المتلازمة الأندلسية

الاثنين 2015/06/01
تخطيط: ساي سرحان

دخل عيادة الدكتور بحقيبته من نوع حقائب المدرسة ذات الكتفين التي يستخدمها في السعودية أطفال المراحل الأولى من الابتدائية.. ورغم أن وقت الدوام انتهى وكان الدكتور في طريقه للخروج لكن المريض صار الآن داخل الغرفة وبدا مرتبكا بعض الشيء، يمسك سيري الحقيبة الممتدين على جانبي صدره بقبضتيه وكأنه يخشى أن تنزلق، الدكتور الذي كان يجمع أوراقا وملفات من على مكتبه يحدق في ملامحه الآسيوية ويفكر بأيّ اللغتين يمكن أن يخاطبه بها العربية أم الإنجليزية ولم تكن حيرته قد حسمت حينما نطق الآسيوي: السلام عليكم

• أهلا ..

• …

قام الدكتور من خلف مكتبه

• في الحقيقة كنت على وشك الخروج.. ما رأيك بأخذ موعد من الـ…

وفتح الدكتور الباب، كانت السكرتيرة قد خرجت بالفعل ومكانها فارغ.. والمريض واقف لم يلتفت مع أن الدكتور صار خلفه ممسكا بالباب.

حسنٌ لا بأس.. تفضل.

تراجع الدكتور حيث كان وأشار إلى المقعد الجانبي أمام المكتب، جلس المريض على طرف الكرسي دون أن ينزل الحقيبة عن كتفيه لكنه أفلت قبضتيه وحاول تفريغ ارتباكه في أكمامه يرفعهما قليلا، ثم ينزلهما ثم يرفعهما.

لم يدرِ الدكتور هل صاحب الوجه الآسيوي مرتبك، أم أنه لم يفهم منه إلا الإشارة إلى الكرسي.. فحسم أمره وبدأ الكلام معه بالإنجليزية، قال وهو يعدل جلسته:

• إذن.. أخبرني ما هي المشكلة عزيزي؟

• ليست لديّ مشكلة..

• آها …

• لديّ خطة.

• خطة.. جميل.. أخبرني عن خطتك.

• هل سمعت عن جنكيز خان؟

• الشخصية التاريخية الشهيرة.. نعم.

• كان يقول : لقد فتحت لكم امبراطورية عظيمة، لكن حياتي كانت قصيرة للغاية لتحقيق غزو العالم، هذه المهمة تركت لكم.

• آها ..

أمسك الدكتور قلما وورقة من أوراق الملاحظة وسأل وهو يكتب:

• طيب.. هل حضر معك أحد؟

• أبي. ينتظر في الخارج.

• جميل.. هل تعاني من أيّ مشكلات جسدية أو تتناول عقاقير معينة؟

• لا.

• هل تعرف لماذا أنت هنا؟

• أبي اقترح عليّ الأمر.. قال أنك قد تستطيع مساعدتي.

• سأبذل جهدي.

• حقا ؟!!!

• لو أخبرتني ما الخطة.

استند على ظهر الكرسي واسترسل بشيء من الارتياح:

• هل تعلم أنه استخدم الحرب الجرثومية، فقد كان يقذف المدن المحاصرة والعصية على الاستسلام بجثث جنوده المتوفين بالجدري والطاعون لنشر العدوى بين أهلها.

• يا الله! … ولكنك لم تخبرني بعد بالمشكلة؟

• أيّ مشكلة؟

• الخطة.

• هذه خطتي.

• عفوا هل لك أن تفصل أكثر.

• خطتي أن أكمل مشروع جنكيز خان بغزو العالم.

وهنا وضع الحقيبة عن كتفيه وفتحها بحماس شديد وأخرج دفترا مدرسيا على غلافه رسومات “أنيميشن” وابتدأ يقلب صفحاته فلمح الدكتور امتلاءه بالكتابات والرسومات.

• ولكن قبل ذلك قررت أن أعتزل الناس بضع سنوات كما فعل جنكيز خان حينما اختفى عشر سنوات من العشرين إلى مشارف الثلاثين، في تلك الفترة تلقى الوحي…

• عفوا.. أكره أن أتحاذق لأصوب معلوماتك عزيزي ولكن جنكيز خان لم يكن نبيا.. بل قائدا عسكريا ثم حاكما بعد ذلك.

• هذا ما تقوله أنت.

• ليس أنا.. بل كتب التاريخ. هل قرأت سيرته؟

• نعم.

• وهل ترى أنه رجل عظيم؟

• بالطبع.. لماذا رفعت حاجبيك؟ تظن أن لي ميولا عنفية؟ لا.. أعرف أنه لا يجب أن يكون المرء عنيفا إلا اذا اضطر إلى ذلك. كما اضطر جنكيز خان، ولكن أتعلم أن التهويل في وصف عنفه خطة منه؟ “التوحش كرسالة تهديد”.

قال وهو يرسم قوسين بإصبعيه في الهواء. ثم بدا عليه الحماس في الشرح وتقدم بجسده إلى الأمام وحرك يديه بعفوية مدركا أهمية ما يقول وتابع:

• لقد كان بارعا فعلا في الحرب النفسية، يمكنني التأكيد على أنه كان خبيرا نفسيا.. مثلك، ههههه لا.. أنا أمزح معك.. أنت تعلم بالتأكيد أنني أمزح فلا مجال للمقارنة.. أعني لا شك أن حياته وتجاربه جعلت منه شخصا أبرع منك بكثير في هذا المجال.

