سارق‭ ‬السلطة‭ ‬الإلهية‬‬‬‬ ‭ ‬يتحدث‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬أبطاله‬‬‬‬‬‬‬‬

الأحد 2015/03/01

كتب الشاعر والروائي الكندي ليونارد كووين في قصيدته “سطور من يوميات جدي”، “دع القضاة يقنطون سراً من العدالة/ وسوف تصبح أحكامهم أقسى‭.‬ دع الجنرالات يقنطون سراً من الانتصار/ وسوف يصبح القتل مشوه السمعة‭.‬ دع القساوسة يقنطون سراً من الإيمان/ وسوف يصبح عطفهم صادقاً”‭.‬ أفكارٌ يردد أدب الكاتب الأميركي إدوارد بي جونز (1950) صداها، وفيها تصول درجة من الجبرية وتجول‭.‬ لا يجرؤ الكثير من الكتاب المعاصرين على الاضطلاع بهذه السلطة الإلهية، فجونز يتلاعب بشخصياته تلاعب “القدير”، وراويه أشبه ما يكون بالقضاء، ليس مجرد راو عليم، وإنما عالم بالغيب، سمة أطلق عليها الناقد البريطاني جيمز وود تعبير “الأبوة الغيبية”‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

لو أن لجونز نقطة ضعف، فهي تخطيطه بكل تسلط لحيوات شخصياته، لا يكشف عن مصيرها فحسب، وإنما يطلعك على هواه بميعاد وطريقة مقتل البطل في المستقبل البعيد، غير عابئ بما سينتاب القارئ من غيظ‭.‬ أعلن في أحد حواراته، “ربما لأني ‘إله’ الشخصيات، وسعني أن أرى أيامها الأولى، وتلك الأخيرة، وكل ما بينها‭.‬” ومع أن صوت جونز يهيمن على القارئ، يسير معه القارئ صاغراً‭.‬‬‬‬‬‬‬

النيل من نقاء القضية

وكأن تاريخ العبودية يستجلب المزيد من الفضح الشائن، تُذكرنا رواية جونز “العالم المعروف” (2003) أن مالكي العبيد لم يكونوا من البيض فحسب‭.‬ هل الأميركيون في حاجة إلى هذه الصفعة؟ هو ما يعتقده المؤلف‭.‬ لن يضحي بالحقيقة في سبيل القضية‭.‬ ولأنها تابو محظور، لم تصدر مراجع عديدة عن مالكي العبيد السود‭.‬ لا رغبة لأحد في النيل من نقاء “القضية” أو تشتيت الانتباه عن المتهم الأول فيها، وهو في هذه الحالة الرجل الأبيض دون منازع‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

حصدت “العالم المعروف” جائزة “بوليتسر” المقدَمة من جامعة كولومبيا وجائزة “آي إم بي إيه سي-دبلن” العالمية وجائزة “حلقة النقاد القومية” وجائزة “لانان”‭.‬ يستهلها جونز بتتبع أيام هنري تاونسيند الأخيرة بعد أن ترك إرثاً متناقضاً يستعصي على التصديق‭.‬ هنري فلاح استعبده البيض في الماضي إلا أنه أمسى مالكاً لأرض في فيرجينيا، وهو الآن، للمفارقة، مالك للعبيد‭.‬‬‬‬‬‬‬

لطالما ود أن يصبح “سيداً” أفضل ممن تسيدوه، ومع هذه النية الساذجة، يصده الراوي قائلاً: “لم يستوعب أن نوعية العالم الذي أراد خلقه محكوم عليه بالفشل قبل أن ينطق حتى بالحرف الأول من كلمة (سيد)”‭.‬ حذره أبوه من أن محاولاته لمحاكاة الملاك البيض أشبه بالعودة إلى مصر بعد أن أطلق الفراعنة سراحك‭.‬‬‬‬‬

يندس في السرد ناشر كندي نشر في سبعينات وثمانينات القرن التاسع عشر سلسلة من الكتيبات تحت عنوان “غرائب وطرائف جيراننا الجنوبيين”‭.‬ ومن بين غرائبه الأثيرة “زنوج محرَرون امتلكوا زنوجاً آخرين قبل اندلاع الحرب بين الولايات”، وفي سبع صفحات من هذا الكتيب توالت سيرة هنري تاونسيند‭.‬‬‬‬‬

لا جملة في “العالم المعروف” خفيفة على الروح، كل شيء ثقيل الوطأة‭.‬ ولو حدث وقابلتنا سخرية، ستطالعنا بوجه أسود مُقبِض لا يبعث على الضحك، وإنما الاحتقار‭.‬ بل إنها لا تنتمي بأيّ صورة من الصور إلى الكوميديا السوداء، “تلبث في الذاكرة سوق عبيد هطلت عليها الأمطار لأن العديد من البيض أصيبوا بالبرد في تلك السنة”‭.‬‬‬‬‬‬‬

