خليل حاوي بقلمه وصوته

الثلاثاء 2015/09/01
لوحة: عاصم الباشا

يكتسب الإبداع الجديد مكانته في النظام الأدبيّ والفنّي القوميّ وفي المنظومة الثقافيّة القوميّة ويحقّق تواصله مع متلقٍّ نشأت ذائقته الفنّية ونمت في جوّ إبداعيّ مغاير· وبذاك التزاوج أيضا وإدراك مضامينه وأبعاده يحتلّ المنطقُ الفنّي الجديد مكانَ توجّهات وأساليب فنّية تقليديّة كانت قد ترسّخت في الضمير الثقافيّ العام، ويخلق حساسية فنّية فتيّة وطريّة تتذوّق أشكالا تعبيريّة غير مألوفة فتغدو تلك الأشكال الجديدة عنصرًا حيويّا في بنية التراث الإبداعيّ والثقافيّ.

وليست القاعدة في تاريخ الأدب أن يكون المبدعون أنفسُهم فلاسفةَ التجديد ومنظّريه؛ غير أنه أصبح مألوفًا منذ انطلاق الحركة الرومنطيقيّة في الغرب أن يكون الأدباء، وبخاصة الشعراء منهم، أصحاب نظريّة نقديّة تواكب إبداعهم وتفلسفه· وبرزت ظاهرة الشاعر-الناقد في فترات التحوّل الفني، فكان ساميويل تايلور كولريدج، الشاعر-الناقد، فيلسوفَ الحركة الرومنطيقية الإنكليزية في بداياتها، وكان الشاعر أندريه بريتون منظّرَ الحركة السريالية في الـ”منفستو” الأول والثاني اللذين وضعهما أساسًا لانطلاق تلك الحركة في فرنسا. واكتسبت حركة الشعر الإنكليزي الحديث دورها المؤثِّـر في الحياة الثقافية الإنكليزية خاصة والعالمية عامة بالكتابات النقديّة لشعرائها الروّاد، وأبرزهم تي· إي· هيوم وإزرا باوند وتي· إس· إليوت، الذين استطاعوا بما وضعوه ونشروه من مقالات نقديّة وفكريّة واكبت حركة الشعر الحديث، ترسيخ مبادئ نقديّة جديدة وإزاحة المبادئ النقديّة الرومنطيقيّة التي ظلّـت سائدة في النقد الأدبي وفي الحياة الثقافيّة الغربيّة إلى ما بعد انتهاء المرحلة الرومنطيقيّة في الإبداع الشعري، على حدّ تعبير هيـوم.

وليس كلّ شاعر مجدّد ومبدع شاعرا-ناقدا بالضرورة أو منظّرًا لحركة التجديد وفيلسوفًا لها. فلا بدّ للموهبة الشعرية أن تقترن بثقافة فلسفيّة ونقديّة عميقة وشاملة لتتولّد لصاحبها القدرة على بلورة فلسفة التجديد الفنّي بما هي نتيجة حتمية لتفاعل الشاعر وإبداعه الشعري مع عصر متحوّل ومتغيّر ومتجدّد. وقد شهد منتصف القرن العشرين حركة تجديد في الشعر العربي اصطُلح على تسمية ما أُبدع فيها بـ”الشعر الحديث”، أثارت وشعراؤها اهتمامًا كبيرًا في أوساط المثقّفين خاصة، وطرحت أسئلة واستدعت نقاشات دارت، فيما دارت، حول مفهوم الحداثة وصيغ التعبير الجديدة وأدواته ومضامينه غير المألوفة وارتباط الشعر الحديث بالتراث وافتراقه عنه، وكذلك حول تجارب شعراء الحداثة وخصوصيّة الرؤيا والتعبير فيما يبدعونه· وكان خليل حاوي (1919-1982)، أحد أبرز روّاد حركة الحداثة الشعرية، الأقدر على توفير الإجابات ووضع الأسس النظريّة وإرساء القواعد الفكريّة لحركة الحداثة الشعرية العربية، لما امتاز به من جمع ما بين رؤيا شعرية متميّزة من ناحية وثقافة نقدية وفلسفية واسعة من ناحية ثانية. ولا شك أن ذلك ما يفسّر وجود “حوارات” عديدة لخليل حاوي مع نقّاد وصحفيين ومثقّفين منشورة في الصحف والمجلات التي كانت تصدر في لبنان خاصة ودول عربية أخرى خلال عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي. يقول بلال الحسن في مقدّمته لحوار له مع خليل حاوي في كانون الأول 1964:

