حول ملف \'الثقافة والمؤنث\':‭ ‬سؤال‭ ‬في‭ ‬الأفق‭ ‬النظري‬‬‬‬

الأحد 2015/03/01
لوحة: زينب السجيني

حيث أكد فيهما أنه لا توجد ذكورة مطلقة، أو أنوثة مطلقة وهو يعني بذلك أن ثمة على الأقل شيئا من الأنوثة في البنية النفسية عند كل ذكر، وهناك أيضا شيء من الذكورة في البنية النفسية عند النساء تبرزان، أو تختفيان دون أن تزولا نهائيا، طبقا للنشأة وجرّاء التماهي وآليات استدخال أحد الوالدين بلا وعي إلى طبقات اللاوعي في المراحل المبكرة جدّا جدّا من تكوين البنية النفسية‭.‬‬

أعتقد أن سيمون دي بوفوار كانت تفكّر، ولو دون وعي منها، في أطروحة فرويد هذه في كتابها الشهير “الجنس الثاني” الذي ورد فيه أن “المرأة لا تولد امرأة وإنما تصبح امرأة “، وهي تعني في التحليل الأخير أن المجتمع سواء كان بطريركي الثقافة والتنظيم الاجتماعي أو كان ديمقراطيا -بغض النظر عن الزمان والمكان- هو الذي يشكل بنيات الأنوثة والذكورة إمّا كثنائيتين متوازيتين متضادتين، أو كعلاقة إنسانية مؤسسة على الاعتراف المتبادل بينهما‭.‬ من هنا يصح القول، مثلما يعتقد ما بعد البنيويين، بأن ذات الأنثى وذات الذكر مشروطتان تاريخيا وأن ميلادهما لا يمكن أن يتمّ خارج الصراع مع إكراهات البنية التحتية والبنية الفوقية اللتين اصطلح أنطونيو غرامشي على وجودهما التفاعلي بالكتلة التاريخية‭.‬‬‬

أعتقد أيضا أن عنوان الملف المقترح بحصافة وهو “الثقافة والمؤنث: الكتابة والمرأة والمجتمع″ ينطلق من المرافعة التي تحاجج أن الثقافة السائدة في أيّ مجتمع هي التي تصنع مفهوم المرأة، ومفهوم الذكر، والمقصود بالثقافة هنا هو مجمل الشروط التاريخية المادية ومجمل عناصر السجلّ الرمزي متبادلة التأثير والاعتماد التي تسم حقبة تاريخية ما في أيّ مجتمع من المجتمعات‭.‬ إنه لا ينبغي أن يفهم أن هذا التفسير المادي والرمزي لصنع الذوات وميلادها القبول بأيّ جبرية ثقافية أو مادية لأن المفهومين المذكورين هما مثل أيّ ظاهرة من الظواهرية قابلان دائما للتعديل والتغيير إذا توفر الوعي النقدي ومشروع التحرير الذي يقوّض أركان خطابات الثقافة الذكورية السائدة ودعائمها المادية‭.‬‬‬

لغة التحرير

إلى جانب التشجيع الذي وجدته عند فرويد فقد وجدت محفّزا ثانيا، عند المفكّرة والمحلّلة النفسية جوليا كريستيفا، سوغ لي أيضا أن أنخرط في ممارسة هذا التعليق النقدي‭.‬ ألخّص هذا المحفز الثاني، الذي له علاقة وطيدة بمشروع تحرير المرأة والرجل معا، في التحليل الذكي الذي قامت به كريستيفا لأعمال بعض الأدباء والشعراء الفرنسيين وفي الطليعة أنطوان أرتو وسيفن مالارميه‭..‬ الخ ‭.‬ في تحليلاتها هذه، وخاصة في كتابها “ثورة في اللغة الشعرية” وفي مقالها المكتنز “أزمنة النساء” ودراسات أخرى استنتجت كريستيفا أن نصوص أرتو ومالارميه إلى جانب شعراء آخرين لم تكتب باللغة المثقلة بالأيديولوجيا وإكراهات الذكورة بل فهي قد كتبت بلغة ما “قبل لغة السجل الرمزي” الذكوري المتحكم في المجتمع واصطلحت على هذا النمط من اللغة بالسيميائي‭.‬ حسب كريستيفا فإن هذا السيميائي لا يعني السيميائية من قريب أو من بعيد وذلك رفعا للالتباس في استخدام هذا المصطلح ذي الخصوصية الفريدة من نوعها‭.‬ فالسيميائي وفقا لنظرية كريستيفا هو لغة ما قبل الدخول في المرحلة الأوديبية‭.‬ إنها اللغة التي “لم تستعمرها” بعد أيديولوجيا قانون الأب وتطبيقاتها المتمثلة في إكراهات السجل الرمزي البطريركي السائد في المجتمع‭.‬‬‬‬‬‬‬‬