سود هائمون

تتيح مجموعة جونز القصصية “كل أطفال العمة هاجر” (2007) للقراء غير الأميركيين من أصل أفريقي التنقيب في أرض غير مألوفة، الزمان خمسينات وستينات القرن الفائت، الأبطال من السود الهائمين على وجوههم والخارجين عن القانون‭.‬ وعلى غرار المجموعة القصصية “أهالي دابلن” لجيمز جويس يرسم جونز خريطة لمسقط الرأس، لشمال شرق واشنطن، وجنوب شرقها، لمشرديها ومساجينها والمفقودين منهم، وجميعهم من السود‭.‬ ولا تستدعي الذاكرة إلا الكاتبة ماريتا جولدن التي سبرت واشنطون بتلك الطريقة‭.‬‬‬‬‬‬‬

تروي قصة “فتيان عُجُز، فتيات عجائز” الصادرة في كتاب “كتاب القصص الفائزة بجائزة أوهنري 2006″ حياة شاب أسود ميؤوس من إصلاحه‭.‬ أدين بقتل شخص على حين أفلت بقتل آخر قبله، ثم رمي في السجن‭.‬ وهناك تعلم أن يتنمر ويهيمن‭.‬‬‬‬‬‬‬

أحياناً ما يسرد راوي القصة بقعاً من خريطة فعلية، “كان العالم ينشغل بمصالحه، وقد خطر في باله، شأنه شأن رجل غاب عن الوعي للحظات بعد لكمة على وجهه، أنه جزء من ذلك العالم‭.‬ وقع عن يساره شارع ناينث وكل بقية شارع إن وكنيسة الحبل بلادنس الكاثوليكية بشارع إيتث والبنك عند زاوية شارع سيفينث‭.‬ نقر العملة‭.‬ عن يمينه شارع تينث حيث تستقر المتاجر ومنزل مات فيه أبراهام لينكولن وكل أنصاب البِيض التذكارية الثمينة”‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬

قتيل كل 28 ساعة

قتلت الشرطة أو الحراس أو لجان الأمن الأهلية رجلاً أسود كل 28 ساعة في الولايات المتحدة الأميركية في عام 2012‭.‬ إحصاءات كئيبة تبرهن على أن القوة العظمى في حرب مع أهلها‭.‬ يتخلل أدب جونز إحساسٌ بغضب ساخر محسوب، تتفاقم حدته من اقتياته على ظلم العنصرية مثلما نجد في وصف سيارة شرطة طلبها أحدهم بعد أن اعتدي رجل أسود على امرأة سوداء في قصة “القانون العرفي”: “وبعد ساعة، أتت الشرطة‭.‬ لبث الشرطي الأبيض خارج سيارة الدورية، يقرأ الجريدة بنظارة مكبِّرة ضخمة بينما دخل الزنجي إلى إيدابيل‭.‬ أنصت الشرطي إلى الأطفال ثم هبط إلى الشارع ليتحدث إلى كينيون بينما قاد الرجل الأبيض السيارة بحذاء بضعة الأبواب‭.‬ وبعد أن انتهى الشرطي الزنجي، عاد وسار إلى المنزل الخاطئ، ثم وجد منزل إيدابيل، وأرجع الشرطي الأبيض السيارة ليعود إلى حيث كان يقرأ الجريدة بالنظارة المعظمة”‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وفي عهد العبودية الغابر، تمارس سيدة سوداء الغرام مع عبد أسود في إحدى القصص، فيستولي عليها القلق من انتقام السلطة‭.‬ هل ستنال نفس عقاب امرأة بيضاء تتخذ عشيقاً من السود؟ ولو أنجب مالك العبيد الأسود أطفالاً من عبدته السوداء، كيف ستصنف سجلات الحكومة الموقف؟ “لم تذكر الإحصاءات السكانية أن الأطفال من لحم روبنسون ودمه”!‬‬

أدرك أبطال جونز أن أسلافهم كانوا ذات يوم عبيدا غير أنهم ولدوا بشيء من الحرية، مرتحلين عبر الأرحام وصدورهم تضمر ما يولد به الجنس البشري وهو الكرامة التي وعدهم الله به

وفي مشهد آخر من قصة “أسبانية في الصباح” نستحضر واقعة قتل المراهق الأعزل مايكل براون على يد ضابط الشرطة الأبيض دارين ويلسون، إذ نتعرف على جاك ذي العين الواحدة لأن “شرطي المقاطعة برينس جورج أطلق الرصاص على عينه اليسرى عند خط السكة الحديد بين واشنطن وميرلاند بينما كان السيد جاك يُغيِّر بكل براءة إطار السيارة الفارغ”‭.‬‬‬

وفي خلال أسبوعين من الاعتداء، يباغتنا جونز بلهجة عارية من أي انفعال بأن محامي الشرطي أرسل خطاباً لجاك “الغرض منه الوقوف ضد أي شيء قانوني قد يفكر فيه السيد جاك”‭.‬ أشار الخطاب إلى أن جاك الراكع لتثبيت الإطار هدد في الواقع حياة الشرطي، بل وهدد حياة زوجة الشرطي وهي في البيت تغط في النوم‭.‬ عدِم الشرطي الأطفال، ومع ذلك هددهم جاك و”كل ذرية الشرطي المقبلة لمدة مئات السنوات”، لأنه لو تمكن من قتل الشرطي، ما كانوا سيروا النور قط!‬‬‬‬