في مقابلة صحفيّة عاجلة ماذا يمكن أن نسأل شاعرا كخليل حاوي؟ فالضجّة التي أثارها كلّ ديوان ظهر له كانت تجمع حوله سيلا من النقّاد والصحفيين يسألونه رأيه في كلّ شيء، ويجيبهم ببساطته المعروفة عن كلّ شيء أيضا.

وكان خليل حاوي يحرص على جمع ما يُنشر من تلك الحوارات في الصحف والمجلات حرصه على تقديم إجابات منهجيّة ودقيقة عن الأسئلة التي كانت تُطرح عليه، وكان يحتفظ بقصاصات تلك الصحف والمجلات المتضمّنة حواراته، أو بجانب كبير منها، في ملفّ خاص ويصحّح الأخطاء المطبعية التي تقع بها سهوًا.

هذه الحوارات التي جمعها خليل حاوي وغيرها من أوراقه التي تتضمّن مقالات ودراسات تناولت شعره ومقالات كتبها بنفسه، كانت بين يديّ في السنوات ما بين 1971 و1979. فقد كنت تلميذة من تلامذة خليل حاوي بالجامعة الأميركية في بيروت منذ خريف عام 1967 حين تابعت معه دروس الفلسفة اليونانيّة والفلسفة الإسلاميّة في السنة التحضيرية الأولى من الدراسة الجامعية (فرشمن)، ونظريّات النقد الأدبيّ الغربيّ والعربيّ وفلسفته في السنوات التالية وحتى عام 1979 حين أنهيت المرحلة الأولى من الإعداد لشهادة الدكتوراه بإشرافه، بعد أن كنت قد أنجزت بإشرافه أيضا أطروحة ماجستير بعنوان “أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث” عام 1974. خلال تلك السنوات الاثنتي عشرة خصّني خليل⊇ حاوي باهتمام استثنائي، وكان لي المعلّم والموجّه، والراعي لعملي الأكاديمي، والمحتضن لإنتاجي العلمي. وفي سنوات دراساتي العليا منذ أوائل السبعينات، كنا نمضي يوميّا ساعات خارج إطار الحصص الدراسيّة نناقش فيها قضايا الشعر والفن والفكر، ويحدّثني طويلا عن شجون الأوضاع العربيّة وهموم الإنسان العربيّ في زمن الإحباط وعصر التشرذم والانهيار. كان يحكي لي عن كلّ شيء: يروي لي سيرته الذاتيّة والعلميّة وتجربته الشعريّة، ويفصّل آراءه في كلّ ما يخطر في البال من قضايا، بصدق وتلقائيّة وعمق. وكان يرغب في أن أتابع الكتابة عنه بعد أن كتبت عن ديوانيه “بيادر الجوع″ و”الرعد الجريح” دراسات(1) عدّها متميّزة في مجال النقد الأدبي ونوّه بها في حوارين صحفيين عام (1979). (2)

لطالما شعرتُ أن جمع تلك المادة المتناثرة في الصحف والمجلات الصادرة عبر عقدين من الزمن ونشرها في كتاب يشكّل خدمة للثقافة العربية، ويضيف وثيقة مهمّة إلى المكتبة الأدبيّة والنقديّة العربية

