ربيع‭ ‬العلاقة‭ ‬المريبة‬‬‬‭ ‬بين‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والإرهاب‬‬‬

الأحد 2015/03/01

إن الالتزام بالنصوص الفلسفية، لا يجب أن يُقرأ على أنه نصيّة متعالية عن مجريات الواقع البشري، بكلّ تعقيداته وتصالبه، وإنما هو مسعى معرفي نحاول فيه أن نجمع في بوتقته بين ما يفهم نصياً وما يشاهد واقعياً، فالتاريخ الذي لا ينبني على دعامتين، الرؤية النصية التي تحوز على خلاصة الفهم البشري، و الواقع الحي الذي هو حصاد أفعال البشر في الزمان، تاريخ أعرج ومُرعب‭.‬‬

لم تكن المأمورية سهلة ومفروشة بالعهود الجميلة، لأنّنا نقف على عتبة رملية من الرؤى والتفاسير، ألم يقل “بول ريكور” إنّ المستقبل هو صراع بين التفاسير، فما يسمي بـ: “الربيع العربي، الانتفاضة، الثورة، التحول العُنفي، الربيع الدامي، التغيير المأمول، ثورة الكرامة، الإرهاب، الثورة المضادة، عسكرة الثورة، ثورة الياسمين،…” وغيرها من التسميات التي ما تزال تتنزل علينا من علٍ، أو تتوالد من داخل ثقافتنا، أو من خارج أفق اشتغالها الفكري، فـ: “هذه الثورات المدنية بامتياز إنّما تشكّل تحدّياً حقيقياً وغير مسبوق وغير منتظر أمام النخب السياسية التقليدية، أكانت جزءا من السلطة أو كانت جزءا من المعارضة” ( فتحي المسكيني، الكوجيتو المجروح، ص 230)، هي بدورها إشكالية قائمة في صُلب هذا الاشتغال، وعياً منّا بأنّ المَفهمة هي المشكل الرئيس في أيّ اجتهاد فلسفي‭.‬‬

ابراهيم سعدي: ربيع بلا إزهار

ربّ اجتهاد يقودنا رأساً صوب المقال الذي طرحه كاتبنا إبراهيم سعدي من جهة التساؤل عن علاقة الربيع بظاهرة الإزهار، وهي ظاهرة طبيعية تحدث تلقائيا، غير أنّ الأمر ارتكس على مستوى التاريخ، فالربيع العربي لم يزهر في أغلب الربوع التي وقع فيها، فقد: “تراوحت التسمية بين الثورة والربيع والانتفاضة والتمرد والمؤامرة الخارجية وهلمّ جرا”، وهي مشكلة ترتد في نهاية التحليل إلى طبيعة الموقف من الحدث/المنعرج، أمّا موقفه من التسمية فهو يصدر من اعتبار ما حدث وما سيحدث هو بالحقيقي “ثورة”، وتعلّة ذلك تكمن في أنّ الثورة هي حدث مزلزل يطال البنية الاجتماعية والسياسية في عمقها، بصورة جذرية، وفق التوصيف الذي قدمه السوسيولوجي البلجيكي “(Henri Janne 1908 -1991)”‭.‬‬

بالإضافة إلى أنّ الثورة تقاس بمدى ما تحمله من عبر ومعان ودلالات تنشرها في نفوس المضطهدين والمهمّشين وضحايا الديكتاتورية، والذين سقطوا من عربة الظلم والفساد والاستعلاء، أي الذين انكسرت نفوسهم من شدّة الإذلال القاهر‭.‬ وهنا، أي في هذه التفاصيل، تسكن تلك الغربة الخطيرة في الردة على الثورة، ومن صلبها تقفز إلينا الثورة المضادة قفزا فجائياً ومخيفاً، مُستقوية بالثقافة التقليدية التي ما زالت تحن إلى الماضي وترتعد من الآتي، وتركن إلى نظام قبلي يُعضد بمنظومة الغنيمة، حيث العسكر يلعب دورا خطيرا في إنجاح الثورة المضادة، في ظلّ غياب معارضة عَلمانية أو يسارية متجذرة اجتماعياً، وحضور لافت للقوى التي تملك مرجعية إخوانية تتعاطى مع الديمقراطية كقنطرة للوصول إلى سدّة الحكم، وبعد ذلك تبدأ في الرجوع إلى مواقعها الاستبدادية، وبهذا التصور تغدو الساحة في حكم ثنائية مُخيفة تتمثل في السلطة المُعسكرة والتيار الإسلامي، كما حدث في مصر، أو في سوريا التي تشهد تقديساً للعسكري وتدنيساً للسياسي، أو في ليبيا التي لم تعد ترضى بغير لغة السلاح حلاّ لمشاكلها‭.‬‬‬

