مثقفو‭ ‬الاستبداد: اِخضع‭ ‬ترضع

السبت 2015/08/01
لوحة: فؤاد حمدي

قرأت هذه العبارة (اخضع ترضع) في كتاب رائع (لماذا العرب ليسوا أحرارا”) للمفكر المصري مصطفى صفوان وهو أحد أهم المُحللين النفسيين في العالم، وقد ترجم كتابه هذا من الفرنسية إلى العربية الدكتور مصطفى حجازي، الذي أبدع بدوره كتبا عظيمة أذكر منها “سيكولوجية الإنسان المقهور” ثم “سيكولوجية الإنسان المهدور”‭.‬

وطبعا المقصود بكتبهم الإنسان العربي‭.‬ أرغب بالاستناد إلى كتبهم القيمة في تحليل الظروف القمعية الاستبدادية التي يتعرض لها المواطن العربي وتهميشه والإصرار الواعي والمُمنهج كي يبقى مُتخلفا”، ومنذ سنوات وأنا ألاحظ ظاهرة خطيرة ومقُرفة في الوقت نفسه وهي طريقة تفكير أنصاف المثقفين (أو من يدّعون الثقافة والفهم) بالشعب‭.‬ إذ يصرون بل يستمتعون بوصف عامة الشعب بالحثالة والجهل المُطبق (كما لو أنهم ولدوا وفي جيناتهم مورثة الجهل) وبأنه لا أمل منهم لأنهم دون وأغبياء ومن طبقة دنيا يستحيل الارتقاء بها، وقد لا حظت أن هذه الطريقة في التفكير والتنظير والتعالي زادت كثيرا منذ سنتين، أي منذ بداية الثورة السورية التي لم يبق أحد في الكرة الأرضية إلا وتاجر بها وسرقها ووظفها واستغلها لمصالحه، وما يُروعني هؤلاء –الجهلة الحقيقيون – أنصاف المثقفين المتعالين على الشعب وغير المُتعاطفين معه على الإطلاق لأنه شعب جاهل بالفطرة وغبي بالولادة ولا أمل منه، ولا يخجل بعض الأطباء الذين أعمل معهم منذ سنوات بوصف مرضاهم الفقراء والمساكين بالحمير! أيّ روح نجسة يمتلكها طبيب مثلا أو نصف أو ربع مثقف حتى لا يشعر ببشر دُمرت بيوتهم ونزحوا إلى مدن أخرى أو خارج وطن تحول إلى بركة دماء وساحة دمار، أيّ فهم قاصر وجاهل ومتصلب بالغرور والفوقية واحتقار الشعب الضحية، ويقول عن هؤلاء إنهم بُلهاء وجهلة وحمير!

