الثقافة‭ ‬العربية‬‬ بين‭ ‬الاستبداد‭ ‬والتحرر‬‬‬‬

الأحد 2015/03/01
لوحة: ياسر أبو الحرم

المجتمع العربي من أغنى التجمعات السكانية تاريخا وثقافتا وتراثا، فعلى امتداد التاريخ الإنساني الطويل كان له الدور المتميز والرائد في إغناء الحضارة الإنسانية ولعلّ حضارة وادي الرافدين ووادي النيل مثال حيّ لجوهر الفرد العربي ورقيّه حين يفكر بعقلانية ويمنح مساحة واسعة لحرية التفكير والإبداع والدعم‭..‬ ثم الانتقالة النموذجية للثقافة من خلال الدولة الأموية والعباسية التين رعتا الفكر والمفكرين وأبرز ملامح هذا التطور هو بيت الحكمة الذي أسسه الخليفة العباسي المأمون، ويستمر الإبداع الثقافي العربي رغم المعضلات التي واجهته من خلال الغزو الممنهج خلال الحقب التاريخية‭..‬ وتسلط بعض الأنظمة الدكتاتورية على مقاليد السلطة وتفننها في ابتكار أساليب القمع وكتم الأصوات‭..‬ التي كان لها الأثر السلبي والإيجابي على جوهر التطور الثقافي العربي، وعادة ما تعتمد الأنظمة السياسية الاستبدادية الدكتاتورية في أسس حكمها محاربة الحس الثقافي الواعي باعتبار حامليه معارضين لمشروع ممارسة حكم الدولة القائمة على الظلم والجشع، فمنذ أن كان المتسلّط والمثقّفون يحاكمون ويسجنون ويعدمون ويغرّبون‭.‬ فالمؤسسات الحاكمة الأوتوقراطية تتعامل مع مسألة الثقافة والوعي بالتهميش والحصار والذي يتخذ شكلا ناعما لكنه مكشوف عبر استراتيجية استقطاب أهل الثقافة والعلم وإبعادهم عن الخط والاتجاه الأصلي للعمل الثقافي الجوهري وأيضا للدور القيادي الذي يضطلع به المثقف، بأن يرسّخ الوعي الديموقراطي والإنساني لمجتمعه، مساهما بذلك في التأثير وصياغة الحدث السياسي والاجتماعي والاقتصادي ومجمل التحولات الفكرية‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

فالثقافة والمعرفة الحقيقية يعدان ركيزة بلوغ الوعي الفكري والإطار الموجه للوعي الذاتي والاقتصادي والاجتماعي، والثقافة في شقها الفلسفي العلمي تعتبر الأساس والمنهج والعماد المؤسس للوعي السياسي الناهض بثقافة حقوق الإنسان كفكر عقلاني تنويري وإنساني وثوري‭..‬‬‬

وعلى الرغم من التنوّع الكثيف الذي يكتنف العالم العربي عرقياً ولغوياً ودينياً ما يتطلب تعدّدية سياسية وثقافية تمكِّن الجماعات المختلفة من التعبير عن خصوصياتها وفعالياتها، ورغم الواقع الثقافي المستمد من الثقافة الإسلامية التي تعترف بالتنوّع وتشجع على الحرية والتعبير عن الاختلاف، إلاَّ أن التعددية السياسية النموذجية المطلوبة في العالم العربي بامتياز تعتبر هي الغائب الأكبر في الواقع العربي‭.‬‬‬

والسؤال الأهم الآن كيف يمكن المواءمة بين الواقع الثقافي والممارسات السياسية في العالم العربي؟ وما هي العقبات المحتملة أمام جهود المواءمة‭.‬‬‬

تمكن الإجابة من خلال بعض المعطيات المتاحة الآن في الواقع المحلي والإقليمي والدولي ومنها:

1 التطور التقني والتكنلوجي في الاتصالات المرئية والمسموعة والذي أصبح من خلاله العالم قرية صغيرة تصل فيه الأحداث والأفكار بسرعة مذهلة رغم بعض القيود التي عادة ما تفرضها بعض الأنظمة المتسلطة‭.‬‬‬

2 المناخ الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي أحدثته ثورة المعلومات وثورات الربيع العربي في أغلب الدول العربية حيث أصبحت الحرية مطلبا شعبيا ملحّا‭..‬ لا يمكن التغاضي عنه أو تجاهله ولعل السقوط الدراماتيكي السريع للذين رفضوا الانصياع للمطالب الشعبية بالتحرر والانطلاق لبناء أسس جديدة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم عامل مساعد للقبول بالمطالب المشروعة للمجتمع‭.‬‬‬‬‬

3 الضّغوط الدولية التي تمارسها المؤسسات الدولية تجاه الأنظمة الاستبدادية والتي شكّلت طفرة تعبويّة لمطالبة الشعوب بحقوقيها بحرية لم تتوفر سابقا‭.‬‬‬

4 الانسجام والقبول بين المعتقدات الدينية والطموح الشعبي في الحرية وقبول الرأي والرأي الآخر وما تأكيد القرآن الكريم من خلال آياته السمحاء دليل على هذا التلاحم والمقبولية‭..‬ وعلى سبيل المثال لا الحصر إذ يقول الله تعالى: “وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ” (سورة هود الآية 118)‭.‬ “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا” (الحجرات: الآية 13).

إن الثقافة الحقّة التي تحرّر الأمم والشعوب وتجعل منهم مواطنين لا أشباحا هي التي تنبع من دواخلنا العارفة بالهم الذاتي والموضوعي، ويصبح معنى الثقافة نحن جمعيا

لكن الثقافة الإيجابية ـ ثقافة حقوق الإنسان وتطلعاته ـ لا يمكن أن تحفظ بقاءها في ظل غياب ممارسة الديمقراطية، فعندما تغيب الديموقراطية ينعدم الفكر والإنسان والحق ويصبح كل شيء مباحا وفق أهواء الحاكم‭..‬‬‬

وحتى نضمن سلوكا ثقافيا منفتحا ومقبولا لا بد من تحقيق الآتي:

1 استقلالية المؤسسات الثقافية عن الأنظمة وليس الدولة‭.‬‬‬

2 الإيمان بأن الثقافة تصنع الحياة وتطورها من خلال فعاليتها الأدبية والفنية والفكرية‭.‬‬‬

3 الحوار والقبول بالرأي والرأي الآخر ونبذ التهميش والاجتثاث الفكري‭.‬‬‬

4 الاهتمام الجدي بالمفاصل الحيوية التي تشمل: التعليم الجيد، الحرية، تمكين المرأة‭..‬‬‬

5 بناء منظمات مجتمع مدني هدفها الأول هو خدمة الإنسان بعيدا عن مبدأ الربحية والمنفعة لمؤسسيها‭.‬‬‬

لقد انتهى زمن التبرير السلبي بأن الانفتاح والاعتراف بالتعدد العرقي والثقافي يقود إلى فصم عرى الوحدة الوطنية ويجعل الدولة عرضة لـ”المؤامرات الصهيونية” والإمبريالية وبدأ عهد الوعي الجمعي وأحقية الإنسان في أن يقول ويعبّر بكل شفافية عن رغباته وغاياته النبيلة المشروعة..

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.