في وصف ما يحدث على أرض العرب

الثلاثاء 2015/09/01
لوحة: حسين جمعان

لم يعد قتلاً منسوباً إلى الفظاعات التي أنزلتها الأقدار في بشر، ولا ثأر التاريخ من أمّة، ولا هزء الزمن من قوم. لم يعد قتلا، لم يعد مجرد قتل أعمى يرتكبه بشرٌ ظلمةٌ نحو بشرٍ مظلومين، أو كثرةٌ متفاخرةٌ نحو قلة مهيضة الجناح، أو قلّةٌ مأفونةٌ نحو كثرة أسيرة؛ هذا الذي يحدث في أرض العرب.

هذا الذي حلّ في أرض الرافدين وزحف على الشام، فأتى على الطفل قبل أن يكون له ذنب، وعلى المرأة وهي تصنع الحياة، وعلى الشابة والشاب وهما يرسمان بالألوان، وعلى الرجل والشيخ والعجوز التي في سرير أيامها الأخيرة، وأخذ في طريقه الحيوان والحجر، وحتى الهواء، هذا الذي خيّم على العراق والشام، وألغى الحدود بين العقل والجنون، مختطفاً إلى جحيمه المهول جغرافيتين هما مهد في الحضارة وهما في أزمنتنا الحديثة أرض الفكرة العربية.

هذا الذي يحدث في المشرق العربي جعل العرب كلهم في مصيدة الأمم. إنه لأمر دُبِّر بليل.

***

بيد المستبد الصغير المأجور عند أمم أخرى اختطف الاستبدادُ، الفكرة العربية وأفسدها. أما وقد تصدعت دولة الطغيان، وتشقق كرسي الطاغية وتهدّمت جدران قلعته عن حريق ودمار يحيطان بها كسوار، فهل نترك الفكرة التي طالما كانت عروتنا الوثقى، وحلماً وهّج خيال الأجيال المتطلعة إلى مكان تحت الشمس لأمّة لم تكن مهملة، ولكنها كانت صانعة حضارة. هل نستعيد الفكرة العربية ولا نتركها مخطوفة، أم نتنكر لها نحن أيضا، ونعمل فيها تحطيماً، ونكون شركاء لمن طالما كان ديدنهم تحطيمها وتفكيك عرى الثقافة العربية والاجتماع العربي، إما لثأر قومي قديم، لبس اليوم لبوس العمامة السوداء، ونادى أشباح التاريخ لتكون صاحبة الثأر من نسلنا الحاضر. أو تحصينا لمشروع لصوصي أقام هيكلا أسطورياً على أنقاض حياة واقعية، ثم رفع بينه وبين العالم جدارا يحميه من قوة الحقيقة.

ها نحن، إذن، شعوب يفترسها غزاةٌ وطغاة وأمة تنهبها أمم. ولا خلاص من دون اعتراف نسلنا بقوة الحقيقة.

***

وما كان للغزاة أن يبلغوا عتبة البيت ويطأوا بساط الأهل، ويُعملوا السكاكين والبلطات في أعناق الفتية والأطفال، لولا أن الاستبداد أدخل حصانه الخشبي إلى ساحة المدينة وصرنا نتلهى على كراسي المقاهي في حلّ أحجية الحصان وأحجية الاستبداد، فمنّا من سماه المستبد العادل، ومنّا من امتدح بدعته الغريبة، ومنّا من نافق وهو عليم، ومنّا من حملته صرخته العزلاء إلى أقبية العذاب والموت.

***

أما وقد بات الأعداء بين ظهرانينا، وصاروا الحكام الآمرين، يديرون الحرب ضد الناس، ويُنْطِقون الدمية التي أدخلت الحصان إلى البيت، بوصفها صاحبة الأمر، إن في دمشق أو في صنعاء أو بيروت أو العراق، فإنّ زمنا “عربياً” مزيفاً يقدّم لنا نفسه، الآن، ويطالبنا بأن نحني رؤوسنا للغزاة ونرضخ لما حدث، أو فالمصير المشؤوم.