وفي العام الدراسي 1971-1972، عام مباشرتي الإعداد لدرجة الماجستير، طلب خليل حاوي من إدارة الجامعة الأميركية انتدابي لمساعدته في أبحاثه، وهو نوع من الدعم الذي تقدّمه الجامعة لطلاب الدراسات العليا من المتفوّقين مقابل مساعدة أحد الأساتذة في أعمالهم وأبحاثهم. وقد عملت مع خليل حاوي حتى سنة 1979. خلال تلك السنوات عهد إليّ حاوي بأوراقه وكتاباته وحواراته المنشورة في الصحف والمجلات، وبكلّ ما جمعه ممّا كُتب عنه من دراسات وأبحاث، فاطّلعت على تلك المادة وصنّفتها وتابعت جمع ما كان يصدر منها خلال تلك الفترة، وأعددت على أساسها بيان سيرة مفصّلا ومبوّبا بكلّ ما كتبه أو تحدّث به أو كتب عنه.

في تلك السنوات تبلورت لديه ولديّ فكرة جمع دراساته النقدية والفكرية ونشرها في كتاب. ولم يكن مزاجه مما يتقبّل أن يقوم بنفسه بعمل يتطلّب تحريرًا وتوثيقا ومراجعة، وتمنّى عليّ أن أقوم بهذه المهمّة بعد أن أنهي كتابة أطروحة الدكتوراه. وغادرت لبنان في صيف سنة 1979 في ظروف الحرب القاسية، ومرّ وقت ليس بالقصير قبل أن أنجز الأطروحة(3)، واختار خليل حاوي الرحيل قبل أن أبدأ بتحريرها. وكان أن عملت بعد إتمامها ومناقشتها عام 1990، على الوفاء بوعدي والعمل على إعداد كتاب يضمّ أعمال حاوي النقديّة والفكريّة، وكانت صور عنها موجودة لديّ، ونشر في عام 2002، وإن كان الكتاب جاهزًا قبل ذلك بعشر سنوات·(4)

أما فكرة إعداد كتاب يضمّ حوارات خليل حاوي المنشورة في الصحف والمجلات، فقد طالما راودتني منذ بداية اطلاعي على ما تجمّع لديه من قصاصات تلك الصحف والمجلات. ولطالما شعرتُ أن جمع تلك المادة المتناثرة في الصحف والمجلات الصادرة عبر عقدين من الزمن ونشرها في كتاب يشكّل خدمة للثقافة العربية، ويضيف وثيقة مهمّة إلى المكتبة الأدبيّة والنقديّة العربية، إلى جانب كونه لفتة عرفان بجميل أقدّمها لخليل حاوي تحقيقا لرغبة أرى أنها كانت تراوده عندما كان يجمع تلك المقابلات والحوارات المنشورة ويحتفظ بها، وقد يصحّح بعضًا مما ورد فيها من أخطاء.

