‮\'‬الغريب‭ ‬الثائر\': مذكرات‭ ‬بيرم‭ ‬التونسي

السبت 2015/08/01

على خُطى الطهطاوي

الجزء الأوّل من المذكرات بعنوان «مذكرات المنفى» وطبيعة النص تميل إلى الكتابة السيرية، حيث يسرد فيها غربته في فرنسا وأيام الشّقاء وقد نُشِرَتْ على شكلِ مَقالات صحفيّة في جريدتي الشّباب والسردوك عام 1936‭.‬ ويقتفي فيها بيرم طابع أدب الرّحلات؛ حيث يسجِّل مشاهداته وما يعجبه وما لا يعجبه وهو يسير على غرار الطهطاوي في مشاهداته إبّان عمله كإمام للبعثة المصرية في الفترة ما بين (1926ـ 1931)‭.‬ يستهل بيرم المذكرات بوصف الرّحلة منذ أن حصل على تذكره الدرجة الرابعة على السفينة “شيلي” المجانية التي منحها له قنصل فرنسا راصدًا لأحوال المهاجرين السوريين الفارين إلى أميركا الجنوبية، واصفًا الحوادث التي وقعت في السفينة والمواقف حتى وصول السفينة إلى مرسيليا‭.‬

مرسيليا بعيون لاجئ

يبدو النصُّ في الجزء الثاني «مرسيليا» أشبه بسيرة وصفية للمكان الذي لجأ إليه هاربًا من تونس، إلا أن الكتابة تأخذُ مَنحى تأريخ وتسجيل للمكان، فيحدّد هدفه من الكتابة بأنّ هذه المدينة لا يعرفها السّائح الأجنبي جيدًا، خاصّة أنّ تسعة أعشار المدينة مجهولة بالنسبة إليه‭.‬ مستطردًا بذكر كتاب الرَّحالة محمود رشاد «مشاهد الممالك» كتدليل واضح لنهجه الذي سينحو إليه؛ فيقدِّم وصفًا لهذه المدينة متوجِّهًا بحديثه لهذا القارئ أو السائح وهي التي سيتخذها مكانًا لتنزهه فيقول في وصفها «يعجبكَ مِن هذهِ المدينة شمسها الساطعة حتى في فصول الأمطار والزوابع ونسيمها الذي يلقح الجسم بالصحة والعافية، فتشعر بالازدياد في قواك الحيوية ورغبتك في الأكل والشرب وكل مشتهيات الحياة»، لا يقتصرُ الوصف على الجوِّ بل يشملُ سكّانها وصفاتهم وطبائعهم، ويستطردُ في أوصافهم وقدرة جنود مرسيليا على الحرب حيث أنّهم كانوا في أثناء الحرب العظمى في مقدمة الجيش الفرنسي، وأوّل مَن قابل الألمان في ميدان القتال، أما نساؤها فعلى جانب وافر من الجمال الذي لا يُرى في أي ناحية أخرى في فرنسا كلّها‭.‬

وبطبيعة عين الرحالة يرصد لعادات الشرقيين عندما يهلّون على المدينة، وعن الأعياد التي يحتفل بها الفرنسيون والتي تصل إلى عشرين عيدًا منها ما هو دينيّ كجان دارك والقيامة ومنها ما هو غير ذلك كعيد الهدنة و14 يوليو، وأيضًا مظاهر الاحتفال بالعيد في الميدان وما يُقام مِن ألعابٍ وأراجيح ومزلقانات، وعن طبيعة الأعمال التي تُناسب الأجنبيّ ليعيش حيث لا يوجد غير الأعمال الشّاقة، كما يعرض للخداع الذي يتعرّض له السّواح الذين يريدون استثمار أموالهم‭.‬ لا يخفي الكاتب المواقف الطريفة التي تعرَّض لها، منها بعد عودته متخفيًا إلى مصر، وتنكّره باسم محمد صابر، وقصّة الرّجل الذي سَرَقَ تذكرتي المرأة وابنتها‭.‬ وفي بعض الأحيان يقدّم خلاصة فلسفته من حياة الشّقاء، فمع شعوره بالجوع يقدم خلاصة نظريته للجوع بأن له ثلاث وظائف هي: الأولى يشتهي فيها الجائع كلّ شيءٍ حتى الحشائش وأوراق الشجر، والثانية مغص والتواء في الأمعاء، والثالثة، غيبوبة وأحلام وهذيان‭.‬

