تلك الأبواب الكهربائية

الجمعة 2015/05/01
رسمة لهاني مظهر

ذلك الباب الكهربائي الذي يشرع أجنحته تلقائيا ويقفل ذاته عندما يجد أن ما يفصل بين الواقعين أو العالمين أو المصيبتين قد أصبح جللا بما فيه الكفاية كي يحدث الفصل ويتجسد بين لحظة وأختها وبين رؤية الماسة والفوز بها..

لكن الباب قد لا يفتح أبدا وأو قد لا يقفل إن ابتلى المنظومة عطب كهربائي… فتتجمد اللحظة منتظرة أحدا.. أحدا ما..

1

جاءت مرال إلى الصيدلية محملة بوصفة طبية مزيفة تحتوي على أقراص منومة قررت أن تبتلع جلها لكي تستريح من وجود أمرين:

أولا: إخوتها الذكور مدعومين بأمها والذين مرروا ويمرمرون (جميعهم) لها حياتها من ساعة استيقاظها وحتى سباتها بحجة أنها يتيمة الأب –وآخر العنقود سكر معقود– وانها بنت ستظل وتبقى ضلعا قاصرا و.. و.. وهي بموتها هذا ستساهم في توقف وجود هؤلاء في حياتها أو لا حياتها.. وبالتالي ستحل أعظم مشاكلها وستتذوق طعم الحرية بحق.. وستضاجع كافة الرجال الذين تشتهي الكبار منهم والشبان وستقيم للقضبان الرجولية معرضا كبيرا وعلى جميع أشكالها وأحجامها الزهري منها والأسمر الطويل منها والأكثر طولا المطهر منها وأبو طربوش.. معرض لن يستطيع أخاها المتوسط -الذي طالما امتطى مثل هذه القضبان وغيرها بعلم الجميع- وصوله لقتلها ثم التلذذ وحيدا بما طرحته الطبيعة من بدع للذكورة..

ثانيا: ذاك الانتظار الجبري لعريس لن يأتي مما سيضطرها للانكسار وسط ضغوط المحيطين والقبول برجل مخبول يحمل شهادة طب مريبة من إحدى الدول والجمهوريات المتفككة ..

أعطت مرال الصيدلانية ورقة من فئة المئة ثمنا للدواء ولم تلحظ في عيني صاحبة الرداء الأبيض علامات تدل على تشكيك في صحة الوصفة ناولت الصيدلانية الباقي لمرال متمنية لها بلهجة جافة -وكأنها تقول لنفسها سئمت من هذا العمل أنا لم أتعلم ماجستير في العلوم الطبية والصيدلة والكيمياء الحيوية والعضوية والتفجيرية والوراثة كي أبيع هذه البلهاء حبوب منومة ليتها لا تستيقظ منها أبدا- النوم الهانئ والنوعي.. لكن الباقي كان عبارة عن الباقي المفترض وورقة إضافية من فئة المئة.. استدارت مرال بتردد عظيم وكأنها تنتظر صوتا يقول لها أعيدي ورقة المئة أيتها الجبانة الحمقاء هل تستغلين كوني امرأة علم عانس تعمل في المكان الخطأ.. وإذ أضاعت مرال الباب الكهربائي في المتجر الكبير أخذت تسأل الحارس الذي طالما اشتهت أمثاله شبه منهارة عن مكان الباب فتدحرجت بخطى متلاحقة نحو الباب الممعن في إغلاق ذاته لإلقاء احتمالات الياسمين نحو ديار الخسارة..

2

اعتقدت الصيدلانية التي تحمل شهادة الماجستير بامتياز في علم العقاقير المهدئة.. أنها بهذا قد تمسك تلك النجمة الزئبقية المملوءة نعمة ولكن هذا ما لم يحصل.. فها هي وكعادتها اليومية تحرق الوقت بعد نهاية دوامها في الصيدلية التي تحجب رائحة الطهارة فيها كل عبق إنساني ممكن.. تتجول في الحوانيت المجاورة ذاتها.. كل يوم.. كل يوم (عدا أيام الاثنين والخميس موعد دروس الرياضة الراقصة) وتخترع لذاتها أيّ شيء تشتريه كي لا تتجول هكذا لوحدها في المدينة الصغيرة التي تتحايل كل مرة من جديد على الحقيقة.. ووحدها الحقيقة هي الضحية التي لا تنافس هناك..

إبرة لخيط ينتظر كي يمزق قطعة قماش.. فرشاة أسنان لأن القديمة ضاعت في غياهب النسيان.. قميص أخضر مكشوف يلائم التنورة الأسكتلندية التي أرسلتها العمة من لندن أملا بأن مناسبة مفرحة تقف قريبا حيث لا ندري.. ولكن لا شيء يحدث في تلك المدينة ولا يدخل رجل وسيم فارع الطول إلى الحانوت ليسرقها بإصرار نحو زاوية لا ترحم من الصخب.. لا يحدث هذا ولن يحدث.. إنه العجز حين يضاجع الجمود.. ولا يجد المرء أيّ مرة أيّ شيء يبحث عنه في المتجر وحتى في داخل مراحيضه..