إن تلك الحوارات التي أجراها صحفيّون وأدباء، والندوات التي كانت تنظّمها مجلات أدبيّة وفكريّة يشارك فيها شعراء وأدباء ونقّاد، تعكس صورة الجوّ الثقافي السائد آنذاك في الوطن العربي عامة وفي لبنان على وجه الخصوص، من خلال الأسئلة التي كانت تُطرح على خليل حاوي في المقابلات الصحفية وإجاباته عنها، ومن خلال القضايا التي شكّلت محور النقاش بين الأدباء والشعراء العرب في تلك الحقبة من الزمن. ولا شك أنها مصدر أوّليّ للبحث في إرث خليل حاوي الشعري والفكري ومرجع أساسي لدراسة حركة التجديد والحداثة في الشعر العربيّ في النصف الثاني من القرن العشرين.⊇كما أن تلك الحوارات وثيقة نقديّة وعلميّة لا غنى عنها للباحثين في شؤون الأدب والشعر والنقد والفكر العربي والمقارن تشكّل عصارة التجربة الفنّية والتأمّل الفكري لرائد فذّ من روّاد الشعر العربيّ الحديث. وليست تلك الحوارات مجرّد سجلّ تاريخيّ يختصّ بزمن مضى وانقضى، بل هي في جانب كبير منها بنت الساعة التي نحياها اليوم. فقد استطاع حاوي بحدس الشاعر الرائي وثقافة الناقد المتمرّس وتأمل المفكّر الحصيف أن يكشف عديد الآفات التي تعاني منها الأمة العربية في حياتها الثقافية والاجتماعية والتربوية والسياسية الراهنة. ولعل ما دعاه في حوار له في أواخر العقد السابع من القرن الماضي بالارتداد إلى “سلفية غاشمة تستمدّ قوّتها وسيطرتها من مصادر تكاد تكون بجملتها غير مشروعة”، محدّدا استخدام المال والإفادة من وسائل الإعلام سبيلا “لترسيخ تلك السلفية”، يشكّل مثالا على تلك الرؤيا الثاقبة التي ترى إلى المستقبل، ووطنُنا العربي اليوم يعاني ما يعانيه من ذلك الارتداد السلفي المرَضي الذي يهدّد كيانه.


لوحة: أسامة دياب

غير أن المادة لم تكن بين يديّ بعد مغادرتي بيروت، وإن كان متوفّرًا لديّ ثبت كامل بها وضعته أثناء عملي مع خليل حاوي. وقد حاولتُ بعد رحيله جمعها، بمساعدة أصدقاء، من أرشيف عدد من المكتبات بلبنان منها مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت ومن مكتبات عامة وجامعية في القاهرة ودمشق، فلم أعثر إلا على عدد قليل جدًا منها. هذه الأوراق وغيرها من أوراق خليل حاوي الخاصة كان أولّ من استلمها إثر رحيله الدرامي المفاجئ الدكتور نسيب همّام رحمه الله، صديق خليل حاوي وقريبه وطبيبه الخاص، وصديقي الذي كنت أعتزّ بصداقته ومودّته· وكان الدكتور همّام أول من أُعلم بوفاة خليل حاوي منتحرًا، وكان هو من رافق الشرطة إلى منزله صبيحة يوم السابع من يونيو عام 1982، وتابع المسائل الطبيّة الشرعيّة وإجراءات التحقيق الأمني كافة، واستلم المنزل ومحتوياته. وبقي منزل خليل حاوي بكل ما فيه أمانة في يد الدكتور همام إلى أن تسلّمه الأستاذ إيليا حاوي رحمه الله، شقيق خليل(5)، حين تمكّن من القدوم إلى بيروت الغربية من منزله في منطقة أدونيس(6) في ظل الأحوال الأمنية الخطيرة التي كانت سائدة حينذاك، في أحلك أيام الحرب اللبنانية وأقساها، وبعدما عانى لبنان ما عاناه من احتلال الجيش الإسرائيلي، وكان ذلك هو السبب المباشر لقرار خليل حاوي إنهاء حياته ليلة دخول قوات الاحتلال أرض العاصمة اللبنانية بيروت. وقد كتب إليّ الدكتور نسيب همّام رسالة(7) يقول فيها:

يبقى أنك مؤهّلة أكثر من أيّ أحد أو أيّ جماعة لإبقاء قيمته. وأتمنّى أن تدوم رغبتك في إقامة ميراثه. وأعيد الآن أني نقلت إلى إيليا (حاوي) رأيي بحفظ كلّ ما لدينا حتى إذا أردتِ أن توكلي إلى نفسك هذا العمل توضع جميع الآثار تحت تصرّفك. تجاه هذا الاتّكال الكلّي عليك لا يغرب عن بالي أنك مرتبطة بواجبات أخرى وأنك في بدايات تأسيس نفسك بأمر المستقبل المأمول، ومع ذلك أتمنى أن تتضافر العوامل من ظروفك الخاصة ودوام رغبتك لكي تحيي أثر خليل من أجل نفسه ومن أجل هذه الأمة. يهمّ كثيرا أن تتمكني من الحضور إلى لبنان ولو لمدّة قصيرة لتحديد السبل والإمساك بالخيوط المختلفة. وعندئذ يمكن تأجيل العمل المتكامل إلى حين آخر. في انتظار ذلك سنقيم على اقتناعي أنا واقتناع إيليا (حاوي) بأن هذا العمل هو لك دون سواك.

