الروح‭ ‬لا‭ ‬تفكر‭ ‬دون‭ ‬صور‬‬‬‬

الأربعاء 2015/08/19

ثمة مثل صيني، يعود إلى عقود خلت، يقول إن "الصورة بألف كلمة"، ولو أنه قيل في زمننا الحالي لجعل الصورة تعادل مليون كلمة، فنحن الآن بالفعل في عصر مركزية الصورة وسيادتها بامتياز في كل مفاصل حياتنا، إنها تحيط بنا من كل الجهات، وتفرض هيمنتها علينا أينما كنا: في البيت حيث التلفزيون والفيديو والدي في دي والإنترنت، والشارع حيث الإعلانات بمختلف أشكالها الثابتة والمتحركة والمضيئة، والمكتبات والأكشاك، التي تعرض الكتب والصحف والمجلات والأقراص المدمجة، وأماكن العمل، والملاعب الرياضية، ووسائل المواصلات، ودور المسرح والسينما، وقاعات المحاضرات في الجامعات والمدارس والجمعيات والنقابات، والمطاعم والنوادي والملاهي والمراقص‭...‬ إلخ‭.‬ وفي كل هذه الأماكن ثمة ما يلتصق بنا التصاق الأظافر باللحم، مختزناً صوراً ثابتةً أو متحركةً لمن نحب، ألا وهو الهاتف الجوال، وإلى حد ما الكومبيوتر اللوحي‭.‬ ‬‬‬

لا تصح المقارنة، طبعاً، بين حضور الصور في مجتمعاتنا العربية وحضورها في المجتمعات الصناعية الكبيرة، فقد بلغ طغيانها على الأخيرة حداً دفع المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه إلى إطلاق صرخة، في كتابه "موت الصورة"، مفادها أننا أصبحنا معرضين لفقدان البصر من كثرة الصور التي تعرض علينا، فلم نعد ندري من أين تأتي، ولا ماذا تعني، ولا لماذا تستخدم‭.‬ كما أن دور النشر، وخاصةً الغربية منها، بدأت تروج لعشرات الكتب التي تُعنى بهذا الموضوع، ويكاد أغلب مؤلفيها يتفق على إطلاق تسميات متقاربة، تشير إلى هيمنة الصورة على عصرنا الحالي، مثل: عصر الصورة، وعالم الصورة، وحضارة الصورة، وثقافة الصورة، وزمن الصورة‭.‬ وسرعان ما انتقلت عدوى الموضوع إلى المشهد الثقافي العربي، فظهر بعض الكتب التي تبحث في عالم الصورة، وتقنياتها، وأيديولوجيتها، ومجالاتها، وأهدافها، وأبعادها السيميائية، وعلاقتها بالعولمة، والحرب الإعلامية، وغير ذلك‭.‬ وقد تفاوتت رؤية مؤلفي هذه الكتب لسيادة الصورة وكثافتها في حياة إنسان الألفية الثالثة، ونبه أغلبهم إلى خطورة استخدامها، وتكريسها لدكتاتورية امتلاك الحقيقة العلمية المطلقة، كالفيلسوف الفرنسي جان بودريار، الذي قال عن حرب الخليج الثانية إنها لم تقع، بل شاهد الناس نسخةً تلفزيونيةً منها، أي نسخةً مصورةً‭.‬ ‬‬‬‬

لقد أصبح الحضور المتعالي للصورة، أو نزعتها المركزية في عالم اليوم، بوصفها الأداة المتحكمة بالمعنى والثقافة والوجود الواقعي للأشياء والظواهر، يعادل، بل يفوق نزعة الصوت المركزية، أو ميتافيزيقيا الصوت، التي تهيمن على خطاب اللغة، حسب تعبير دريدا‭.‬ ومن جنب آخر غدا للصورة في عالمنا اليوم وجهان: أحدهما سلبي، والثاني إيجابي، فهي مشروطة بنوايا منتجها ورؤيته، سواء أكانت جمالية أو براغماتية‭.‬‬‬

لكن في جميع الأحوال "الروح لا تفكر أبداً من دون صور"، كما يقول شيخ النقاد أرسطو‭.‬ وأرى أن هذه المقولة هي المفتاح الذي يقودنا إلى الفضاء المشرق للصورة، وأعني به بلاغتها وجمالياتها في الخطاب الإبداعي، فالصورة، مثلاً، معيار شاعرية القصيدة، أي بمعنى أن القصيدة من دون صور بليغة، أخّاذة، موحية، ومتوهجة‭..‬ نفايةُ من الألفاظ المتراصة، والكلام التقريري الجامد، ويكفي قول الجاحظ إن الشعر ضرب من التصوير‭.‬ وعجز القاص، أو الروائي عن تصوير الأحداث، وفضاءاتها، وأفعال الشخصيات ومكنوناتها بأساليب بلاغية متباينة لا ينتج عوالم سرديةً، والمسرح (وكذلك السينما) الذي يتوسل الثرثرة اللفظية، والحكي المسترسل في فضاء إيقونتي ساكن، ويهمل الأطر البصرية (الحركية والتشكيلية) يتحول إلى منبر للخطابة الرتيبة‭.‬ أما الفنون البصرية الخالصة فمن نافلة الكلام التوكيد على أهمية الصورة وبلاغتها في تكوينها.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.