الناجي الوحيد

إنّ الثورة التونسية هي المنجز التاريخي الوحيد الناجي من هذه الثورة المضادة، لحدّ الآن، أي أنّه إزهار مؤقت محكوم ببقاء الحياة التي تحيا في جوف القوى الشبابية، نظرا لتوافرها على معطيات مخصوصة بها، بالنظر إلى وجود تجانس ديني، وقوّة المجتمع المدني والنقابي، والطابع الجمهوري للجيش، والإرث العلماني للتجربة البورقيبية، وفي قراءته للثورات العربية أكد كاتبنا أنّ الموت الحقيقي للثورة هو موتها في النفوس وانقراض شعاراتها‭.‬ غير أنّ هذه القراءة لا تنسجم مع منطلقها المعرفي، فإذا كانت الثورة هي حدث يمسّ البنية العميقة للمجتمع، فإنّ ما حدث في مصر مثلا، لا يعدّ ثورة، فالمعارضة اليسارية هشة ومنقسمة على نفسها، والتوجه العلماني يحتمي بالجيش ويهلل لقراراته، أمّا التيار الديني عموما فهو إمّا انتهازي، أو وصولي، وما يزال وفياً لمرجعيته الفكرية التي تنظر للديمقراطية بحسبانها مجرد تكتيك سياسي وليس غاية في حد ذاتها، أما التجارب الأخرى فقد احتكمت إلى منطق الغاب، وانفراد التجربة التونسية يعود بالأساس إلى ارتباطها منذ زمن تليد بالأفق الحداثي‭.‬ كلّ ذلك يؤدي بنا إلى انعدام نموذج موحد، فكيف السبيل إلى إطلاق توصيف واحد على ما يحدث، ربّما التوصيف المناسب لما يحدث في ليبيا هو تمرد قبلي، وما يحدث في مصر هو أقرب إلى انتفاضة عرجاء وجوفاء تنقصها الرؤى العظيمة، وما يحدث في تونس هو انتفاضة على الاستبداد، وما تزال الشخصية التونسية تمقته وتنفر من كلّ توجه يتحدث باستعلاء‭.‬ لذا كان لزاما علينا أن نحتاط من هكذا وصف، فالتغيير الذي حدث لا يملك سندا فلسفياً غليظا، كما حصل مع الثورة الفرنسية، و لا نصوصا كبيرة صاحبت هذا المنجز أثناء حدوثه، حتى أنّ بعض المثقفين العرب من أمثال هاشم صالح اعتذر عن توصيفه الذي منحه للحدث المصري، بأنه “ثورة تنويرية لا أصولية”‭.‬ لأنّ المعركة في الأخير هي معركة فكر يسير نحو الاستنارة وليس حصراً معركة سياسة مسكونة بهاجس اللحظة‭.‬‬‬‬‬‬

ليس بالغريب أن يناوئ المثقف صور الاستبداد، لكن الغريب في المسألة أن يحتشد خلف الاستبداد جمهرة من المثقفين، يسوّغون أفعاله، يدافعون عنه