ولم أتمكن من الذهاب إلى لبنان قبل أواخر عام 1992؛ حينذاك كان الدكتور نسيب قد توفّي، رحمه الله، واتصلت بالأستاذ إيليا حاوي وتحدثّنا في شأن إعادة طبع ديوان خليل حاوي ونشر أوراقه. وألححتُ على ضرورة جمع دواوينه الشعرية الخمسة في مجلد واحد. وكانت المجموعة الصادرة عن دار العودة تحت عنوان ديوان خليل حاوي في طبعتها الثانية عام 1979 تضمّ دواوينه الثلاثة الأولى “نهر الرماد” و”الناي والريح” و”بيادر الجوع″، وصدر آخر ديوانين له، “الرعد الجريح” و”من جحيم الكوميديا”، في ذلك العام لأوّل مرّة عن الدار نفسها، كلّ منهما في مجلّد مستقلّ· وطلب الأستاذ إيليا منّي وضع مقدّمة للأعمال الشعريّة الكاملة (8) فرحّبت بذلك، وشعرت أني بكتابة تلك المقدّمة، أحقّق رغبة خليل حاوي الذي كان قد طلب منّي نشر دراستي “خليل حاوي يكتب ملحمة الإنسان والحضارة” (9)، كمقدمة لديوانه “الرعد الجريح”، ولم أوافق على الفكرة حينذاك، وكانت حجّتي أن تحليلي للقصائد الأربع التي شكّلت تلك المجموعة الشعريّة، سيحدّد النظر إليها بوجهة معيّنة يُخشى أن تؤخذ على أنها التأويل الوحيد لها أو أن يُعتقد بأن الشاعر يتبنّاها دون غيرها. (10) وسلّمني الأستاذ إيليا صورًا عن كلّ ما كان موجودا لديه من قصاصات الجرائد والمجلات التي كانت في منزل خليل حاوي، وتضمّنت المقابلات التي أجراها أدباء وصحفيّون مع خليل حاوي على مدى عقدين من الزمن، وهي الأوراق التي كانت بين يديّ في سنوات عملي مع حاوي في الجامعة. هذه المقابلات والحوارات -وقد أضفتُ إليها حوارا شفهيّا تلا ندوة شعريّة لخليل حاوي في مركز غوته الثقافي ببيروت في 15 أيار 1975 قمتُ بتسجيله على شريط سمعي في حينه ونشرته في مجلة الآداب عام 1992، ووثيقة بعنوان “الشعر.. تجربة، رؤيا، تعبير”، وضعها خليل حاوي ليشارك بها في ندوة دعوتُه إليها عام 1981 نظّمتُها بمدينة الحمامات التونسيّة في إطار عملي حينذاك في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بتونس(11)- تشكّل مادة هذا الكتاب الذي أعتزّ بإنجازه وإضافته إلى المكتبة العربيّة مصدرًا أوّليّا ووثيقة أساسيّة حول تجربة خليل حاوي الشعريّة، وكذلك حول حركة الشعر العربيّ الحديث والمشهد الثقافيّ العربيّ في ستينات القرن العشرين وسبعيناته.

