العرب وانتكاس الوعي النقدي

الأربعاء 2015/07/01
لوحة: حسين جمعان

في عبارة “الوعي النقدي” جمع بين مصطلحين، الوعي كملكة ذهنية تسمح بإدراك الظواهر الخارجية والباطنية من منظور ذاتي، والنقد كعملية إبستيمولوجية لفرز معطيات خاصة أو عامة وغربلتها بالاستناد إلى حصيلة معرفية راسخة، وفي التوليف بينهما دلالة على تشكّل وعي ناضج يسمح بمقاربة الظواهر المجتمعية في شتى تجلياتها، الثقافية والفكرية والعقدية والسياسية والبيئية، وأثرها في سلوك الأفراد وعلاقاتهم في ما بينهم وعلاقاتهم بالسلط القائمة ومؤسساتها ورموزها، إما بغرض تطوير السائد وتجاوزه، أو بتقويضه والبناء على أنقاضه. والوعي النقدي، كالمعرفة، له وجهان هو أيضا، عاميّ ساذج قائم على العاطفة والانفعال الآني والتعصّب في الآراء والتعبير عنها بحجة القوة لغياب قوة الحجة، وعلميّ ناهض على معارف ومكتسبات وتجارب وخبرات، وهو الذي يعنينا في هذه الورقة.

هذا الوعي النقدي يحتمله المثقف، أي الفاعل في مجتمعه بالقول والتنظير والمراس، متوخّيا في بحوثه أو أحكامه المراحل الثلاث التي حددها كانط، وهي فرضية اقتراح، وحقيقته، وضرورته، واضعا نصب عينيه السؤال النقدي الأبرز “لماذا ينبغي أن يكون الأمر على هذا النحو دون ذاك؟”، فالفكر النقدي مسعى يهدف إلى وضع الخطاب، أيّ خطاب، وحججه ومعجمه وتمثله للواقع موضع مساءلة، في مقاربة عقلانية ذات مرجعية معرفية متينة. والناقد، كالمؤرخ، مطالب بالتنزه عن الهوى، ونبذ الأيديولوجيا لأن خطابها، كما يقول كارل بوبر، مبني بشكل يوهم أن له جوابا عن كل شيء، حتى يميز بين ما يبدو له حقيقة وبين ما يودّ أن يكون كذلك، مثلما هو مطالب بالتزام الصرامة العلمية بحثا عن الحقيقة، أو جانب منها على الأقل، تلك التي تجعلها المعطيات طوع يديه، فالتماثل ليس دليلا، وحسن النية ليس حجة. وبذلك يكتسب المثقف الناقد سلطة معنوية، قد يكون لها وزنها في عيون الناس ولدى أصحاب القرار، دون أن يضمن تأثيرها فيهم، لأن التغيير رهن القرار السياسي، حتى وإن جاء متأثرا بأفكار المثقف وطروحاته وتنظيراته. ذلك أن سلطة المثقف ليست من طينة سلطة رجل السياسة: هذا يمارس نشاطه في إطار مؤسسات سياسية حاكمة، وذاك يشتغل على المناهج والنظريات يصوغها أو يطور ما تقادم منها ليكون قادرا على تقديم حلول، وطرح أفكار قد تشكل برنامجا لرجل السياسة أو تؤثر في توجهاته. هذا يفكر طبقا للقانون والأذون الشرعية، وذاك يعمل وفق ما يقتضيه البحث والتأمل من تروّ وتمحيص وتحفظ. ولا يمكن للمثقف في تلك الحال أن يكون فاعلا بحق إلا إذا جمع بين السلطة المعنوية والسلطة السياسية، شرط ألا يتنكر لأفكاره أو يغلّب عليها صفة السياسي فيه. وهذا نادر، إن لم يكن مستحيلا. يحدث هذا في البلدان المتقدمة، فما البال بأقطارنا العربية حيث الكلمة الفصل للسلطة السياسية في المقام الأول والسلطة الدينية – التي تحتكم في الغالب للسياسي – في المقام الثاني.

