صوت‭ ‬ارتطام‭ ‬شيء‭ ‬ثقيل‬‬‬ ‭ ‬في‭ ‬الماء‬‬

الأربعاء 2015/08/19
الفنان: ياسر أبو الحرم

عدت رفقة جدي إلى العالم الذي نسميه تمييزاً العالم الواقعي‭.‬ عند الفجر كنا في غرفته في التكيَّة‭.‬ والفجر والغسق هما الموعدان المناسبان لولوج هذا العالم أو الخروج منه‭.‬ فيهما تفتح أبوابه على العالم الآخر لدخول وخروج الملائكة‭.‬ فهؤلاء أيضاً يعملون بنظام الورديات‭.‬ ملائكة لليل وأخرى للنهار‭.‬ واختيار هذين الوقتين تمَّ على فرض أن الخليقة تكون خلالهما في أدنى مستويات نشاطها‭.‬ لكن نمط الحياة الحديث المنفلت يربك عمل الملائكة، ويتسبب بأخطاء وكوارث جسيمة‭.‬ خاصة عندما يقوم الملاك الصاعد بتسليم عمله للملاك الهابط، ففي تلك اللحظة الخارجة عن الرقابة، في غمرة انهماك الملاكين بتبادل المعلومات والأدوات، قد تقترف الخلائق حماقات عظيمة غير مخطط لها‭.‬ وفي هذين الوقتين يتنزل ملائكة المنامات والرؤى، الذين يبدأون عملهم بنقل الرؤى الهامة والخطيرة، ثم يودون بقية المنامات بأريحية طوال الليل والنهار‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

كنت متلهفاً لأتثبت من حقيقة ما حصل واختباره‭.‬ خرجت من ذاتي ثلاثة عشر مرة وأطلقت أطيافي في مختلف أحياء المدينة‭.‬ شاهدت في الآن نفسه ثلاثة عشر مكاناً وتجاذبت أحاديث مختلفة مع أشخاص أعرفهم وآخرين لا أعرفهم‭.‬ تأكدت بعد ذلك أنني شُوهدت في ثلاثة عشر موضعاً مختلفاً في الوقت ذاته‭.‬ عندما شعرت بالاطمئنان المسكر، قلت للجد:"أنا جاهز"‭.‬‬‬‬‬‬

قال :"هيا بنا"‭.‬‬

وصلنا قرية الطالعة المواجهة لقريتنا على النهر عند الضحى‭.‬ قال جدي سننتظرك على الضفة الأخرى‭.‬ قلت :"هل سيكون معك أحد"؟ "صديقك إبليس‭...‬ يريد أن يرى ذلك"‭.‬‬‬‬‬

شعرت بمزيد من الطمأنينة والغبطة‭.‬ ابتعد جدي‭.‬ أخذت نفساً عميقاً، وانطلقت إلى مغامرتي العلنية الأولى في العالم الواقعي‭.‬ وفيها سأقطع النهر من نقطة ما على الضفة اليسرى إلى نقطة على الضفة الأخرى، ماشياً على وجه الماء، على أن يراني البعض عند انطلاقي وعند وصولي وفوق الماء‭.‬ والغاية طبعاً أن آتي، تحت أبصار الشهود، هذه المعجزة الفريدة‭.‬ فالمشي فوق صفحة الماء شيء خاص ومميز، لم يأته قط أحد من السيِّاد الذين جاؤوا بأنواع الخوارق، منذ فعلها الجد أبو عابد لآخر مرة، قبل أربعمائة عام‭.‬‬‬‬‬‬‬

كان أبناء الكطراوي السبعة قد فكووا طرنبة مضختهم لخفضها وإيصالها إلى الماء الذي انحسر قليلاً في هذا الموسم‭.‬ وفي الضفة المقابلة إلى الشرق، كان آل العبد الرجب يتجمعون حول ماكينتهم أيضاً لشأنٍ ما‭.‬ قررت أن يكون مساري خطاً مائلاً يصل بين المجموعين‭.‬ خلعت نعلين وتقدمت صوب النهر‭.‬ ألقيت السلام على الأخوة السبعة المشتهرين بالجلافة والجدية المبالغ بها، تطلعوا نحوي بجهامة ولم يردَّ عليَّ سوى واحدٍ منهم‭.‬ كان أكبرهم في الحفرة يستقبل الشراقة متوتراً ومنقبض الملامح يصرخ بصوت عال على أخوته الآخرين‭.‬ عندما خلفتهم ورائي، سمعت الذي ردَّ سلامي يقول متسائلاً فيما أنا أخطو خطواتي الأولى على الشاطئ: "وين مولِّي هذا؟!"‭.‬ فصرخ أكبرهم الذي في الحفرة : "مولِّي على جهنم اللي تاخذك وتاخذه، إنت شكارك وين مولي؟! ناوشني الطرنبة"‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬

قرأت السر أو التفويض في سري، وهو بالمناسبة ليس دعاء أو تعويذة‭...‬ إنه معلومة بسيطة للغاية، تلوتها ومشيت على الماء‭.‬ قطعت عدة أمتار‭.‬ صرت فوق الماء العميق‭.‬ ناغشت مويجات صغيرة تثيرها نسمة كانونية باردة باطن قدمي فكدت أقفز‭.‬ عندئذ سمعت الشاب الذي ردَّ تحيتي يقول لأخوته: "لك هاذا قاعد يمشي على الميَّة، عليَّ الحلال ‬‬‬‬‬يمشي على الميَّة‭.‬"‭.‬‬‬

وسمعت الأخ الأكبر يصيح: "ولْ أرفع يا جَحَشْ‭..‬ شكارك بيه"‭.‬‬‬

ثم سمعت صوت ارتطام شيء ثقيل في الماء‭.‬ تطلعت إلى الجهة الأخرى بسعادة: ها قد رأوني‭.‬ لكنني فوجئت بجدي يلوح بيديه بعصبية طالباً مني أن ألتفت إلى الوراء‭.‬ كان الأخوة قد تركوا الطرنْبة الثقيلة حين شاهدوا المعجزة فوقعت على كبيرهم واستقرت فوقه مغرقة إياه في الماء، لكن أحداً من أخوته المأخوذين بما رأوا لم يبادر إلى مساعدته ‭.‬ أسرعت إليهم‭.‬ رفعت الطرنبة وأخرجت الأخ الأكبر الذي كان يترع الماء والوحل والطحالب من فيه وينظر نحوي بذهول لا يقل عن ذهول أخوته‭.‬ ابتسمت له وغمزته، لم ينبس بحرف‭.‬ تركتهم وتوجهت مجدداً إلى الضفة الأخرى‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ليتها طالت تلك اللحظات المطلقة من قوانين الزمان والمكان، والجاذبية وأرشميدس‭.‬ ليتها طالت لحظة التفويض تلك‭.‬‬‬

كنت سعيداً سعادة طفلٍ يمشي خطواته الأولى‭.‬ مسافته الأولى ‭.‬ وعلى سعادته يريد أن يبلغ صدر أمه ليرتمي عليه‭.‬ لم أرتم على صدر جدي أبو عابد ولا على صدر إبليس اللذين كانا غارقين في الضحك‭.‬ تساءلت بحيرة عما يضحكهما‭.‬ أخيراً، قال الجد وهو يغص بشهقته: "لم خلعت النعلين؟!"‬‬‬‬‬

نظرت مستغرباً من نفسي إلى النعلين اللذين كنت أحملهما في يدي اليسرى فلم أجدهما هناك! نظرت إلى اليمنى لم يكونا هناك أيضاً‭.‬ رددت ناظري بين إبليس والجد حائراً بينما ‬

هما يقعان على الأرض ضاحكين‭.‬ عدت بذاكرتي القهقرى محاولاً أن أفهم ما يحدث، تذكرت، عندما رأيت أن الطرنبة وقعت على الكطراوي حررت يدي من حملهما كما كنت أفعل في طفولتي وعضضت على النعلين الجديدين بأسناني إذن! السيد الجديد المهيب، مشى على وجه النهر مسافة خمسمائة متر ونعليه يتدليان من فمه!‬