يبقى خليل حاوي علَمًا بارزًا في تاريخ الشعر العربيّ والثقافة العربيّة في القرن العشرين، وشاعرًا رائدًا من روّاد الحداثة الشعريّة وناقدا ومفكّرا نذر شعره وفكره وحياته لقضيّة محوريّة آمن بها

عدت إلى هذه الأوراق وأعدت قراءتها مرارًا متأمّلة في كيفيّة تنسيقها لنشرها في كتاب. وقد قرّرت بعد تفكير طويل وأكثر من محاولة في تصنيف مضمون الحوارات حسب القضايا الرئيسة التي تناولها حاوي فيها، نشر الحوارات في الشكل الذي ظهرت به في الصحف والمجلات والمحافظة على صيغة الأسئلة التي كان يطرحها المحاورون وعلى تسلسلها، لتشكّل وثيقة تاريخية لا يجوز المساس بها، ولوضع تلك الحوارات في سياقها الثقافيّ والزمنيّ والالتزام بما يقتضيه نقلها إلى القارئ والباحث من أمانة علميّة بعد مرور أربعة إلى خمسة عقود من الزمن على حدوثها. ولهذا السبب نفسه تركتُ عناوين المقابلات كما وردت في الصحف والمجلات، وحافظتُ على مقدّماتها أو أجزاء من تلك المقدّمات وجدتُ أنها تساهم في كشف الأجواء الثقافيّة والفكريّة السائدة في الساحة الثقافيّة العربيّة حينذاك. وقد وضعت الأسئلة والمقدّمات بالخط المائل للفصل بينها وبين إجابات حاوي عن تلك الأسئلة. ولم أتدخّل إلا لتصحيح أخطاء مطبعية أو لغوية، وردت فيها أو تدارك جملة سقطت سهوا في طباعة الجريدة أو المجلة وقد أشرت إلى مواضعها في الهوامش، ووضعت كلَّ ما أضفتُ ضمن قوسين معقوفين، كما وضعت في الهامش أسماء الأعلام الغربيين المذكورين في الحوارات بالحرف اللاتيني وتاريخ ولادة كلّ منهم ووفاته لتحديد الإطار الزمني الذي عاشوا وعملوا فيه، وأضفت هوامش بتفاصيل وجدتُ أنها توفّر معلومات ذات دلالة، ووضعت في آخر الكتاب ثبتًا بالمقابلات والندوات الواردة في الكتاب.

وقد أدرجتُ تلك الحوارات وعددها ثلاثة وستون حوارًا، في ثلاثة أجزاء وضعتها تحت عناوين: “حوارات الستينات”، و”حوارات السبعينات”، و”الثمانينات: حصاد مسيرة إبداع شعريّ وعطاء فكريّ”· ويضمّ كلٌّ من الجزأين الأول والثاني، ستة فصول مقسّمة حسب السنوات التي نُشرت فيها الحوارات(12)، ووضعت في الهامش اسم الجريدة أو المجلّة وتاريخ صدورها ومكانه واسم المحاوِر إذا كان مذكورًا ورقم العدد ورقم الصفحة إذا كانا ظاهرين على القصاصة الموجودة لديّ. ويضم الجزء الثالث مداخلات حاوي في ندوة لمجلّة الفكر العربي عام 1980، والوثيقة التي أعدّها حاوي حول تجربته الشعريّة والفكريّة للمشاركة في الندوة التي دعوتُه إليها عام 1981. ورغم أن هذه الوثيقة كانت في الجانب الأكبر منها تجميعًا لأسئلة وإجابات وردت في حوارات سابقة منشورة، غير أني آثرت أن أضمّنها كاملة في الكتاب لأنها تشكّل الصيغة الأخيرة التي وضعها خليل حاوي لعرض خلاصة ما انتهى إليه من موقف في قضايا الشعر والنقد والثقافة. غير أني حذفت من بعض حوارات السبعينات الإجابات التي وردت حرفيّا في حوارات سبق نشرها، وأشرت إلى ذلك في مكانه. وكان خليل حاوي في العديد من حوارات تلك الفترة يضع إجابات مكتوبة عن الأسئلة التي كانت تطرح عليه وأحيانا يصوغ بنفسه بعض تلك الأسئلة. أما ما سيجده القارئ من تكرار فيما يعبّر عنه حاوي من مواقف وأفكار في حواراته عامة، فأمر متوقّع وعاديّ مردّه انشغال الساحة الثقافيّة في ذلك الزمن بعدد من القضايا الفنّية والنقديّة التي كانت تتّصف بالجدّة حينذاك أدّت إلى طرح الأسئلة ذاتها من قِبل المحاورين من ناحية، وحرص حاوي على تأكيد موقفه من تلك القضايا والتعريف بها على أوسع نطاق وترسيخها في الوعي الفنّي والثقافي العام من ناحية ثانية. غير أن وجود بعض التكرار لا يعني أنه خلال عقدين من الزمن لم يحدث تطوّر في التفكير بالقضايا التي كانت تطرح حول الشعر الحديث والأسئلة التي كانت توجّه إلى روّاده. ومع أن آراء حاوي في القضايا الأدبيّة والفنّية ومواقفه من المسائل الثقافيّة والحضاريّة بقيت، من حيث المبدأ، ثابتة على حالها، يشعر القارئ أن هناك تفكيرًا متواصلا في القضايا جميعا وتحوّلا في بعض المواقف، وأن هناك تطوّرًا في معالجة المسائل المطروحة على الشاعر، كما أن هناك إضافات أساسيّة في عرض تجربته الشعريّة التي تطوّرت وتعمّقت عبر السنين.