فكيف يمكن الحديث عن تطوير وعي نقدي وكل المحاولات التنويرية التي رامت القطع مع الماضي أجهضت بطريقة أو بأخرى، سواء ما تعرض منها لأصول الحكم في دولة عصرية، وفصل الدين عن السياسة، وتخليص النص الديني من القراءات الحرفية ليواكب العصر ومستجداته، وتحرير المرأة من رجعية الذكورية البطريركية، أو ما تعلق بالإنتاج الأدبي وسبل استقرائه؟

في النصف الأول من القرن الماضي، شهدت بعض الأقطار العربية كمصر وتونس وسوريا ولبنان حركة ثقافية وفكرية نشيطة، استفادت من احتكاكها بالغرب في تشكيل وعي نقدي، توسلت به في فهم واقعها والوقوف على مظاهر التخلف فيه، وسعت إلى معالجتها أو طرح بديل عن السائد يأخذ بأسباب التقدم في البلدان الغربية، ويحذو حذوها دون التنكر لقيم المجتمع ومقوماته الحضارية. ولكن معظم محاولات أعلام تلك الفترة كالطاهر الحداد وقاسم أمين وعلي عبدالرازق وعبدالرحمن الكواكبي – على سبيل الذكر لا الحصر- قوبلت بموجة عنيفة انتهت بانتكاسة تلك المحاولات واضطهاد أصحابها. ولم تقتصر حملات العداء على من تناول أصول الفقه والسياسة، بل شملت حتى من حاول قراءة التراث من منظور عقلاني، كما حصل لطه حسين بعد صدور كتابه “في الشعر الجاهلي”، ما جعله يرتد عن منهجه العقلاني ليستحضر كالآخرين كتب التراث، فألف “على هامش السيرة”، وهو كتاب لا ينأى كثيرا عن سيرة ابن هشام، المصدر الأساس لكتب السيرة، إلى جانب سيرة ابن سعد وتاريخ الطبري، وكأنه يكفّر عن خطيئة أو يثبت للخصوم إيمانه. ويُحسَبُ لهؤلاء جميعا قدرتهم على تبليغ ما يرومون تبليغه بوضوح، بخلاف اللاحقين الذين، وإن تناولوا هم أيضا بالعلاج أدواء مجتمعاتهم، طفحت مؤلفاتهم بالمصطلحات الأجنبية، والأفكار المعقدة، والإحالات التي تفترض قارئا عارفا ملمّا بالحقل المعرفي المطروق، حتى كاد خطابهم يقتصر على فئة معينة، تردّد أو ترجّع أو تجادل ما يطرحون، فلم يجد ذلك الخطاب النخبوي الصدى المطلوب، على المستويين الاجتماعي والسياسي. ولم تسلم من ذلك التعالي سوى قلة، كمحمد عابد الجابري وحسن حنفي في تجديد التراث، وفؤاد زكريا في نقد الفكر العربي والواقع المصري، سعت إلى تحليل تجليات الواقع في ماضيه وحاضره وتحولاته ومستحدثاته في لغة فلسفية واضحة، دون تقعر ولا ادّعاء معرفي.

الدينامية النقدية نفسها طالت المجال الأدبي في الحقبة ذاتها، في المشرق خاصة، وظهرت محاولات جادة تتابع ما يصدر، وتتبسط في تقديمه للقارئ وإبداء الرأي في مضمونه انطلاقا من وعي أدبي متبصّر، وزاد لغوي ومعرفي متأصل، وبرزت أسماء كبرى مثل طه حسين ومارون عبوّد وميخائيل نعيمة حاولت أن تضع أصولا جديدة في النقد الأدبي العربي، إلى جانب عبدالمحسن طه بدر الذي اجتهد في وضع معايير نقدية تتجاوز الذوق الشخصي والجمالية الذاتية وتجعل بعض العناصر الموضوعية أساسًا للحكم على العمل الأدبي، ولكن تلك التجارب، على أهميتها في تشكيل الوعي الجمعي، عدّها اللاحقون انطباعية تكتفي بالتعريف بالأثر وصاحبه، فتستحسنه أو تستهجنه دون إخضاعه لمنهج علمي، إذ هم يحرصون على التمييز بين نقد انطباعي يقوم على الذائقة الخاصة والتعجل في إصدار الأحكام بغرض تحريض المتلقي، وبين نقد عميق يعتمد على التحليل والاستنباط والدليل العلمي والمنطق الصريح. ولكن الملاحظ أن هذا النقد الذي يوصف بالانطباعي لا يزال حاضرا بالتوازي مع النقد الأكاديمي في سائر الأمم المتقدمة، فلكل واحد منهما مساحته ومراميه وجمهوره وزمنه، والمجلات والدوريات والصحف السيارة في فرنسا مثلا لا تزال تزخر بمثل تلك المقالات التي تتناول حدثا أو ظاهرة أو إصدارات جديدة، وأصحابها هم أدباء ومفكرون وفلاسفة ومؤرخون مرموقون، لا يتنكبون عن الإدلاء بدلائهم للعموم، ويذَرون بحوثهم الجامعية الرصينة لأهل الاختصاص. أما عندنا فقد انحسرت وظيفة النقد إلى مفهوم مختزل يستند إلى وعي انتقائي، ويستدعي المناهج الغربية لصياغة مقاربات متخمة بالمصطلحات الغامضة، تسهب في التحليل والتأويل والشرح والتفسير بأساليب معقدة يستوي في خضمّها الجيّد والرديء. والنتيجة أن تلك الأعمال تبقى أسيرة دائرة اختصاصات ضيقة لا تتجاوز الفضاء الأكاديمي، ما يفقد الأدب وظيفته الثقافية ودوره في تنمية الوعي وتطويره. وبذلك عجز نقادنا عن بناء تصور متجانس عن العلاقة المفترض قيامها بين الأدب والمنهج النقدي ووظيفته التوعوية.