إبراهيم الجبين: مثقفو الاستبداد

على ذات المنحى، نبش المفكر الكاتب السوري المقيم في ألمانيا “إبراهيم الجبين” عن جذور الاستبداد الذي ما زال يصول ويجول في ربوعنا الثقافية، فهو ينظر إلى الربيع العربي على أنه: “نهضة عربية جديدة، لم يشهد العرب مثلها منذ القرن السابع الميلادي، استطاعت أن تحرك الملايين خلف راية التغيير والحرية، بعد صمت طويل، ووجوم يشبه وجوم المقابر الممتدة من المحيط إلى الخليج”، وأنّ الخطر كلّ الخطر قادم من جهة الاستبداد، فهو بيت الداء، ولعلّ الصورة تبدأ في الانجلاء بمجرد الاطلاع على النقاشات الدائرة في فضاء الإعلام، حيث يشهد انقساماً حادّاً بين من يرفض الاستبداد ومن ينافح عنه، وهي حالة خطيرة على نسيج الهوية الثقافية المشتركة، وليس بالغريب أن يناوئ المثقف كلّ صور الاستبداد، لكنّ الغريب في الأمر والأنكى في المسألة، أن يحتشد خلف الاستبداد جمهرة من المثقفين، يسوّغون أفعاله، يدافعون عن رؤاه، يتمترسون في خنادقه، يظهرون على الشاشات وفي الصحف بحسبانهم حاشيته الموقرة، لأنّ الاستبداد في أمسّ الحاجة إلى “حامل ثقافي”، حامل تبلور أصلاً في محاضن متعددة، مثل المحضن النفسي كـ”متلازمة ستوكهولم”، وآلية السخرية التي كرّست التباعد بين الفئتين، وبظهور داعش ارتفع منسوب أقواله في مجرى السياسة، حيث منحه جرعة إضافية لكي يستمر في توسعة مدار اشتغاله الأيديولوجي، أمّا المنابت الاجتماعية لهذه الفئة من المثقفين، فهي متعددة فمنهم الانتهازي والمهمّش والطائفي والقريب من السلطة، واليساري… وهم يواجهون أزمة التسويغ المستمر لنظام غير إنساني، وحتى في حالة انتصار النظام الاستبدادي فإنّها ستكون عاجزة كلياً عن عقلنة أفعال إلهها الذي يخيّبها دوما، بحسب العبارة الرشيقة لإدوارد سعيد‭.‬‬

ملامسة الأيديولوجيا

ربما يسعفنا هذا الطرح في فهم أكثر لمنظومة الاستبداد والتي اكتشفنا أخيرا أنّ لها جوقة كبيرة من المثقفين تسبح بحمد القائد المُلهم، وهي بكلّ المقاييس صدمة أصابتنا في العمق، لأنّ الاستبداد ممارسة غاية في القبح، والاعتراف بهذه الفئة هي خطوة جريئة نحو الحوار معها، بعيدا عن أساليب السخرية، والاستعلاء، والتشفي فيهم، وهو موقف يعبّر عن رؤية أكثر انفتاحاً على الجميع، لأنهم جزء مفصلي من المجتمع الكبير، المأمول مستقبلاً، بالإضافة إلى أنّ كاتبنا اقترب كثيرا من تخوم الأيديولوجيا، فهو لم يضع الفئة التي تدافع عن الديمقراطية الغربية على طاولة النقد، التي استقوت دوما بالآخر الغربي، مالياً ومعرفياً، ولم تتورّع في الترويج له في ربوعنا الثقافية التي جفّت وهي تنتظر الوعد التاريخي، فهما يستويان في مسألة الالتزام بالدفاع عن الاستبداد الداخلي أو المنافحة عن الغرب الكولونيالي، فـ: “الغرب مثلا لم يؤمن بنا أبداً‭.‬ وهذا النوع من عدم الإيمان التاريخي بنا هو الذي منعه إلى حدّ الآن من متابعة حركات التغيير العميقة في بلداننا بعين مرتاحة أو ذكية أو ملتزمة أو بناءة” ( فتحي المسكيني، الكوجيتو المجروح، ص 217)، فمتى يأتي الفارس “الأمل في الشباب”، الذي تنظره أمتنا، وطني في منطلقاته، كوني في رؤيته المعرفية، إنساني في ممارساته؟