بهرام هاجو

وقد مهّدتُ لهذه الحوارات بدراسة بعنوان “خليل حاوي: الشاعر-الناقد” كنت قدّمتها في مؤتمر “خليل حاوي وتطوّر الشعر العربي الحديث” الذي عقدته دائرة اللغة العربية ولغات الشرق الأدنى في الجامعة الأميركية في بيروت ومجلة الأبحاث الصادرة عن كلية الآداب والعلوم بالجامعة بالاشتراك مع المعهد الألماني للأبحاث الشرقيّة وذلك في الجامعة الأميركية في بيروت من 6 إلى 8 يونيو 2007، ونُشرت في ملفّ خاص ضمّ عددًا من أبحاث المؤتمر في عدد مجلّة الأبحاث الصادر في عام 2011. وقد رأيت أن هذه الدراسة التي تناولت لأولّ مرّة تجربة خليل حاوي الشعريّة وموقفه من القضايا التي أثارتها حركة الحداثة الشعريّة العربيّة من خلال حواراته المنشورة في الصحف والمجلات وقدّمت خليل حاوي بصفته شاعرا-ناقدا، تشكّل مدخلا منهجيّا مفيدًا لقراءة تلك الحوارات.

بهذا العمل، فضلا عن ديوان خليل حاوي المتضمّن الدواوين الخمسة الصادر في مجلّد واحد عام 1993، وعن كتاب “خليل حاوي: فلسفة الشعر والحضارة” الذي يضمّ مقالاته النقديّة والفكريّة، تكتمل المصادر الأوّلية الأساسيّة لدراسة شاعر يُعدّ باستحقاق، قامة شامخة في التراث الشعريّ العربيّ وعلَما من أعلام الإبداع الشعريّ الحديث. وكلّ ما أرجوه أن أكون قد اقتربت من تحقيق الهدف الذي سعيت إليه وهو المساهمة في إضافة عمل نقديّ وأدبيّ يشكّل إضاءة جديدة على حركة الشعر العربيّ الحديث وما رافقها من قضايا نقديّة وفكريّة وثقافيّة في النصف الثاني من القرن العشرين، وأن أفي خليل حاوي بعضًا من حقّه من حيث هو رائد من أبرز روّاد هذه الحركة بما أبدع من شعر وساهم به من فكر ونقد، وأن أقدّم وثيقة تعرض موقفه عبر عقدين من الزمن ممّا كان مطروحًا في الساحة الثقافيّة العربيّة حينذاك من قضايا الشعر والنقد والثقافة والحضارة، وتكشف تجربته الشعريّة وثقافته الفلسفيّة وانشغالاته الحضاريّة ومعاناته الوجوديّة ورؤياه المستقبليّة وجوانب من سيرته الذاتيّة ومن شخصيّته.