إذن، فإن تركيز كريستيفا على تفعيل لغة الأنوثة المدعوة السيميائي المنفصل عن قانون الأب/الذكورة المستبد والبحث عنها في النصوص الأدبية الإبداعية خاصة يمثل عندها استراتيجية معرفية وسياسية تمكّن النظرية النسوية من اكتساب الفاعلية Agency على طريق التحرر من البطريركية وتراثها الرمزي والمادي والنفسي المكبل للنساء‭.‬‬

إن هذا يعني أن الانتصار لهذا النوع من “ما قبل اللغة “، أي لـ( السيميائي)/ما قبل الأوديبي، هو الشرط الضروري لإمكانية نسف ثنائية الذكورة/الأنوثة النفسية المتضادة وما يترتب عنها من تداعيات تخل بإمكانية بناء الديمقراطية في نسيج البنية العائلية، وعلاقات العيش المشترك في فضاء المجتمع المدني والسياسي والاقتصادي والثقافي بين المرأة والرجل‭.‬‬

لا شك أن نسف هذه الثنائية هو الطريق الملكي المؤدي أيضا إلى تفكيك وزحزحة ثنائية نص الذكورة/نص الأنوثة المتوازية والمتضادة واستبدالها بالنص المتفاعل مثل ذلك التفاعل الذي يحدث بين الثقافات والهويات في لحظة الكرنفال الذي تحدث عنه ميخائيل باختين وهو يبني نظريتيه عن الحوارية وعن التناص‭.‬‬

في هذا السياق أعتقد أن المقالات والشهادات التي تضمنها هذا الملف تشدّد على ضرورة توزيع السلطة ديمقراطيا داخل مسرح الأسرة وامتداداتها في المجتمع، وهي تكتنز الكثير من النظرات والأفكار الجديرة بالتنويه خاصة وأنّها تقف بوضوح وصدق وكثير من الانفعال الايجابي إلى جانب المرأة في معركتها لكسر قيود البنيات الثقافية والمادية الذّكورية التعسفية المكرسة في بلداننا على أصعدة بنيات الرأسمال الاجتماعي، والقوانين الناظمة للمجتمع، وفي المؤسسات ذات الطابع الإداري والسياسي، والاقتصادي والتربوي على اختلافها وتنوّعها، وكذلك في الإنتاج الثقافي والفني الشعبي بكل أشكاله وتنوعاته، وفي ما يدعى بأنماط الثقافة العالمة بما في ذلك المعمار، وفي السلوك اليومي‭.‬‬

إن هذا الملف يتكون من المقالات التالية: (“تقويض فكرة التمركز حول الذكورة-الكتابة النسائية صوتا وصدى”، للكاتبة المغربية سعاد مسكين، و”احتجاج على واقع مكبوت”، للكاتبة المغربية فاطمة الزهراء المرابط، و”المغيّبة في الفكر العربي” للدكتور إسماعيل مهنانة من الجزائر، و”سرد المرأة، طريق العقلانية” للروائي الجزائري بقطاش مرزاق، و”ربيع العرب أم خريف المرأة ” للكاتبة السعودية أميرة كشغري)‭.‬‬