يوسف عبدلكي

أمّ الزين بن الشيخة المسكيني: الربيع والرؤوس

إن ما طرحته الكاتبة أم الزين بن شيخة المسكيني، في نصها المسكون بهواجس أمّة فقدت خارطة طريقها الحضاري، يعدُّ في نظرنا إجابة غير مباشرة عن سؤال الكاتب “إبراهيم سعدي”، لماذا لم يزهر الربيع؟ إلاّ أنّها إجابة صادمة بسؤال مغرق في الجنائزية “أهو ربيع لا تينع فيه غير الرؤوس″، لأنّ الأمر عندها يتعلق بمسألة خطيرة، هي جوهر كلّ خطاب فلسفي، ألا وهي مسألة اللغة، بحسبانها بيت الوجود ومثواه، فهذه اللغة التي كتب بها مجنون ليلي وكثير عزة وعمر بن أبي ربيعة وابن زيدون، انقلبت إلى لغة ترتع فيها أسماء وحشية مُرعبة، مثل داعش، والنصرة، والقاعدة، وجزّ الرؤوس، وتفخيخ الجثث، وسبي النساء،…والآتي قيامي بكلّ وثوق‭.‬‬

أمّا المطابقة بين داعش ودامس، فهي حافز لنا يرغمنا على التفكر في مسألة اللغة، ويدفعنا إلى الاضطلاع بمهمة النبش اللساني في متن لسان العرب لابن منظور، الذي جاءت فيه مادة “دمس″ على عدة معان متجاورة: الظلام، العتمة، إخفاء الشيء وقبره، الدفن، والديماس اسم لسجن الحجاج بن يوسف الثقفي، وسمّي بذلك لظلمته، والمدمس هو السجن، والدَودَمِسُ هي الحيةُ، ويقال عنه ينفخ نفخاً فيحرق ما أصابه‭.‬ إن هذه الحزمة من المعاني تتماهى مع داعش، هذا الدامس الجديد الذي أطلّ علينا من نافذة الجحيم، ربَّ قراءة لغوية تصيبنا في مقتل، وتُلحق بنا فتقا ميتافيزيقيا يعسر علينا رتقه‭.‬‬‬

إنّ الخوف نصيحة “توماس هوبز″ لكلّ متفلسفي العصر، والحذر لازمة “أرسطو” وتقية مارسها بحذق شديد “سبينوزا”، وهي في مجملها تنشأ من ارتفاع مؤشر المكر اللغوي، وقد ساد هذا النوع من المكر الخادع ردحاً من الزمن، حيث لم يجرؤ الغرب الكولونيالي على مقاربة تعريف الإرهاب، و تمييزه عن باقي الممارسات السياسية الأخرى مثل: المقاومة، النضال، الانتفاضة، الدفاع عن الحقوق الطبيعة، فقد تركت الحبل على الغارب، بُغية الإبقاء على مساحة المناورة كبيرة، لكن مشاهدته لركام البرجين، دفعه إلى الجهر بالسؤال/الممنوع باسطا إياه أمام كلّ الدول والثقافات والأنظمة، ولم يعد من المتاح أن يمر هذا المصطلح دون أن يُعرف على المقاس الأميركي‭.‬ إنّ الالتفات إلى هكذا مسألة كان عزما دريديا خالصا- يعني أنّ الغربي هو الذي يوقظنا من سباتنا دوماً- مؤكدا على وجود رابط قوي بين الحداثة الغربية والأصوليات، أمّا “يورغن هابرماس″ فهو يؤكد على وجود صلة رحم غليظة بين الغرب وثقافة الاستهلاك، لأنّه يسعى ويحرس في سعيه إلى مواجهة الثقافات الأخرى اعتماداً على المنتج الاستهلاكي الغربي الذي يتفِّه كلّ شيء، بما فيه الإنسان، و كذلك على أشكال قاسية من الظلم، والتهميش، والتفاوت، والاستكبار، ولا يجب أن يسقطنا هذا التفسير، في نظرية المؤامرة التي جعلت من الربيع العربي صناعة أميركية‭.‬‬‬

مصير الأمة

ترشدنا الكاتبة أمّ الزين بن شيخة المسكيني، إلى الأخذ بدرب السؤال أو التساؤل عن مصير هذا الأمّة، في ظلّ ربيع عربي لا يحمل اسمه بما فيه الكفاية، فهو ربيع الجثث والتاريخ المكتظ بالضحايا، وسقوط العقل في ديارنا، وهو ربيع التجارة بالله وبالبشر، وأنماط الإرهاب المتنوعة والمتكاثرة في سمائنا الملبّدة، والقتل الفردي والرمزي، والعلاقة المُريبة بين الديمقراطية والإرهاب، وبالتالي لا يحق لأيّ شخص أن يدّعي إمكانية فهم ما يحدث، أو تقديم تفسير مطمئن وكسول، لهذه المسائل الشائكة‭.‬ فمن ينقصه الطريق لا يعرف كيف يمشي‭.‬‬‬