إن النقد في الفكر المعاصر يتأسس على البحث المنتظم في حدود نظريةٍ من النظريات أو جملة من المفاهيم. فهو يتسع للمجال الاجتماعي كما ظهر في كتابات ماركس، خصوصا مقدمته في نقد الاقتصاد السياسي، وهي الكتابات التي استوحت منها مدرسة فرانكفورت مقاربتها في بلورة نظرية نقدية، كما يتجلى في أعمال هابرماس، الذي ساهم بدوره في وضع دراسات فكرية في النقد الاجتماعي، تعالج الإنتاج الثقافي وسبل تلقيه، واستفاد منها فوكو من بعده. ولا يمكن بالتالي أن نشكل وعيا نقديا دون التوصل إلى ابتكار مفاهيم ومناهج عربية خالصة، تستلهم من الآخر بروية، وتراعي خصوصياتنا الثقافية والحضارية، لتنشئ الأجيال القادمة على الجدل المثمر وقبول الرأي الآخر ونبذ فكرة امتلاك الحقيقة دون سائر العالمين. وهي مهمة ليست باليسيرة، ذلك أن البنى والعادات الفكرية الخاصة بثقافة من الثقافات، كما يرى هابرماس، عادة ما تكون راسخة بشكل لا يسمح بملامسة الكوني دون جدل يستند إلى شروط معينة، كالبحث عن الحقيقة، والتحلي بالنزاهة. وهذا لن يتحقق في ظل استبداد الدغمائية السياسية والعقدية.

والمؤسف أننا لا نفتقر فقط للمبادئ التي تقود إلى ما هو صحيح، بل نباهي بمبادئ أخرى في حوزتنا تستريح كثيرا لما هو خاطئ. فما نعيشه اليوم من سطوة الأنظمة الشمولية وتشدد الأصوليات الدينية يؤكد على أن بلداننا تربة خصبة للاستبداد والتطرف على المستويين السياسي والديني، تستعدي العقل وتمجّد النقل، وتقدم الأصالة في وجهها الانطوائي المنغلق على الحداثة وما تقترحه من انفتاح وأخذ عن الآخر المختلف برويّة وتبصّر. فمنذ أن هزم فكر الغزالي فكر ابن رشد، وهزائمنا الفكرية متواترة: الإمام سحنون أمام ابن تيمية، والطاهر بن عاشور أمام محمد بن عبدالوهاب، ومحمد عبده أمام سيد قطب، وكل مفكرينا المحدثين أمام مشايخ الإفتاء والتدجيل، حتى صرنا اليوم نتحدث عن “أزمة الفكر العربي المعاصر” و”محنة العقل العربي” و”انحسار الوعي النقدي لدى العرب” أكثر من حديثنا عن نظريات فلسفية عربية متكاملة، تقارب الواقع في شموليته وتساعدنا على الانخراط في الحداثة وفهم شروطها وآلياتها، لتحقيق النهضة العربية المنشودة. وعاد الحديث عن الصدام بين الأصيل والدخيل في ثقافتنا، بين الأصالة والمعاصرة، بين الهووي والكوني، وكأننا لا نزال نعيش في فجر الاستقلال.

قد يفلح مفكرونا، فرادى أو جماعات، في نقد أبنية ثقافتنا وتفكيك عناصرها وتفسير آلياتها، للوقوف على الأسباب التي هيأت لطغيان الأنظمة الاستبدادية واستشراء العنف الدموي المتستر بإهاب الدين، من أجل وضع أسس وعي نقدي جاد، يقدم بالدليل القاطع إجابة عن السؤال أعلاه: “لماذا ينبغي أن يكون الأمر على هذا النحو دون ذاك؟” ولكن جدواه تظل محدودة، وربما معدومة، في غياب أنظمة ديمقراطية، تضمن حرية الرأي، وتصون قائله.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.