مشكلات أساسية

بادئ ذي بدء، أريد أن أشير بسرعة إلى عدد من المشكلات الأساسية التي لفتت انتباهي في هذه المقالات التي لم تبلور نظريا، ولم تدرس من منظور تاريخي ذي صلة بمجتمعاتنا على نحو خاص‭.‬ ألخّص هذه المشكلات كالتالي:‬

1 قضية ما يصطلح عليه بالثنائية المتوازية والمتضادة: نسق كتابة الأنثى/نسق الكتابة الذكورية‭.‬‬

2 التعميم الذي يظهر في نقد بعض هذه المقالات للمركزية الذكورية، وأقصد بالتعميم اعتبار كل الرجال متمركزين ذكوريا إبداعيا وثقافيا واجتماعيا، وأنّ كل النساء بريئات من هذا مضامين وأشكال هذا التمركز الذكوري، وإلى جانب تصوير المرأة كضحية أبدية وإعفائها بسبب هذا من مسؤولية إنتاج، وإعادة إنتاج، رأسمال الذكورة الرمزي والمادي بلا وعي غالبا عبر تاريخ مجتمعاتنا‭.‬‬

3 الخلط بين مصطلحي السيطرة والهيمنة من جهة، والنظر، من جهة أخرى، إلى مختلف أشكال السيطرة، والهيمنة الذكورية المادية والثقافية والسياسية في مجتمعاتنا على أنها من صنع الذكورة التي تدمغ بصفة الجوهرانية يسندها منظور تقليدي ينافح أصحابه أن الذكورة معطى قبلي وليست معطى تاريخيا، وأنّ هامشية الأنوثة هي معطى جوهراني أيضا‭.‬‬

لا شك أن “الهيمنة” و”السيطرة” -بكل تفريعاتهما وتطبيقاتهما المادية والرمزية كما في النموذج السائد في مجتمعاتنا- ليستا من إنتاج الفرد الذكر الواحد بعينه، وإنما هما حصيلة احتكار التموقع الاجتماعي/الاقتصادي والثقافي والمهني بركيزته وبعده السياسيين من طرف هذه الشريحة الاجتماعية أو تلك الشريحة الأخرى‭.‬ ودون شك فإن هذا النمط من التموقع الاحتكاري قد أسهمت ولاتزال تساهم فيه شرائح معينة من النساء بحكم الانتماء عائليا، أو بحكم المركز الإداري أو السياسي، إلى الشريحة أو النخبة، أو المجموعة المسيطرة، أو المهيمنة في إطار ما أسمّيه بالبنية العائلية الاحتكارية أو البنية السلطوية في أجهزة الدولة ونظامها السياسي، أو في مؤسسات القطاع الخاص ذي الطابع الرأسمالي المتوحش الذي تتميز به قطاعات معينة في بلدان العالم الثالث منها بلداننا‭.‬‬‬

في هذا السياق نرى أنه لا يمكن إدراك مرجعيات وأسباب وآليات السيطرة، أو الهيمنة الذكورية في مجتمعاتنا دون تفكيك البنيات والأجهزة الأيديولوجية العنيفة أو الناعمة التي تلعب دورا مفصليا في إنتاج وتسويغ عدم المساواة الاجتماعية، وفي بناء وتشكيل الهوية العصبية المادية/الرمزية بداخل ذلك المربع الذي تتشكل أضلاعه من فسيفساء روابط القبيلة، أو الطائفة، أو لعشيرة، أو الإثنية الثقافية/اللغوية حيث نجد قطاعا من النساء جزء عضويا من هذا السيناريو‭.‬ إن الدليل على صحّة هذا التشخيص هو أن جزءا لا يستهان به مما يدعى بنضالات المرأة في مجتمعاتنا لا يتم في الغالب على أساس الموقف الطبقي التاريخي الحاسم بعيدا عن الولاء أو الانتماء القبلي أو الطائفي أو العشائري أو الإثني، أو النخبوي الاقتصادي، أو الشللي (ما عدا حالات نادرة استثنائية لا تشكّل ظاهرة تاريخية)‭.‬ إن الذكور والإناث المؤطّرين في هذا الوضع القبلي، أو الطائفي، أو العشائري هو الذي أدّى بالمحلل النفسي المصري مصطفى صفوان إلى القول بأن الذات في مجتمعاتنا لا تتشكل في الغالب على أساس حل عقدة أوديب لأن الطفل أو الطفلة في أغلب مجتمعاتنا غير محكومين نسبيا بهذه العقدة بقدر من كونهما محكومين بعقدة القبيلة، أو العشيرة، أو الطائفة أو الإثنية التي تحلّ محل قانون الأب الذي دوّخنا به طويلا المحلل النفسي والمفكر الفرنسي المثير للجدل جاك لاكان…‬‬