توجهت إلى بيتنا دون أن أنتظر آل العبد الرجب الذين توجهوا نحوي بحذر‭.‬ في البيت آويت إلى غرفتي وأغلقتها ورائي، كما طلب مني الجد‭.‬ تداولنا في أمر زواجي، فبعد أن بحثت لساعات في مدينة الزواج وجدت صليبي، وعرفت عرضي؛ كانت ريم ليس إلا‭.‬ وريم تزوجت منذ أشهر، ولا أعرف شيئاً عن حياتها الزوجية‭.‬ قال إبليس إن زواجها ليس بمشكلة، وتعهد بأن يعمل على إطلاقها بسلاسة‭.‬ وكان الأمر رهناً بقراري ورغبتي‭.‬ سألت الجد: "ما المشكلة في بقائي بلا زواج‭..‬"‭.‬ "عندما يحقق الشاقول توازنه بلا أفقي فذلك يدعى لدينا العفَّة، وهي محمودة بحد ذاتها إن كانت ممكنة، لكن هنا ثمّة مشكلة"‭.‬ "ما هي؟"‭.‬ "ماذا عن ريم التي حرمت من طولها؟ هل ستحيا راضيةً، ستكبِّدها العفَّة آلاماً لا تطاق‭.‬ عميص أيضاً‭.‬ وعرضه الذي سيذهب إلى طول آخر ووو‭..‬ سلسلة لا تنتهي من الأخطاء‭.‬ ثم ألا ترغب حقاً بريم؟"‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

تذكرت عندئذٍ السيد طه وعرضه الملكي وسعادتهما‭.‬ تذكرت عبارات السيدة الدقيقة والمثيرة في وصف ريم‭.‬‬‬

قال إبليس: "رغم أني لست من المتزوجين ولا أعرف شيئاً عنه بدقة، إلا أني أجزم بأن سقوطكما معاً، عفواً أقصد زواجكما، كيف أصفه؟! مثل سقوط الخمر في الماء، شيء مسكر، ليس مثل تلك الفتاة التي سقطت عليها سقوط الحصاة في كوب ماء‭.‬"‭.‬ نظرت إليه متفكراً، وتبسمت‭.‬ قال: "فِهمتْ عليَّ بُخش القلب‭....‬ أترك الأمر لي"‭.‬"أجل اتركه لهذا اللعين‭.‬ إنه يفكك العرض عن طوله متى يشاء‭.‬ وتعال الآن لنر هؤلاء الناس، وما يريدون"‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬

"أي ناس؟!"‭.‬‬

أصغيت، فإذا لغط كبير يأتي من الخارج‭.‬ تناوقت من شق الستارة‭.‬ كانت القرية بأجمعها تقريباً تتجمهر في حوش بيتنا وتصدر عنهم جلبة ساعة حلب الغنم‭.‬‬‬‬ "جاؤوا يتباركون بالسيد الجليل"‭.‬‬

قال جدي‭.‬ وطلب مني أن أخرج من ذاتي خروج احتمال؛ الذي يعني أنني أَرى و لا أُرى‭.‬ تجولنا بينهم‭.‬ كان آل الكطراوي قد وصلوا أيضاً‭.‬ كل واحدٍ ممن شهدوا المعجزة يسرد جزءاً من الحكاية لعدد من الأهالي‭.‬ الكطراوي الكبير قال أن الطرنبة الكبيرة ارتفعت عنه بإشارة مني‭.‬ وواحد من العبد الرجب يحلف بروح جده أبو عابد أنني مشيت على درب أخضر صلب من الأسماك الخضراء الصغيرة التي زجت ظهورها وتكاثفت تحت خطوتي المباركة‭.‬ كما وصفها بحذر بعد هنيهة‭.‬ أسماك صغيرة ! قال شارداً، وفرد سبابته ليحدد طولها بدقَّة للجوقة المسحورة من الرجال والنساء والصغار الذين كانوا يلتفون حوله غيرت ظهوري من ظهور احتمال إلى ظهور عيان‭.‬ وسألت الرجل: "إذا رحنا على الفرا ألحز نقدر نشوف ها الأسماك"‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

شخص بوجهه نحوي، وقال دون وعي: "بشرفي المية لسعها خضرا‭.‬"‭.‬ حدق فيّ بذهول‭.‬ ثم صاح: "السيد؟!"‭.‬‬‬‬‬

انفضَّت الجوقة من حولي مذعورة‭.‬ ابتسمت لهم، فهدأ روعهم‭.‬ شق الجموع فجأة السيد طه بعباءته المرعزيَّة وابتسامته اللطيفة المحبة‭.‬ دنا مني بصوت عال: "يقال: تمسحوا بالنواصي والأقدام‭.‬"، وألقى وجهه على كفيَّ‭.‬ ثم هجموا دفعة واحدة ، يتمسحون ويتمرغون بالنواصي والأقدام.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.