آلاف النازحين الذين اِلتقيهم في اللاذقية وخاصة في المشفى الحكومي يجمدون الدم في عروقي لشدة معاناتهم، لهول وفظاعة ما مروا به ويعيشونه، وفوق ذلك تجد شريحة من الجهلة الحقيقيين ينظرون باحتقار ودونية لهؤلاء الضحايا المساكين ويصفونهم بالجهل والبلاهة! ولا يتعاطفون معهم على الإطلاق كما لو أنهم هم من تسبب بالدمار والخراب والموت لفلذات أكبادهم؟ إحدى الطبيبات قالت لي: هؤلاء البُلهاء يتركون أطفالهم بلا لقاحات ولا يرسلونهم إلى المدارس! سبحان الله أيّ رؤية عبقرية تتمتع بها طبيبة أطفال بلا قلب ولا فهم، لأن الفهم الحقيقي يكون في القلب أولا ثم العقل، أيّ لقاحات هذه ستفكر بها أم ملتاعة رأت بيتها يتهدم أمام عينيها وربما كان داخله أحد أولادها، ربما لم تستطع انتشال جثث أحبائها من تحت الأنقاض، أيّ لقاحات تشكل قمة في الترف عليها أن تفكر بها وهي تتوسل قدرا وحشيا أن تُطعم أطفالها المتضورين من الجوع، والتي اضطرها ذل الفقر والدمار، أن تدفع بأولادها للتسول، هل تلك الأم جاهلة وغبية وتستحق الاحتقار من قبل طبيبة يُفترض أن تمتلك حسا “إنسانيا” قبل شهادة الطب اللاقيمة لها دون حس إنساني وتعاطف مع البؤساء والمرضى! يستمرّ هؤلاء أنصاف المثقفين، وثلاثة أرباع الجهلة في أفكارهم المُحتقرة للشعب ويتهمونه بالبلاهة والجهل وبأن هؤلاء النازحين الفقراء المساكين والذين لا حول لهم ولا قوة لا يرسلون أولادهم إلى المدارس؟ أيّ مدارس وسط دمار شبه شامل، كم مدرسة دُمّرت في سوريا أو تحولت إلى مأوى لنازحين، أيّ علم هذا والتلميذ يتضور جوعا ويشحذ الطعام والقليل من المال من المارة، منذ أيام لحقني طفل سوري لا يتجاوز السابعة من عمره، وصلني صوته الحزين –قبل أن ألتفت لأراه – كان يتوسل أن أعطيه تفاحة من كيس التفاح الذي أحمله، التفت إليه لأرى في وجهه كل أطفال سوريا الذين لم يذوقوا التفاح منذ أشهر، جللني العار وأنا أعطيه التفاح، وشكرني بعبارة تنضح كلماتها بالذل، فغضبت عليه وقلت له: لا يجب أن تشعر بالذلّ وتتفوه بهذه الكلمات أبدا، لكنه نظر إليّ باستغراب كأنه لم يفهم ما قلته، ثم كرهت نفسي على موعظتي السخيفة اللاواقعية!

كيف نطلب من جائع بلا مأوى ولا كرامة ولا أمان ولا استقرار، كيف نطلب من طفل شاهد الموت والذبح والدمار ونزح ألا يستجدي وأن يستعمل عبارات تنضح بالكرامة وعزة النفس‭.‬ كيف يمكن للبعض من أنصاف المثقفين، من حملة الشهادات الأميين ألا يتعاطفوا مع هؤلاء العظماء البسطاء والذين نطلق عليهم عبارة عامة الشعب، كيف يمكن أن نصف هؤلاء الأبطال الصامدين والصامتين بأحقر الصفات وأكثرها دونية!


لوحة: حسين مطشر

كيف يمكن لهؤلاء قساة القلوب أن يتعالوا عليهم كما لو أنهم خلقوا من طينة أخرى! وعن أيّ جهل يتحدثون؟ وأيّ مدارس هذه؟ واسمحوا لي أن أذكر تلك الحادثة ذات الدلالة الهامة على فساد التعليم، وفساد المؤسسات التعليمية فمنذ سنوات راجعني طفل فقير عمره عشر سنوات وكان بصحبة والده الذي أحسستُ وأنا أنظر إليه أنه من أهل الكهف لشدة بؤسه ومظهره الرثّ، التقيت بالطفل ووالده في العيادة العينية في المشفى الوطني في اللاذقية، وتحدث الأب بصوت متهالك من التعب بأن ابنه يعاني من ضعف في الرؤية، وسألت الطفل في أيّ صف أنت فقال: إنه في الصف الخامس الابتدائي‭.‬ ابتسمت له وقلت له ستتعاون معي لأفحص عينيك الجميلتين، وكانت نتيجة الفحص أن الطفل شبه أعمى ولا يرى إلا حركة الأشياء على بعد متر فقط! ولديه 32 درجة من قصر النظر (ميوبي) وشبكيته مهددة بالانفصال‭.‬