4 أما الملاحظة الرابعة التي تسجل هنا، وأنا أستمتع بقراءة مقالات شهادات زملائي وزميلاتي فإنها تتّصل بعدم دراستها التفصيلية لمختلف المحطات والخلفيات التاريخية الأساسية التي شكّلت -في مجتمعاتنا على اختلاف تجاربها وتنوع تواريخها- البنيات المادية والرمزية والنفسية لنمط المجتمع الأبوي/البطريركي التي لا تزال تداعياته قائمة ومؤثّرة بقوة في حياتنا التي لم تخرج تماما بعد من فكّي التخلف المادي والتخلّف الثقافي والنفسي والسياسي‭.‬‬

الملاحظ في هذا الملف ندرة الاجتهاد النظري النابع من التجربة الثقافية والاجتماعية والسياسية في الفكر العربي فيما يخص مسألة الأنوثة

أين الخلفيات التاريخية؟

تنبغي الإشارة أيضا إلى عدم اهتمام المقالات بدراسة نقاط قوة ونقاط ضعف المرأة في مجتمعاتنا في العصور القديمة والحديثة، وفي عصرنا هذا وعلى وجه الخصوص في مراحل حركات التحرر الوطني التي لعبت خلالها شرائح كبيرة من النساء دورا مقاوما مفصليا لا ينبغي نسيانه وإهماله أو إنكاره‭.‬ لا شك أن دراسة هذه النقاط والكشف عن أشكال ومضامين هذه المراحل التاريخية ستوضّح الكثير من المعالم المتصلة بنضال النساء في مجتمعاتنا‭.‬‬‬

إذا فتحنا ملفّ التاريخ القديم فإننا نجد المؤرخ هيرودوتس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد قد أكّد بوضوح كامل في كتابه “التواريخ” وعلى ضوء زيارته الميدانية لإقليم ليبيا أن المرأة الأمازيغية اللوبية (الليبية بلغة عصرنا) كانت متحرّرة بمقياس ذلك العصر ومقارنة بالمرأة في المجتمع اليوناني، وأنها كانت غير تابعة للرجل، وروى في سردياته الكثيرة أن المرأة الليبية كانت قطب ومركز العائلة، وأنها سبقت النساء اليونانيات إلى عالم الرياضة، منها لعبة الهوكي التي لم يكن يعرفها اليونان والغرب برمّته في ذلك الوقت‭.‬ إن هذه النقاط المضيئة من تاريخ النساء في كثير من مجتمعاتنا يبرزها أيضا المفكر أنجلز في كتابه “أصل العائلة والملكية الفردية” حيث أكد فيه أن السيادة في طور المجتمع المشاعي/الأَمَوي ( نسبة إلى الأمّ) كانت للمرأة‭.‬ وبهذا الصدد قدم أنجلز في كتابه المذكور أمثلة ساطعة عن سيادة النساء في مجتمعات شمال أفريقيا حيث أوضح أن الرجل في هذه المجتمعات لم يكن قطبا مركزيا مهيمنا أو مسيطرا سواء داخل بنية العائلة، أو في رحاب فضاء المجتمع برمّته، ثم أوضح أن سلب حرية المرأة قد بدأت عندما سيطر الذكور على وسائل وعلاقات الإنتاج وذلك في معرض تفسيره المادي للتاريخ‭.‬‬‬‬