***

سألت جاري الإنكليزي، يعمل محررا في راديو الـBBC ما هي الحقيقة العالمية اليوم؟

عندما تغير طائرات بالصواريخ المدمرة على بيوت في ضاحية صغيرة كدوما في ريف دمشق، وتنشر الدمار والحرائق والموت بأمر من حاكم البلاد المقيم على بعد 3 كيلومترات فقط من مكان الضربة، ما هو رد الفعل، ما هي حقيقة رد الفعل؟ لنتخيل أن هذه الطائرات تغير على ضاحية أكتن في غرب لندن! حدث لا يمكن تخيله هنا، ولكن يمكن رؤيته هناك على شاشات التلفزيون في كل يوم تقريبا، من دون أن يضيف ذلك أيّ مشاعر إضافية على تلك التي تحركت فينا يوم أمس، أو أول أمس. ما هي الحقيقة الأخلاقية التي يؤمن بها العالم، إذن؟!

لا أعرف، أجاب جاري. ولا أنا، قلت.

***

ليس ثمة ما هو أبلغ من سطور يكتبها أشخاص بوصفهم أفراداً، ينقلون لنا بالكلمات تجاربهم الشخصية ويعبّرون من خلالها عمّا يجيش في نفوسهم المفردة، وربما العزلاء، وكان في وسعهم أن يكونوا أصوات جماعات، وناطقين باسم أفكار وأيديولوجيات، محتمين بها من حيث هم معبّرون عنها. ولكنهم آثروا أن يكون وجوها وأسماء وهويات مفردة.

يحتفظ لنا التاريخ بسير المبدعين ويهمل سير من اضطهدوهم. ها هو دانتي صاحب الكوميديا الإلهية تملأ سيرته كتب النقد والتاريخ الفني والأدبي، ويحضر في لوحات عصور من رسامي النهضة وما بعدها، هو وحبيبته بياترس التي أقام لها صرحا في كتابه الخالد. ولكن من يتذكر أسماء الباباوات الذين نفوه من فلورنسا سنة 1302 وحكموا عليه بالإعدام لو هو خالف الحكم وعاد إلى وطنه؟ رغم آلام النفي، وتنقله بين الإمارات الإيطالية بعيدا عن فلورنسا إلا أن دانتي أبدع الكتاب الذي أدخله التاريخ خالدا على مر العصور، وجعل له في كلّ مدينة إيطالية نصبا وتمثالا ومتحفاً، بينما اندثر كل ذكر للبابوات التي اضطهدوه وجعلوه يعيش ثلث سنوات حياته ويموت في المنفى.

كم دانتي عربي لم يكتب الكتاب الذي كتبه دانتي ولكنه نزل إلى أقبية الظلام والموت، وعاش عقودا وراء الشمس، قبل أن تسعفنا صرخات الشباب في ميادين التحرير، فتشقق جدران الزنازين وتأتينا بصوته حبيس تلك الأقبية، ليروي عن فظاعات ما أنزله الاستبداد بضحاياه، وهو إذا يروي فإنما، أولا، للبؤساء الذين تخلوا عنه ذات يوم، خوفا من الطاغية.

ربح الطغاة حاضرهم الكئيب، وفاز صاحب الكلمة ورجل الحرية بالمستقبل.

تنطبق سيرة دانتي غالباً، على فئة شجاعة من أصحاب الرأي وحملة الأقلام. وها هم ضحايا الاستبداد الشرقي من عبدالرحمن الكواكبي وحتى كوكبة كبيرة من ضحايا الرأي العرب في أزمنتنا الحاضرة.

***

كتبت هذه الإشارات عن الاستبداد تحية للأقلام التي كتبت في هذا العدد عن تجاربها وراء القضبان في زنازين “دولة الأبد” التي صدّعت جدرانها الصلبة قبضات الشباب المنتفض لأجل الحرية والكرامة، وأختم بهده الكلمات للشيخ عبدالرحمن الكواكبي ابن حلب الثائرة اليوم على الاستبداد: “الرَّعية العاقلة تقيَّد وحش الاستبداد بزمام تستميت دون بقائه في يدها؛ لتأمن من بطشه، فإن شمخ هزَّت به الزّمام وإنْ صال ربطتْه”.

***

"العرب في مصيدة الأمم" إشارة أولى إلى حال الأمة، ودعوة لحملة الأقلام لمساءلة الذات والآخر، ومساءلة الثقافة عما آلت إليه الحال. هذا ليس عنوانا لملف نفتحه ونطويه، ثم نعفي أنفسنا من التبعات. إنه عتبة لبحث فكري مفتوح، محطتنا الالمقبلة معه تحت عنوان "إلى أين يمضي العرب". والدعوة مفتوحة للكتاب والمثقفين العرب مشرقاً ومغربا.

لندن -أغسطس/آب 2015

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.