يجدر بنا أن نجتهد في الاقتراب من طرح كاتبتنا أمّ الزين بن شيخة المسكيني، فهي تعمل على محاربة القراءات السطحية التي استسهلت الحدث بحسبانه نتاج عوامل داخلية أو مفاعيل خارجية، لأنها استبعدت مسائل اللغة، الاستهلاك، القتل الرمزي، التتفيه المقيت، معضلة الإرهاب وإشكالية الديمقراطية، الصفاقة الكلبية غير المتناهية، الوقاحة اللاهوتية، القتل الجماعي المجاني، وكأنها خيم نُصبت لأعراس الموت، وعلى هدي هذا التمشي، يجب تغيير إستراتيجية الحقيقية في خطابنا‭.‬ إذ يبدو أن معجمنا غير قادر على استنهاض ذاته معرفيا ومجابهة هذا الطوفان، ربّما الذي ينقذنا من هذا المصير/المتوقع هو النضال اليومي الذي يدور حول “الحلم كبير في قادم غير قيامي، بما هو غير كارثي”‭.‬‬‬

بمسافة قليلة عن هذه القراءة الحزينة لكتابتنا، وهو حزن أشبه بالفرح، يجمع بين تشاؤم الذهن وتفاؤل الإرادة، وفق العبارة الوخزية لــ”أنطونيو غرامشي”، يمكن أن نتحدث عن مسائل أخرى تحتوي على إشراقات تاه عنها الكثير من النظار، فهذا التغير المنعرج أدّى إلى: “سقوط أنظمة الطغيان والفساد” (هاشم صالح، الانتفاضات العربية، على ضوء فلسفة التاريخ، ص 49)، وإحدى: “مميزات الانتفاضات العربية الراهنة هي أنّها أسقطت باراديغم الخوف‭.‬ وربّما يكمن هنا أعظم إنجازاتها” (هاشم صالح ، هامش ص 237)، وبهذا الشكل يكون الربيع العربي له معنى ودلالة، غير آبهين صياغة على الإطلاق بمسألة الزمن، فــ: “الربيع العربي لن ينجح غداً ولن يؤتي ثماره إلاّ بعد زمن طويل‭.‬ هل آتت الثورة الفرنسية ثمارها إلا بعد مئة سنة من حصولها؟” (هاشم صالح، ص 52)‭.‬ أمّا المسألة المُخيفة في الحدث، وهي الإرهاب، فلها: “ما يبررها مؤقتا‭.‬ إنها تجسيد لثقل التراث عبر التاريخ” (هاشم صالح، ص 55)، أو كما وصفها كاتبنا فتحي المسكيني بأفق الملة الرابض فوق تفكيرنا‭.‬‬‬‬‬‬

فتحي المسكيني: تحرير العبيد

ومن صلب هذا الأفق، نبدأ في فرش أطروحة كاتبنا “فتحي المسكيني” التي دشن مسارها في كتابين هما: “الهوية والحرية، نحو أنوار جديدة” و”الكوجيتو المجروح، أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة”، غير أنّه يجرب طريقة طريفة في تحليله لهذا الحدث/المنعرج، الذي تمرّد على كلّ البنيات التقليدية، وهي الاستئناس بوثيقة تاريخية أصدرها أحمد باي، بتاريخ 6 سبتمبر 1841، تقضي بمنع الاتجار بالرقيق وبيعهم، وفي 23 يناير 1846، أصدر الأمر المرتبط بإبطال الرق‭.‬ وطرافتها تبرز في اعتبارها مساحة معرفية مارس عليها كاتبنا “تمارين تجريبية غير مباشرة على معنى الثورة التي تحولت منذ الانتخابات التي سيطر عليها الإسلاميون في تونس ومصر إلى ورشة مزعجة على تحرير الحرية ما بعد الديكتاتورية من غير المؤمنين بها‭.‬ كلّ مساوئ تحرير العبيد التي وردت في رسالة منع الرق يمكن استكشافها في ثورات الربيع العربي”، لكن كيف نستطيع فهم هذه المقاربة التي استحضر فيها نصاً تراثياً يتحدث عن إلزامية تحرير العبيد واستيعابها، والسعي نحو ترهين هذه الوثيقة لتعزيز افتراض مفاده أنّ: “إرادة الثورة ما بعد الأيديولوجية، التي حرّكت الشعوب العربية ما بعد الديكتاتورية، منذ مطلع 2011، لم تتخط براديغم ثورات العبيد راسخ الجذور في تاريخ الشأن السياسي في دولة الملّة إلاّ بشكل عرضي، ولا سيما في حالة استثنائية إلى حدّ الآن: هي الحالة التونسية الراهنة‭.‬‬‬‬