5 أما المشكلة الأخرى التي لاحظتها بارزة في مقالات “ملفّ الأنثى” فتتمثل في تقديري في شحوب الجهاز النظري وتطبيقاته المنهجية أثناء مقاربة قضية المرأة بشكل عام، وتفكيك إشكالية بنية الأنوثة وبنية الذكورة، وما يدعى خاصة بكتابة المرأة وكتابة الرجل، والحال، فإن ندرة النظرية -باعتبارها الممارسة وهي تكيّف وتصحّح وتعدّل نفسها، وطرائق تعاملها مع مختلف الظواهر- في حياتنا الفكرية والثقافية بكل تفاصيلها، تعدّ ظاهرة عامة مستشرية‭.‬‬

بعد الملاحظات الأوّلية التي سجلتها بخصوص عدد من المقالات المنشورة في الملف، أختم بالنظر في بعض القضايا الأساسية التي أثارها بكثير من الجدية إسماعيل مهنانة أستاذ فلسفة مارتن هيدغر في جامعة قسنطينة بالجزائر الذي يعتبر أن تاريخ الفلسفة يتميز بأنه “ذاكرة ذكورية من حيث الأسماء ومن حيث ماهية الفلسفة كطريقة ذكورية في التعاطي مع مشكلات العالم والوجود والإنسان”، كما أن هذا التاريخ هو “تاريخ إقصاء للمرأة وللأنوثة ولمسألة الاختلاف الجنسي” ولا يستثني حتى أفلاطون‭.‬ يرى الدكتور مهنانة أيضا أن المفكر العربي المعاصر قد “ورث هذا، إلى جانب البنية البطريركية والقبلية العربية والمشرقية في التعاطي مع مسألة الأنوثة”، كما أن هذا المفكر العربي المعاصر حسب تقديره قد “ورث أيضا أدوات ومناهج التفكير عند الفلاسفة الغربيين المعاصرين الذين لا يقلّون مركزية ذكورية وقضيبية ويسمي منهم: (هيدغر، فرويد، ماركس، فوكو،، ديكارت وهيجل وشوبنهور عدوّ المرأة)‭.‬‬‬

إن هذا المفكّر العربي كمفرد بصيغة الجمع يتمثل في نظره في “مدونات عبدالرحمن بدوي، حسن حنفي، محمد عابد الجابري، ومحمد أركون، ولكنه يستثني سلفهم قاسم أمين فقط الذي طُوي بعده ملف المرأة والأنوثة حسب رأيه‭.‬ هنا يصل الدكتور مهنانة إلى قراءة سبب أزمة الفكر العربي في علاقته بالمرأة والأنوثة الذي يراه في أن المفكر العربي “يفكّر بأدوات ومقولات حداثية ولكنه يدخل في علاقات تقليدية مثل الزواج، تربية الأولاد، والعلاقات الأسرية دون الانخراط في التغيير، أو المقاومة أو الرفض”…‬