سألت الطفل: أنت حتما لا ترى شيئا على السبورة! فقال: لا أرى شيئا‭.‬ ثم سألته ولا تتمكن من القراءة لأنك لا ترى ولا تضع نظارة طبية فقال: لا أرى شيئا ولا أعرف لا القراءة ولا الكتابة‭.‬ حبست دهشتي الأقرب للذهول وسألته: طيب كيف وصلت للصف الخامس فرد ببراءة الأطفال: كلما رسبت في صف بينجحوني‭.‬ وتدخل والده كي يقلل من ذهولي: يا دكتورة هناك قانون في الدولة ممنوع الرسوب في المرحلة الابتدائية‭.‬ يا سلام! تحيا المدارس! ويحيا العلم! وتحيا الإنسانية التي ترأف بالأطفال وتقفز بهم من صفّ إلى صفّ حريصة ألا يُصابوا بأيّ عقدة نفسية إن رسبوا! قد تبدو تلك القصة كنكتة لكن هناك قصة أكثر إيلاما وتعكس أيّ نخر وفساد أصاب مؤسسة بناء الأجيال (التربية ثم التعليم) أعرف طالبا في صف البكالوريا ضعيف جدا في اللغة الفرنسية وقرر والده أن يأخذ دروسا عند أشهر أستاذ في تدريس مناهج البكالوريا في اللغة الفرنسية، لكن الأستاذ الذكي سأل الطالب من أول درس هل تريد أن تتعلم الفرنسية أم تريد أن تحصل على العلامة التامة في الفحص؟ فرد الطالب على الفور: طبعا لا أريد سوى العلامة التامة‭.‬ فأعطى الأستاذ الطالب حوالي 50 صفحة وقال للتلميذ: معك عام كامل لتحفظها عن ظهر قلب‭.‬ وفعلا حفظ الطالب الصفحات إياها عن ظهر قلب وحصل على العلامة التامة في مادة اللغة الفرنسية في فحص البكالوريا وهو لا يفقه كلمة فرنسية‭.‬ هذا هو العلم النور! هؤلاء المساكين النازحون والجياع والمذلولون يفرزون الجهل! من يعتني بأطفال سوريا؟ من يبالي بهم؟ من يشعر بهؤلاء الشبان السوريين والعرب الذين يحرقون أنفسهم كل مدة لأنه لم يعد باستطاعتهم تحمل الذل والفقر، هل يحرقون أنفسهم لأنهم جهلة! أم لأن العيش في هذا العالم العربي أصبح كما لو أنه بروفة للعيش في الجحيم، ألا تشبه الحياة في سوريا الجحيم على الأرض‭.‬

وفوق كل تلك المعاناة الأسطورية لشعب عظيم لا يزال متماسكا ولم يفقد عقله من هول ما رأى وعاش وعلى مدى أشهر، نجد شريحة من أنصاف المثقفين –الجهلة بامتياز – يحتقرون هؤلاء المُذلون المُهانون ويصفونهم بالجهل والبلاهة وكل الصفات التي ترسخ الدونية والتحقير‭.‬ هؤلاء هم الجهلة الحقيقيون الذين تجب محاربتهم واستئصال أفكارهم المتعالية الفاسدة كما نستأصل العشب الضار، هؤلاء لا يؤمنون بالطاقات العظيمة الحية للشعوب، والتي حُبست لعقود في قمقم الخوف والظلم، هؤلاء الجهلة المنتفخون بأنانيتهم لا يفهمون ولا يدركون أن هذا الشعب العظيم رغم وحشية ما عاناه ويعانيه قد قرر أن لا أحد بعد الآن يُصادر حلمه بالحرية والكرامة وبأن خسائره لن تذهب سُدى وبأن أول ما سيقوم به الشعب السوري العظيم بعد أن يلتقط أنفاسه ويعيد دفن أحبته دفنا “لائقا”، فإنه سيقاوم هؤلاء المستبدين الأنيقين المزيفين والمُحتمين بقناع الثقافة، هؤلاء هم الأعداء الأشد خطورة على الشعب الطامح للحرية والكرامة والفرح، لأنهم يصرّون على وصم الشعب بالجهل والغباء وبأن لا أمل من هؤلاء الرعاع، هؤلاء هم أخطر أنواع الاستبداد لأنهم يعمدون إلى غرس ثقافة الطاعة والدونية والفشل لدى عامة الشعب كي يسيطروا عليهم كليا، كما حلل مصطفى صفوان في كتابه العظيم (لماذا العرب ليسوا أحرارا) بأن أهم آليات الاستبداد يمكن إيجازها بعبارة اِخضع ترضع‭.‬

لا خضوع بعد اليوم لأن معمودية الدم أسقطت كل الطواطم وكشفت عفن وحقارة وخيانة أنصاف المثقفين رموز الاستبداد.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.