شقاء ونفي

الجزء الثالث، جاء بعنوان «مذكراتي ما بعد العودة من المنفي 1961»، وهو نصّ سيري بامتياز، يتحدّث فيه بيرم التونسي عن نشأته ومولده في حي الأنفوشي بالإسكندرية بالسيّالة عام 1893، وعن عائلته ووالده وعمّه محمود، وشراكة الاثنين في مصنع نسج للحرير، وعن أثر والده عليه خاصّة أنه كان يستأجر شعراء الرّبابة لينشدوا أمامه طول اليوم الشعر البدوي القديم وقصص أبي زيد الهلالي سلامة والزير سالم، ويُقدِّم شطرًا آخر من حياة الشقاء والبؤس التي عاشها بعد موت أبيه ثم أمه، وعن معاشرته لطلاب العلم الدينيّ، وتقدّمه في العلم، ثم احترافه مهنة يتكسّب منها العيش وهي الصيد والمتاجرة مع أهل الحي‭.‬ ثمّ بداية مناوشاته الشّعرية عندما كتب قصيدة مُنتقدًا مجلس البلدية وهي أوّل قصيدة تنشر باسمه‭.‬ وكانت محاولة لكسب الرزق حيث بعدها بدأ كتابة كُتيّبات للانتقادات الاجتماعية، مُنتقدًا الملك فؤاد الذي رآه أدخل الإنكليز إلى البلاد، ثمّ نشره الفضائح السلطانية بأسلوبٍ ساخر، وهو ما أغضب الحكومة المصرية التي أعلنت غضبتها عليه بسبب إقدامه بتحدي رأس العائلة الحاكمة فؤاد فرعون مصر، وهو الذي صار الجميع يتملّقونه بعد فشل ثورة عرابي، وبعد محاولات يائسة من الحكومة المصرية عملت على إبعاده عن البلاد، وهناك في تونس حيث أُبعد راح يبحث عن أصل العائلة التي ينتمي إليها، وهناك روّجوا إلى أنّه من أصل تركي، رغم أنّه كان أحد الثائرين في مصر على الاحتلال التركي، وبسبب الشعور بالغربة والمهانة سافر إلى فرنسا، ورحلة معاناته في فرنسا إلى عودته إلى مصر مرة ثانية ومرافقته سيد درويش وابتعاده عن السياسية بالفن، وصدمته في سعد زغلول حين مرّ بباريس وعرض عليه أن يساعده للعودة إلى مصر ولكن لم يستجب له رغم حبه لسعد وقصائد المدح فيه والتي كان يعلمها سعد ذاته، وقد تكرَّرت الخيبة مع النحاس باشا الذي خذله أيضًا واتهامه له بأنه يريد اغتياله‭.‬ وصولاً إلى تركه فرنسا إلى تونس وتأسيس جريدة بعنوان الزمان والتي صارت ملتقى الأحرار في شمال أفريقيا، وهو الأمر الذي لم يرق للسلطات الفرنسية التي كانت تحكم فقرّرت إرساله إلى بلد غير عربي في غرب أفريقيا.

ما يميّز مذكرات المنفى هو روح الفكاهة والسّخريّة التي يتميّز بها نظم ونثر بيرم، وسهولة الأسلوب وحداثته، مقارنة بنص “مذكراتي” التي على حد المشرف والمعّد لها القمحاوي أنها جاءت متجهمة، حيث كان الزمن قد خط خطواته على روحه فجلس يقدم كشف حسابه مع الحياة، مدافعًا عن مواقفه السياسية التي كانت محل انتقاد خصومه‭.‬ ثمّة انتقاد للأوضاع في الشرق حتى لو لم يُصرِّح فأثناء بحثه عن أيّ شيءٍ يأكله ثمّ يعثرُ على بصلة، يقول إنّ البصل لذيذ إذا شُوي في النار، إلا أنه لا يملك الوقود ولا الثقاب يقول في تلميح للشرق «ولسنا في مدينة شرقية حتى نجد بسهولة الأوراق والأخشاب ملقاة في المزابل» (ص،36)، ومنها أيضًا انتقاده لمعاكسة الفتيات في الشوارع فيقول «فلم أجد واحدًا يمشي خلف امرأة ويرمي عليها كلمات الغزل كما هو مشهور في الشرق» (ص، 98)، كما ينتقد نظرة الشرقيين للغرب‭.‬

وثيقة لغوية

تبرز أهمية هذه المذكرات إلى جانب كونها تسجيلًا دقيقًا لأيام المحنة التي مرّ بها بيرم التونسي، وما صاحبها مِن توثيق لأحداث مهمة مثل غزو اليونان لبلاد الأناضول، وموقف الوفد من الاحتلال، وسياسة الملك فؤاد المهادنة للإنكليز وغيرها من الأحداث السياسية التي عاصرها، وإن كان لم يقف كثيرًا عندها مكتفيا بالإشارات‭.‬ لكن الأهمية الكبرى تتمثّل في أن المذكرات كانت سجلاً حاويًا لمفردات ترددت في واقع ثقافي مغاير، حيث قدّمت لنا مُعجمًا لغويًّا عن المفردات التي كانت تُستخدم في هذه الفترة، وهو ما يساعد علماء اللغة لدراسة التطوُّر اللّغوي والإحلالات التي حلت على وظائف بعض المفردات، فكتبت سيجارة هكذا (سيقارة)، وإنكلترا (أنقلتيرا)، والمسجل (الموسقر)، وهناك أيضًا مفردات لغوية لم يعد لها استخدام في الشريط اللغوي الآن مثل برّاكة (بيت مصنوع من الألواح)، المعدنوس (البقدونس) وفي الأصل هي المقْدُونِس (نسبة إلى مقدونية) دربوز (شباك من الخشب ونحوه)، دلاّعة (البطيخ) فدخ (كَسّر) وهناك كلمات غير معروفة مثل المرقاز (35) قجر (36)، أقرام المرأة وهناك بعض الكلمات بنفس اللهجة التونسيّة كأسماء الشهور أوت (أغسطس) فيفري (فبراير) وفي بعضها يستخدم أسماء الشهور بالاستخدام المصري نوفمبر، وكلمات جزائرية مثل شاشية غطاء الرأس.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.