نقائص مفهوم الخطاب

لا شك أن بعض أحكام الدكتور مهنانة مبرّرة جزئيا، وجزئيا فقط، سواء في ما يتعلق بقراءته الانتقائية لعيّنات محدودة من وجوه الفلسفة الغربية، أو لعيّنات محدودة أيضا من وجوه الفكر العربي الحديث أو المعاصر، ولكن يلاحظ أن هذا التعميم الذي يتخذ شكل العنف الإبستمولوجي في كثير من الأحيان لا يصمد أمام التحليل التاريخي لكثير من مضامين الفلسفة الغربية أو لمضامين الفكر العربي الحديث أو المعاصر‭.‬ فأفلاطون الذي يعتبره الدكتور مهنانة ذكوريا وإقصائيا للمرأة هو الذي نفسه من خصص جزء كبيرا من كتابه (طايمس) لتأويل الوجود على أنه مثل رحم المرأة الأنثى، وأنه وعاء الكينونة‭.‬ إذا كان الوجود/الكون هو هكذا، فإنه بالنتيجة، وجود/كون مؤنث له صفات المرأة الأنثى‭.‬ أما فوكو الذي يدرجه مهنانة ضمن كورال الذكوريين فإنه في كتابه (تاريخ الجنسية 1) قد فكّك تقنيات وبيداغوجيات العصر الفيكتوري المتزمت والمتميز بإقصاء الجنس والمرأة، ورفض فوكو هذا التراث المظلم في الفكر الغربي، وتطبيقاته السياسية والاجتماعية‭.‬ وأكثر من ذلك فإن فوكو قد وفّر، من خلال تطويره لفكرة الخطاب، للحركات النسوية وخاصة الراديكالية منها جهازا نظريا استراتيجيا لتفكيك التمثيلات المتمركزة ذكوريا وعلاقات القوة السائدة في المجتمعات الذكورية قديما وحديثا وفي عصرنا‭.‬‬‬‬‬‬

صحيح أن فكرة الخطاب عند فوكو مؤسسة على الجبرية، بمعنى أن الخطابات هي التي تبني الذاتيات وهذا في حد ذاته يسلب هذه الذاتيات حريتها وقوة التغيير لديها‭.‬ إن هذا بالضبط هو ما انتقده إدوارد سعيد واعتبره نقطة ضعف في فكر فوكو وتغييبا لبعد المقاومة لديه في مرحلة من مراحله الفكرية‭.‬‬‬

لا أشارك إسماعيل مهنانة في فرضياته التي يعتبر، من خلالها، أن ملف المرأة والأنوثة قد طُوي بعد قاسم أمين في مشهد الفكر العربي لأن ثمّة مثقفين ومفكرين عربا فتحوا ولا يزالون يفتحون مجددا هذا الملف مثل الطاهر الحداد، ونصر حامد أبو زيد، وفاطمة المنيسي، ونوال السعداوي وغيرهم/غيرهنّ كثير‭.‬‬

إن الملاحظ في هذا السياق هو ندرة الاجتهاد النظري المستقل والنابع من التجربة الثقافية والاجتماعية والسياسية في الفكر العربي فيما يخص دراسة الجندر، وبنيات الأنوثة‭..‬ الخ‭.‬ هنا أريد أن أتساءل: هل هناك تناقض بين التفكير بأدوات ومقولات حداثية وبين علاقات الزواج وتربية الأولاد والعلاقات الأسرية؟ ثم هل الحداثة وخطاباتها الكبرى التي قدم لها ما بعد البنيويين وما بعد الحداثيين (جان فرانسوا ليوطار، مثلا) ميراث فكري ومؤسساتي غير مرتبط بالرأسمالية المستغلة، باستثناء مشروع كارل ماركس مثلا الذي لم يسلم من وصمة التمركز الغربي؟‬‬

من البديهي أن الحركة النسوية في الغرب أو في الجغرافيات الأخرى لا تهدف في الأساس إلى إلغاء الرابطة الزوجية أو الأسرة أو الانخراط في تربية الأولاد، وإنما هدفت ولا تزال تهدف إلى إعادة بناء دمقرطة العلاقة بين الزوج والزوجة وتأسيسها على الشراكة والتكافؤ والحب‭.‬ هناك ملاحظات أخرى تستحق التسجيل ويمكن العودة إليها في مناسبة أخرى مادامت مجلة "الجديد" قد أعلنت أن جزءا أساسيا من مشروعها الفكري هو فتح المجال للنقاش حول قضايا المرأة من أجل إعادة بناء العلاقة بين الر جال والنساء على أسس ديمقراطية ومجتمعات متطورة توزّع فيها السلطة بعدالة داخل الأسرة وفي امتداداتها في مسرح الدولة ككل‭.‬‬‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.