحده الموت هو الحقيقة..

سالتْ بوحشة دمعة رقيقة على خدّها ببطءٍ شديد، كلماتها الأخيرة جعلته يشعر وكأنها تحتضر بهدوء.

ذلك الغموض ذاته صار وكأنّه وحشٌ داكن ينشب في روحه أنيابه، عجز عقله عن فهم أو تفسير عدم تحرك نسرين.. وكأنّها تمثالٌ حقيقي.

انهار جسده وكأنه بناءٌ متصدِّع تحت ثقل هذا الغموض، ليسقط بتعبٍ على الكرسي الثاني وهو يزفر أنفاسه بضيق.

دخلتْ زوجته إلى غرفة النوم حيث أسرعتْ ورمتْ بنفسها في حضنه وهي تضحك، سكبتْ له كأس نبيذ وناولته إياه ثم راحتْ تقبله بغزارة.

شرب كأس النبيذ كلها برشفةٍ واحدة، بدأتْ زوجته بتعريته من ثيابه أراد أن يمنعها وهو يختلس النظر إلى نسرين، لكنّه لم يستطع.. وعندما أصبح عارياً شعر بالخجل من نسرين كثيراً. زوجته تعرَّت أيضاً، لم تكن لديه رغبةً بممارسة الحب معها، لكنها لم تنتبه لبرودة جسده.

هناك.. على بعد مترين من الكرسي الذي تجمَّدت فوقه نسرين.. على ذلك السرير، ولساعة، مارستْ زوجته الحب معه بلا أيّ رغبةٍ منه، كان بارداً للغاية.. بروده غير المعتاد في ممارسة الحب جعل زوجته تستغرب، فظنّت أنّه مرهق من عمل اليوم في العيادة.

كل شيء فيه كان بارداً، لهذا أحسَّ بأنّه سيتحوَّل ــ هو الآخر ــ إلى تمثالٍ بعد برهة.

زوجته في هذه الساعة فعلتْ كل شيء وهو يسترق نظرات الخجل جهة نسرين، لأوَّل مرَّةٍ في حياته اكتشف أنّ ممارسة الحب قد تكون أحياناً عقوبة، وعقوبة فظيعة للغاية. أحسَّ أنَّ نسرين ترمقه بألمٍ وزوجته فوقه، كاد ينفجر وكأنّه قنبلة موقوتة وثمة عود ثقابٍ يقترب منها بسرعة وهو يقهقه.. أغرب ما يمكن تخيُّله في هذا الكون يحدث معه الآن، إنه الجنون بأمِّ عينه.. ليس هنالك في كلِّ العالم جنون كالجنون الذي يحدث الآن في غرفة نومه.

انتشتْ زوجته فأبعد جسدها عن جسده بساعده، وانحنى إلى الطاولة ليلتقط زجاجة النبيذ، ثم وضعها على شفتيه وشربها كلّها دفعةً واحدة، شرب وشرب وكأنه عطشانٌ تاه لأيام ٍفي صحراءٍ جافة، ثمَّ رماها على سطح الطاولة بلا مبالاة وأنفاسه تتسارع.

دار الكون بصخبٍ في رأسه، عينا نسرين كانتا تعاقبانه بقسوة بنظراتها الحزينة، فما عاد لديه قدرة على تحملهما، أسرع إلى زرّ الضوء وأغلقه لتعمَّ العتمة أرجاء الغرفة.

رمى بجسده على السرير جانب زوجته، ونام.

نومه كان مضطرباً.. تلك الكلمات الغريبة لنسرين، لهاث زوجته، صدى الانفجارات، جثّة طفلٍ مزقته قذيفة مع دفاتره وكتبه، زنزانةٌ ضيقة ومعتمة تغص بالبشر، ثمَّ رأى نفسه في المنام على هيئة تمثالٍ شاحب في فراغٍ أسود لانهاية له، وعينا نسرين تبدوان وكأنهما مدفعان يطلقان عليه القذائف إلى أن يتفتتْ إلى آلاف القطع الخزفية. وهو على حافّة الاختناق استيقظ من هذا الكابوس المريع، والفزعُ ينهمر من وجهه مع زخات العرق، كان هذا أول كابوس يشاهده خلال أربعة عقودٍ ونصف.. مساحة عمره.

انتبه الدكتور هاني إلى أنّ شمس الصباح تملأ فضاء غرفة النوم من حوله، ثمّة ألمٌ فظيع كان يفتك برأسه. قالتْ له زوجته عن جواره وهي أمام المرآة ترتدي ثياب الخروج:

ـــ هيا عزيزي لقد تأخرنا.. يجب أن توصلني إلى الدائرة وتوصل رامي إلى مدرسته قبل أن تذهب إلى العيادة. وكأنّه تذكر أسوأ حدث في حياته، التفت بذعر إلى هناك لينظر إلى نسرين.

ما زالتْ على حالها كما كانت قبل أن ينام، تمثالاً لا حياة فيه فوق ذلك الكرسي.