مجرم أم منفذ للقانون؟

وبالسخرية ذاتها يغلي صوت الراوي بغيظ هادئ مصوراً في “العالم المعروف” سيداً يقطع “ثلث” أذن أحد عبيده عقاباً له‭.‬ وبين ليلة وضحاها يختفي في قصة “أدم روبنسون يمتلك جدوداً وأختاً صغيرة” صبيّ أسود في الثامنة بيد أن الشرطة تأبى أن تتحرك‭.‬ ينتقم جونز من المتواطئين فيرسل ثلة من المجرمين السابقين للبحث عن الصبي! وهكذا تأخذ السلطة التنفيذية مكان المجرم، والمجرم مكان السلطة التنفيذية‭.‬‬‬‬‬‬‬

وفي القصة نفسها ينسج الراوي جملاً لاذعة توجز طبقة السود الاجتماعية، فيصف أسرة سوداء بأنها، “لبثت بالقرب من قاع الطبقة الوسطى، على بُعد عدد قليل من الأجور من الطبقة الدنيا التي تربى فيها الأبوان وحسبا أنهما لن يضطرا إلى العيش فيها مجدداً”‭.‬‬‬

بل إن القصص التي لا تتناول بالضرورة العبودية، لا تخلو من تعليق هنا أو هناك على الفرق بين ثقافة البيض وثقافة السود، في قصة “رجل غني”: “أرسل الرجل تنهيدة رداً على هوراس ووضع شيئاً انتزعه من أنفه على الإصبع الكبيرة للرجل النائم فوقه‭.‬ قلتُ هل معك سجائري؟، سجائري ليست معي، أجاب هوراس‭.‬‬‬‬‬

“حاول أن يفوه بأفضل لغة إنكليزية قد ينطق بها الرجل الأبيض‭.‬ فقد أسرّ إليه صديق كان يخدم معه في الجيش بألمانيا أنها لا تخلّف انبهاراً في نفوس البيض فقط، بل والسود الذين لا ينتظرهم أي مستقبل في الحياة‭.‬ “تركتُ سجائري في البيت”‭.‬ ألمّت الآلام برجليه وود لو يجلس على الأرضية إلا أن المساحة الوحيدة المتاحة كانت في المنطقة العامة حيث يقف وثمة شيء التصق بحذاءيه متى رفع قدميه‭.‬ ليت معي سجائري حقاً لأعطيك إياها”‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬


إدوارد بي جونز

رِدّة مجازية إلى العبودية

ومثلما هو الحال في مجموعته القصصية الأولى “تائهة في المدينة (1992) الفائزة بجائزة بن/هيمنغواي، يطفح عالم السود بالعنف المبرر وكذا المجاني في “كل أطفال العمّة هاجر”‭.‬ يتخبطون في دنيا محفوفة بالمخاطر لا سبيل إلى النجاة منها حتى إن أحد السجناء السود يؤثر السجن على الحرية في رِدَّةٍ مجازية إلى العبودية: “كان يَقعد هناك إلى أن يدعوه النوم، وأحياناً ما يتأخر حتى الثانية صباحاً‭.‬ ما ضايقه مضايق‭.‬ لقد قتل رجلين، وقد استشعر العالَم – ولا سيما الجانب الشرير منه – عملته تاركاً إياه بمفرده‭.‬ ما عرَف أحداً وما أراد أن يَعرفه أحد‭.‬ بدا وكأن أصدقاء ما قبل سجن لورتون امّحوا عن وجه الأرض‭.‬ كان قد استيقظ في اليوم قبل الأخير من سجنه بلورتون والرعب يجتاحه، وحسَب أنهم لو خيروه، ربما يبقى‭.‬ قد يجد حياة ومهنة في لورتون”‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

يدرك أبطال جونز أنّ أسلافهم كانوا ذات يوم عبيدا غير أنهم ولدوا بشيء من الحرية، مرتحلين عبر الأرحام وصدروهم تضمر ما يولد به الجنس البشري وهو الكرامة التي وعدهم الله بها، عداهم‭.‬ وبالرغم من أن كتابات جونز تسمو مجازاً على التاريخ والجغرافيا، تنحصر أغلبها على أرض الواقع في واشنطن السوداء، مدينة تراجيدية تواقة إلى الماضي‭.‬ إنها المدينة التي استقبلت أول موجة هجرة للسود من الجنوب أثناء الحرب الأهلية وبعدها‭.‬‬‬‬‬‬‬

وإن اتفق أن صادف روّاته رجلاً أبيض، لا يُعرِّفونه بأنه أبيض، سوف نفطن إلى لون بشرته من صيرورة الدراما ووشائجها‭.‬ ولكن جونز لا يطلق أحكاماً أخلاقية قطعية، تفتقر قصصه إلى الأبيض الشرير والأسود مهضوم الحق، فخطوط العرق متداخلة بلا سبيل إلى التعرف عليها، وهناك دوماً طريق رجعة للشرير.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.