نستبصر هنا أن الثورات العربية لم تخرج من هذه الدائرة الملية بعد، ولم تتخط براديغم ثورات العبيد، فهي "فوقية وخارجية وأقلية"

المراوحة التاريخية

إن طرافة هذا التخريج/المقارنة تكمن أساساً في أنّ التغيير لم يمسّ نهائياً البنية العميقة لتفكيرنا، فما زلنا في ذات النقطة التاريخية التي خمّن فيها أحمد باي، ولم نتحرك قيد أنملة، فأغلب هذه القيم ما زالت متحكمة في رقابنا المعرفية، ويمكن رصدها في العناصر التالي:

-إن موضوع منع الرق قد فُسّر استناداً إلى أسباب إنسانية خالصة كمعاناة العبيد من سوء المعاملة، ولم يبنى على قواعد تتعلق رأساً بحقوق الكائن الإنساني الطبيعية، أي لم ينظر إلى هذا الكائن “العبد” إلى كينونته التي بموجبها يكون قميناً بهكذا حق في الحرية في صورتها المطلقة‭.‬ إنّ هذه القراءة تقدم لنا صورة عن مالك يحتجز الحرية عنده ويمنحها أو يمنّ على مملوكيه بها، وهذه تقوم على فرضية مخبأة في جوف الفكر الذي يخمّن ضمن هذه الإحداثية، هي فرضية التراتب الأنطولوجي الممقوت‭.‬‬‬

-إنّ قرار التحرير الذي أصدره “أحمد باي” يجسد به أن الدولة هي التي تحمي هذه الفئة، وبعد النظر في المسألة بمعاينة ظروفها، تبيّن لها ضرورة تحرير هذه الفئة، أي أنها هي التي تحتكر مسائل عديدة من بينها: إنّ تحرير العبيد يدور وجودا وعدماً مع إستراتيجية الدولة، وبالتالي ليست مسألة تتعلق بحقوق الإنسان كإنسان، وإنّما مرتبطة بظروف الدولة وحساباتها السياسية، دون أن تطرح قضية الإيمان من عدمه، وهي بذلك: “تخفي طمعاً مرعباً في امتلاك حقّ أخروي في التصرف في معنى المستقبل لدى محكوميها”، بالإضافة إلى مسألة خطيرة تتمثل في “رغبة الدولة في احتكار مساحة الحرية”، ولا يمكن استبعاد، من هذا التصور، حتى علماء الأمة وفقهاؤها تقديما وتأخيرا، لأنهم جزء رئيس من السلطة الحاكمة تأتمر بقراراتها وتلتزم بخطها العقدي والتشريعي‭.‬ من هنا نستطيع أن نتحدث عن سلطة مكتملة سياسياً وفقهياً تتجمع لديها الحق المطلق في الفتوى، الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر‭.‬ أمّا الخلاف أو المعارضة أو الاختلاف أو الفتوى المضادة، فهي قضاياً مستبعدة من هذه الإحداثية، لأنّ ” كل خلاف هو بركة ميتافيزيقية، وليس مجرد خصومة مذهبية”‭.‬‬‬‬

-لا يستطيع أفق الملّة الذي ما زال رابضاً هناك فوق هضبة القبيلة الكبيرة، كالعسس يترصد الزلات والأخطاء لكي يقتات منها، أن يذهب بعيدا في مسألة الحرية، وأن يصل بها إلى منتهاها الأنطولوجي والمعرفي والسياسي، فهي دوماً مُقيدة ومُسيّجة بسياجات فقهية، والسلطة هي الجهة الوحيدة القادرة على اختراقها‭.‬‬