ويبقى خليل حاوي علَمًا بارزًا في تاريخ الشعر العربيّ والثقافة العربيّة في القرن العشرين، وشاعرًا رائدًا من روّاد الحداثة الشعريّة وناقدا ومفكّرا نذر شعره وفكره وحياته لقضيّة محوريّة آمن بها، وهي إحداث نهضة تعمّ مناحي الحياة العربيّة جميعًا ليتحقّق ما حلم به من انبعاث للحضارة العربيّة وتجدّد للفكر والإبداع الشعريّ العربيين. بهذا الإيمان العميق أعاد حاوي للشعر دوره الحيويّ في الحياة الثقافيّة، وأعاده إلى موقعه المستحَق في الحضارة الإنسانيّة.

إلا أنه متى كانت المطامح كبيرة كان الانهيار عظيمًا، وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مُرادها الأجسام، كما يقول المتنبي. فلم يستطع خليل حاوي أن يتحمّل رؤية الحلم القومي بانطلاق نهضة حضاريّة عربيّة شاملة الذي استمدّ منه رؤياه الشعريّة وبنى عليه إبداعاته الفنّية يتقوّض بتلك الصورة المفجعة التي تراءت له في التفكّك العربيّ بدل ما كان يأمله من تآلف ووحدة، وفي الهزائم العربيّة المتتالية بدل ما كان يرجوه من انتصار، وفي تراجع قيم الحداثة والانفتاح والتنوير والارتداد إلى “السلفيّة الغاشمة” التي قال في إحدى حواراته إنها “انتقلت إلى برامج التربية في الدول العربية” بدل ما وقف عليه حياته من دعوة إلى إعمال الفكر النقدي وسيادة العقل. ولمّا كان قد جعل حياته عِدْلا للقضيّة التي نذر نفسه لأجلها، وهي الانبعاث الحضاريّ والتجدّد الفكريّ والثقافيّ والتحديث الشعريّ، وجد أن حياته فقدت مبرّر استمرارها حين رأى قضيّته تنهار أمام ناظريه. ذلك الانهيار المفجع تمثّل له حينذاك في أعنف صوره وأبشعها في احتلال الجيش الإسرائيليّ أول عاصمة عربيّة، بيروت، يوم السادس من يونيو عام 1982، في الذكرى الخامسة عشرة للهزيمة العربيّة الكبرى التي كانت صورة من أشدّ صور انهيار الحلم القوميّ الكبير قسوة. يومها قرّر خليل حاوي الانتحار، وكانت طلقة بندقية الصيد التي فجّرها بين عينيه صرخة مدوّية في ضمير كل عربي مخلص وشريف، لا في الجيل الذي انتمى إليه حاوي فحسب بل في الأجيال العربيّة التالية التي طالما “مدّ أضلعه لها جسرًا” لتعبُر إلى مستقبل عربيّ حلم أن يكون مشرقًا.

غير أن شعر خليل حاوي وكتاباته وحواراته النقديّة والفلسفيّة تبقى علامة مضيئة في زمن يُخشى أن تطول فيه لدينا ظلمات التخلّف والتشرذم والانهيار، وتظلّ أساسًا صلبًا من أسس إعادة بناء ثقافة الحداثة وإبداعاتها الفنّية والفكريّة في الوطن العربي التي رسّخها مفكّرون وشعراء وأدباء عرب كبار منذ مطلع القرن العشرين.

النص مقدمة كتاب يصدر هذا الشهر عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» في بيروت

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.