نهض وارتدى ثيابه كيفما اتفق ناسياً اهتمامه المعتاد بأناقته، خرجتْ زوجته من الغرفة، فأسرع إلى نسرين وهمس لها:

ـــ لا تخافي بعد أن نخرج سأرجع بسرعة لأفتح الباب.. أرجوكِ لا تحزني، لم أكن أتوقع أن يحدث كل هذا الجنون.. سامحيني، لا أعرف من أين جاء كل هذا الجنون وأيّ لعنةٍ قد أصابتنا و…

تمنى في سرِّه لو أنه يبكي، لعلّه يغسل عن روحه كل هذا التعب الذي لوثها خلال نومه، لكن صوت زوجته منعه من ذلك.. فتأوَّه بصوتٍ مخنوق، وثمّة قبضة غير مرئية تعصر رقبته وكأنَّها برتقالة لينة، وقبل أن يخرج لمح عن كثب على خدّ نسرين دمعتها التي لا تزال عالقةً عليه.

على درج البناء وهو ينزل ببطء وكأنَّه هَرم خلف زوجته وطفله، كان يراجع في ذهنه خطته للمَّرة العاشرة، نوى أنّه وبمجرد أن تصعد زوجته وطفله السيارة، أن يخبرهما بأنه قد نسي في البيت أوراقاً مهمَّة، ليصعد وحده ويفتح باب المنزل ويتركه دون إقفال، ثم يرجع ثانيةً إلى السيارة حيث تمضي مبتعدةً بهم عن هنا. عندئذٍ تخرج نسرين من البيت وتعود إلى بيتها، لينتهي هذا الكابوس الفظيع، ويرتاح من كل هذا الجنون.

ثمَّة أصوات انفجارات وتبادل لإطلاق الرصاص كانت تُسمع من بعيد.

في مدخل البناء شاهدوا جارهم العجوز، وهو قادمٌ من الخارج يتَّكئ على عكَّازه، وما إن شاهدهم، حتى أخبرهم بحنق أنّ الحواجز الأمنية على مداخل الحارة تمنع دخول الناس وخروجهم من الحي تمهيداً لتفتيشه، ويمنعون أيضاً الطلاب والموظفين وقد أجبروه على العودة.

زفرتْ زوجته وقد أغضبها هذا الخبر، ثمَّ حملتْ طفلها ورجعتْ لتصعد الأدراج إلى البيت وهي تشتم الحرب ومصائبها.

تمنى الدكتور هاني في سرِّه لو يقتل هذا العجوز الحقير، وقد دمَّر له خطته. لو أنَّه تأخر دقيقة واحدة فقط عن خروجه مع زوجته لنجحتْ خطَّته، رمقه بغيظ وهو يحاول الإفلات منه، لكن جاره العجوز أصرًّ على أن يناقشه بآخر مستجدات الحرب، ولم يستطع التخلُّص منه إلا بعد حوالي ربع ساعة.

عندئذٍ، راح يقفز على الأدراج بسرعة، وقبل أن يصل باب بيته ببضع درجات سمع وبوضوح ضجةً عالية سرعان ما تلاشتْ، على إثر هذه الضجة شيءٌ غامض خلع قلبه عن صدره، ليقذف به إلى فراغٍ لا متناهي من العتمة.

أخرج من جيبه مفتاح البيت، ثمَّ استطاع مرتبكاً بعد العديد من المحاولات الفاشلة دسّ المفتاح في ثقب الباب لتشتّت انتباهه.

ما إن دخل إلى البيت حتى لمح زوجته في الممر قادمة من المطبخ إلى غرفة الضيوف وبيدها مكنسة، وعندما شاهدته تنهَّدتْ ثم تمتمتْ له بخجل وهي تميل برأسها للأسفل:

ـــ أعتذر منك حبيبي لم أقصد هذا.. حملتُ التمثال لأنقله إلى غرفة الضيوف، لكنِّي تعثرتُ فسقط منّي وتحطَّم.. أرجوك لا تغضب…

ـــ تحطًّم؟!…

صاح كمن فقد عقله، وقنبلة ذهولٍ تنفجر على ملامحه. لم يصدق كلام زوجته، هرول إلى غرفة الضيوف وجسده يرتجف.

على أرض الغرفة شاهد الكثير من القطع الخزفيَّة متفاوتة الحجم متناثرة بشكلٍ عشوائي على البلاط، لم يصدق عينيه.. اقترب ثم انحنى ليجثو على ركبتيه وروحه تحبو كرضيعٍ أعمى على حافَّة الانهيار.

تأمَّل هذه القطع الخزفيَّة الملونة، ثمَّ أجهش الدكتور هاني ببكاءٍ مرير.

بكى بمرارة مثل طفلٍ صغير، صوت بكائه كان عالياً كنشيج حدادٍ على عزيزٍ قد رحل إلى العالم الآخر.

ولأوَّل مرَّة في حياتهما الزوجيَّة منذ سنوات عديدة، تراه زوجته يبكي.

من بين دموعه راح يكنس بكفيه تلك القطع ليجمعها إلى بعضها، وروحه تتمزَّق تحت وطأة قهرٍ هشَّم له كيانه بأسره.

كان جسده يرتجف ونشيج بكائه يعلو، وهو يهذي بحزن:

ـــ الحياة مجرد كذبة.. الحياة مجرد كذبة.. الحياة مجرد كذبة… الــ…..

ثمَّة قطعةٌ خزفيَّة شفَّافة اللّون، بيضويَّة الشكل.. انتبه إليها صدفةً من بين القطع الأخرى فالتقطها بسبابته وإبهامه ليرفعها إلى عينه.

تأملها بصمت لدقيقة، ثم اكتشف أنها دمعة.

16-7-2013

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.