-نستبصر هنا أنّ الثورات العربية لم تخرج من هذه الدائرة المليّة بعد، ولم تتخط براديغم ثورات العبيد، فهي “فوقية وخارجية وأقلية”‭.‬‬

وعليه لم تكن قراءة المسكيني مجرد إسقاط نص تاريخي على راهن يجري أمامنا ويقيم بين ظهرانينا، وإنّما هي بالأحرى تأكيد على أنّ التجاوز التاريخي والتخطّي الميتافيزيقي لم يحدث بعد، لأنّ زمننا دائري في كنهه‭.‬ غير أنّ المسألة يمكن أن ترُى من زوايا أخرى، فالثورات العربية استئناساً بنصوص كاتبنا “فتحي المسكيني”، لها سمات كثيرة فــ: “إنّ أهم سمة للثورة الجديدة هي بثّ السخط الكبير في الفضاءات المشتركة حيث تعمل “نحن” بلا ضمير خاص، كانت أفضل أشكال التعبير عنها هي عبارة “الشعب يريد…” التي ترددت أصداؤها من تونس إلى اليمن‭.‬ و يبدو لنا أنّ لفظة “الشعب” هنا ليست قومية أو عرقية، بل تعبيرية أو تشكيلية: في غياب اسم أو ضمير واحد أو متفق عليه لأنفسنا الجديدة، أي الثائرة والحرة، ثم اللجوء إلى أبسط أسمائنا وأقلّ ضمائرنا غموضا أو طائفية” (فتحي المسكيني، الكوجيطو المجروح، ص 220).

منجزات أكيدة

ربّ نص يرشدنا إلى مسألة خطيرة على مستوى التفكير الحديث والمعاصر، هو أنّ لهذه الثورات العربية منجزات عديدة يأتي في مقدمتها: انتقال التفكير من أفق الملة بمفرداته: الفتوى، الجماعة، أولو الأمر، إلى مصطلحات الشعب، الجمهور، المجتمع المدني، النقابة، وهي مفردات تتحرك في إحداثيات جديدة، تتماهى مع حاجات راهنة مثل: الكرامة، الحرية، الفردية، تطبيق مبدأ الاعتراف ونشره وغرسه، بداية ذوبان جبل الجليد الذي منعنا من ألق الإنسانية الحقيقي ألا وهو جبل الخوف، هذا: “الانزياح من منطق الملّة إلى طبيعة النوع الإنساني في تخريج ماهية الفعل المدني الذي يؤمّن نمط وجود الحيوان الناطق عل الأرض، هو أخطر محاولة في ثقافتنا الكلاسيكية لفكّ الارتباط المنهجي بين خُلق الدعوة وخُلق السياسة” (فتحي المسكيني، الهوية والحرية، ص 30).

نحن هنا لا نستبعد ما قدمه كاتبنا “فتحي المسكيني” من قراءة لهذه الثورات على أنّها ثورة عبيد ولكن بصورة حداثية، غير أنّ الأمر في حاجة إلى تغيير موقع النظر، فالفيلسوف الفرنسي “إدغار موران” يعتبر أن: “هذه الانتفاضات العفوية الصاعدة من الأعماق بدّدت الصورة السائدة عن العرب في أوروبا والعالم كله… وانفجار الانتفاضات العربية في هذا الربيع الجميل على أيدي الشبيبة المطالبة بالحرية والكرامة والتقزز من فساد الطغاة وحاشيتهم أثبت لنا أنّ حبّ الديمقراطية ليس حكراً على الشعوب الغربية، ولكنّه كوني يخصّ كلّ الشعوب‭.‬” (هاشم صالح: الانتفاضات العربية، على ضوء فلسفة التاريخ ص 279)‭.‬ ويدلّ كذلك على أهمية الحدث في زحزحة الثابت وحلحلة ما هو قار في ثقافتنا الكلاسيكية التي لا تتناسب مع أنفسنا الجديدة‭.‬ يبدو من كلّ هذا أنّ الدين هو التنين الأكبر في أي حديث فلسفي‭.‬‬‬‬‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.