إن مجرد العودة الى البيت في الخامسة مساءً يعني البقاء هناك والاستسلام لفكرة الجلوس مع أمها وإخوتها برفقة الجارات الشريرات أو لمشاهدة التلفزيون والحلم بنضوب الحلم..

بعد رحلة علمية صاخبة في القدس ها هي ابنة السادسة والثلاثين تنام في مكان مرعب.. في المكان الذي ولدت فيه في نفس الغرفة حيث تنظر دمى الطفولة المغبرة إليها ساخرة.. في الغرفة الوحيدة للأولاد الصغار أو الأخوة الكبار الآن.. وأكثر ما يرعبها أن تسمع في يوم ما أخيها الأصغر ابن الحادية والعشرين.. أن تسمع صوت استمنائه أو أن تلحظ تغيرا في نظرته إليها حيث يصبح لهيبا أكثر إحراقا وبالتالي تفتيتا للجثة المنسية الملقاة..

” باستطاعتي أن أولج شهاداتي هناك في الأسفل لعلني أجد متعتي وخلاصي..” ..”خلاصي من عجزي..”

حسناً.. ما أقسى أن يستيقظ الإنسان بعد الخامسة والثلاثين خاصة بعد أن قطع أشواطا وأشواطا من العيش في السرير الضيق الذي تلمس به أسرار بدنه لأول مرة.. إنه الذل بعينه متجسدا على الأرض ولا أحد يفهم.. الأشخاص الذين تفتتوا في العواصم.. في لندن وباريس ونيويورك وبرلين وهؤلاء الذين تزوجوا وتزوجنّ وتحولوا وتحولن إلى أشياء لا تنظر إلا لما يغطي ظلها.. وأولئك الذين ماتوا أو حتى ماتوا عن المخيلة.. وأولئك اللواتي تحايلن على الوهم وغادرن الى إحدى مدن الاختفاء في خارطة الوطن للعمل في جمعيات أهلية أو ما شابه ذلك..

التقطت الصيدلانية بحركة حتمية لا رجعة منها طوق الذهب المرصع بالماس والذي سقط من سيدة المجتمع التي كانت تختار معطرا للمرحاض وتضعه في سلة مشترياتها.. وتراجعت الصيدلانية بجزع مطعم بيأس غير مفهوم وارتمت نحو المدخل الكهربائي الذي فتح ذراعيه ليحتضن الغبار.. أكان هذا رجلا وسيما أبيض الشعر أزرق العينين عريض الكتفين يداعب إحدى شفتيه الشهوانيتين بالعرق؟..

3

في القسم المغلق رقم 3 من مستشفى الأمراض النفسية في المنطقة الحارة المحشورة بين ما احتل في العام 1948 والعام 1967.. أراض قريبة من البحر ولكنها ليست على شاطئه تماما بل أخذت منه الرطوبة المزعجة السمجة وهي منطقة قريبة من الهضاب ولكنها ليست هضبة بحد ذاتها بل إن الهضاب المرتفعة شرقا تحجب الرياح الصيفية الجافة الآتية من العراق أو إيران لتبقيها تتقلب في جحيم الرطوبة الصيفية العنيدة.. ولكن ما الجدوى.. فعلا ما الجدوى ففلسطين صغيرة وحتى وهي موحدة تحت مظلة الاحتلال كما يشبهها بعض الوقحين بـ”كسّ العقرب”.. فجبالها قريبة من ساحلها وهضابها سرعان ما تتكسر لتصبح أغوارا ومروجا.. ما الجدوى إذن..

منع الحارس في ذاك القسم المغلق من فاتن المقيمة فيه أن ترافق زوارها نحو الخارج ليس بهدف الهرب من المشفى بل لمجرد الخروج من المكان، من الحيز، الشعور بمعنى الخروج ثم العودة.. لمجرد العودة..

بعد منعها وقفت فاتن مقابل الباب الكهربائي تتأمل اللاشيء بوجوم غير نهائي يغذي نفسه من محيطات الفناء..

تعالت الصيحات من الداخل بعد إن انتابت أحد المرضى نوبة صرع جعلته يشكل خطرا على المحيطين.. وعلى نفسه.. هرول الحارس نحو منبع الصيحات دون أن يغلق الباب الكهربائي بإحكام.. ألقت فاتن بوجومها جانبا للحظة.. فتحت الباب بإشارة نحو أعلاه وخرجت.. ثم مشت ومشت.. شاهدت فرسين تجريان وراء مصدر مفترض للرياح.. ونسرا يلتقط أشلاء ضحيته فاراً من العار.. والشمس تبصق ما فاض من لعابها الجمري على شكل دنس.. ثم مشت ومشت فواجهها جداران يتصلان ببعضهما دون أن يلتقيا في نقطة بعينها.. جدار المستشفى.. وجدار آخر..

كانت فاتن قد نسيت عند تنفيذها للهروب الارتجالي هذا أنها عالقة في قاع “كس العقرب” حيث لا قاع بحق ولا مخرج.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.