محاولتان‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬أبعد‬‬‬‬

الأحد 2015/03/01

لا‭ ‬أكتب‭ ‬لأحد‬‬

لأني لا أكتب لأحد‭.‬ أمتطي شهوة الهذيان وحدي‭.‬ وأستحضر من المستحضرات ما يلمّع المعدن الجريح في نفسي‭.‬ عسى من عراك الكلام الصقيل ترى النرجسة ظلها في ضوء البرك الكابي‭.‬ وحدها النرجسة تتوق لعناق ظلها في غياب ظل تعانقه‭.‬‬‬‬‬‬

لأني لا أكتب لأحد‭.‬ عتبات الوجد مُشْرَعة‭.‬ وَتَرْعات لغة القبيلة لا تترك للرّشح غير فتات كلام معمّد بضلالات الوجد، يشقّ سبيله خلال الكواكب الحزينة المنكدرة ويصل نجما في الرحم لم تَطْمِثْه عين إنس ولا جان‭.‬ نعم‭.‬ رأيتهم حولي يسترقون السمع بفضول الظلموت الذي يخشى انبساط الضوء قبيل الهزيع الأخير‭.‬‬‬‬‬‬

لأني لا أكتب لأحد‭.‬ أرى الشّجى الرعوي لا يرعوي عن الهمس كنساء ميثولوجيا يبثثن النذر والكمائن ويطرزن من شكال الخيال وسادة للأجيال الحالمة‭.‬ ولأطفال يولدون بلا كريات حمراء ولا خريطة جينات تقيّد سرائرهم على وسائد المجد‭.‬‬‬‬

لأني لا أكتب لأحد‭.‬ تصير الموسيقى بطانة الكلمات والكلمات بطانة الموسيقى‭.‬ لا الراقصون يدركون مغزى الإيقاع‭.‬ ولا الشعراء يَعْبُرُونَ غوامض القصيدة‭.‬ لكن جميعهم، في حَمْأة الرقص، يغزلون ضفائر الأزل بجدية الأطفال العابثين‭.‬ قال الشاعر: سئمت المعنى الواضح كغانية بلا سرّ‭.‬ قال المغنّي: أفتقد الطرب بلا لحن ولا وتر‭.‬ قال المفكر: الظلمة حالكة، والعماء سيّد، والذهن مسخرة بين سلم وحرب‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬

لأني لا أكتب لأحد‭.‬ لا أقرأ ما أكتب‭.‬ لأنني لا أكتب ما يُقرأ‭.‬ لكن إناء السكينة كان يخط بعصا الكفيف على لوحي المحفوظ طلاسم لا تحتاج إلى معنى كي تحمل دهشة اللغز‭.‬ الحرف وحده يهمنا‭.‬ والنقطة فاتحة الحرف وواسطة العقد ومنتهى الرغبة المشتهاة‭.‬‬‬‬‬‬‬

ولأنني لا أكتب لأحد‭.‬ حبيبتي وحدها تستطيع أن تسبر مقاسات غوري‭.‬ بلا كلمات أو مظنّات أو مجسّ أو مشارط هرمينوطيقا‭.‬ لا مرضى هنا للتشريح‭.‬ ولا مكان للتحليل أو تفكيك النص‭.‬‬‬‬‬‬

هنا مدارج العشق، عطالة الحواس والعقل والخيال‭.‬ هنا التواجد ونار الوجد‭.‬‬‬

عن‭ ‬الكتابة‭ ‬والأمكنة‬‬

ماذا عساني أكتب عن أستراليا، جزيرة بحجم قارة، في زمن باتت فيه المعرفة طوع البنان، إذ يكفي أن يكلك (clic) المرء بأصابعه على زر كمبيوتر، لوهلة، حتى تمثل المعلومات المرتجاة أمام ناظريه قبل أن يرتدّ إليه طرفه… له أيضا أن يخوض تجربة سفر افتراضي يزور فيه شوارع المدن وحدائقها وساحاتها ومآثرها دون حتى أن يبارح مكانه‭.‬ لا شيء طبعا، والحالة هاته، سيكون له طعم أو مغزى إذا لم تصهر التجربة في مصهر الذات وتخرج للناس في لبس جديد تحمل “قيمة مضافة”‭.‬‬‬

المدن الجديدة والأمكنة المغايرة اختبار صريح لكينونتنا في شتى تمظهراتها الذهبية أمام مرآة العالم المنذورة للسحر والتشظّي واللاطمأنينة‭.‬‬

قلت لنفسي، المهم هو تصيّد ذلك الانطباع الهارب الذي تخلّفه حركة الناس والأشياء والضوء والكلمات‭.‬ المهم هو الأثر الذي يترسّب من لقاء العين بحركة الناس والأشياء والضوء والكلمات‭.‬‬‬

العين هنا ليست مجرد عضو حسي فحسب‭.‬ هي نافذة الروح المشرعة‭.‬ مجاز الضوء إلى مدارج العتمات‭.‬ العين تفعل أشياء كثيرة: تقتل، ترى، تنام، تحلم، تحب، تبصر، تستطلع، تحسد، تخون، تتربّص، تتلصّص، تتحسّس، تتوجس، تهوى، تشبع، تطمح، تطمع، تبكي، تضحك، تسحر وتحجّر كما في الأسطورة‭.‬ وفي ألطف وأذكى أحوالها فهي تقرأ‭.‬ تقرأ الكتب والجريدة والإشهار والرموز والخطابات والعلامات‭.‬ تقرأ الأنواء والأحلام والهواجس المتواترة‭.‬ تقرأ الشعر والقصص‭.‬ تقرأ الليل والسرّ والحجارة وحروف الهيروغليفيا‭.‬ تقرأ طبائع الناس والدول وتواريخ الإمبراطوريات ومعادن الموجودات وطرائق النجوم‭.‬ العين تقرأ الكلمات والأشياء، الخرائط والمدائن سواء‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

للأمكنة خطاباتها وأنساق دلالتها المخصوصة‭.‬ خطاب مدينة ما هو بمثابة كلام داخل لغة كونية، على القارئ تفكيك شفراته وقراءة ما بين طيّاته في مسعى للقبض على دلالة، ولو متفردة، من دلالاته المحتملة‭.‬ كل بحث عن مدلول قار لمكان ما يظل عملا منذورا للفشل‭.‬‬‬‬

الأمكنة ليست مجرّد بنايات مرصوصة أو تجمعات بشرية صمّاء‭.‬ وإنما هي مكان للالتقاء والتبادل والتواصل الحي مع الآخر‭.‬ المدن مجالات خصبة لتبادل الأفكار والمشاعر والصبوات الإنسانية، حيث تتجادل رغبات المعرفة والشهوة واللعب والمغايرة‭.‬‬‬‬

في مراكز المدن نلتقي بالآخرين، بلا موعد مسبق، فنصبح بدورنا أشخاصا آخرين تتّشح ملامحنا بنفس علامات الدهشة والغرابة واللغز والسرّ والخوف التي نسبغها على الغير‭.‬ حينئذ تبتدئ اللعبة: لعبة الأنا/الآخر، الأصلي/الوافد، الغموض/التجلّي، صراع موازين القوة اللامرئية، التفوّق، التميّز، التمايز، التفاوض، التواضع، التحسب، اللامبالاة، الكراهية، التودّد، التردّد، الارتياب والمواربة‭.‬‬‬

خلال رحلتي على أرض الكنغر أستراليا، كتبت واستذكرت عسى أن يكون في هذا الارتحال في الزمان والمكان والنصوص، حوار بين الذات والغير واللغة، الذات والذاكرة واللغة‭.‬‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.