• أوه.. بالتأكيد بالتأكيد.

• الناس بحاجة لشخص كجنكيز خان. هل تعلم أنه عاش حتى السبعين في زمن تشح فيه أعمار الرجال.. لا شك أن الناس كانوا يكنون له الولاء والاحترام.

• كيف هي علاقتك بالمرأة؟

• أيهن؟

• المرأة بشكل عام.

• سأنجب العديد من الأولاد.. ربما أربعين أو خمسين..

• هذا عدد كبير فعلا.. هل تظن أنك قادر على تحمل مسؤولـ…

• يمكنني استخدام طريقتكم.. أعني التعدد.. سأتزوج أربعا ثم أطلقهن ثم أربعا أخريات.. بحسبة رياضية بسيطة أظنني أحتاج ثماني إلى عشر نساء لأنجب خمسين ولدا. هل تعلم أن لجنكيز خان العديد من الأولاد.. يقال أن سلالته اليوم بالملايين.

كتب الدكتور في ورقة ملاحظاته: تقديس السلالة والحلم بالخلود، ميل واضح إلى العنف، التطلع إلى المجد والحكم والسيطرة. وكان يفكر بحيرة أن هذه الحالة هي الأولى من نوعها التي يرصدها لغير عربي ولا يهودي. ثم نظر إلى الساعة نظرة خاطفة، لقد وعد أبويه أن يحضر مع زوجته وأطفاله للعشاء عندهم الليلة، المريض قال:

• لو كنتُ متعجلا مثلك لما أوليت أهمية للأمر ولما تفرغت لرسم الخطة..

تذكر الدكتور عجوزا يهوديا في برلين حضر عنده بضع جلسات حينما كان يحضر بحث الدكتوراه في ميونخ، تذكر كيف تأجلت رحلته مرتين بسبب سوء الأحوال الجوية، فاضطر لقطع المسافة بالسيارة إلى برلين لمقابلة اليهودي.. الذي قال له إذ حانت منه التفاتة عبيطة إلى ساعته حينما انتبه لخلل ما في توقيتها:

تعلم أنه ليس من الأدب ولا الذوق النظر إلى ساعتك فيما يتحدث المريض..

وشعر حينها بالانزعاج من ذلك المريض الذي يعلمه أخلاقيات مهنته.. وكما اعتذر للمريض اليهودي وقتها، اعتذر للمريض صاحب الوجه الآسيوي وأضاف:

• أنت لم تخبرني عن تلك الخطة؟

• أنت من سيخبرني بالخطة.. هل أنت مصاب بالزهايمر يا دكتور؟ لقد وعدتني بالمساعدة قبل قليل!

• أظنك لم تفهمني بشكل جيد.

• لا بأس يمكنك التحدث معي بالعربية.

• أوه! أنت تتحدث العربية.. أنا آسف.. أعتذر بشدة.

شعر الدكتور بالحرج الشديد فهو يمقت أشد المقت أن يُعتبر عنصريا وحاول أن يوصل ذلك بأصدق الاعتذارات لمريضه الذي لم يتفاعل مع توتر الدكتور وسأل باستغراب:

• لماذا تعتذر؟!

• لأنني.. ظننتك.. لا تتحدث العربية.

• وهل هذه إهانة؟ أن لا أتحدث العربية؟

• لا.

• إذن؟

وهنا اكتشف الدكتور أن دافعه للاعتذار يعبر فعلا عن عنصرية من نوع ما.. أن يندم أشد الندم لأنه ساوى بين ناطق بالعربية مع غير الناطقين بها، الأمر الذي بدا له غبيا فعلا.. فانزعج من ذلك وأراد نسيان الأمر والمضي في العمل فنطق بأول جملة طرأت على ذهنه:

• كيف تعلمت العربية؟

• أنا مولود هنا.

وهنا ضحك الدكتور وود لو يصرخ كأرخميدس، لكنه حاول السيطرة على شعور الانتصار وكبته فخرج على شكل قطرات من الدمع بللت عينيه وابتسامة عريضة لم يستطع كبتها فقد أدرك أن هذا المريض اكتسب اضطرابه النفسي بسبب البيئة العربية المحيطة الصادحة بأمجادها الغابرة ليلا ونهارا، وتمتم كآخر محاولة لكبح جماح شعوره الاحتفالي غير اللائق أمام مريض: متلازمة ضياع الأندلس.. وكتب على ورقة ملاحظاته: “تم التشخيص SLA” وختم بخط أفقي تحتها للتأكيد.

كان الطبيب قد أجرى محادثات عيادية مع من يحتمل تشخيصهم بهذه المتلازمة خلال السنتين الماضيتين، اضطر للسفر أحيانا لمقابلتهم، كاليهودي الذي اضطر للسفر إلى برلين للقياه بعدما اعتذر المريض عن إمكانية السفر “لأن مشاغله مع الأمة اليهودية لا تتيح له ذلك” حسب ما أفاد في رسالته.

كانت حصيلة البحث سبعين شخصا في مناطق جغرافية متباعدة.. يشتركون في أصولهم العربية أو اليهودية باستثناء هذا الآسيوي.

قدم الدكتور بحث الدكتوراه عن تشخيصه لمرض أطلق عليه اسم المتلازمة الأندلسية أو Syndrome Loss of Andalusia ويختصربـ SLA وهو اضطراب نفسي لا ينتشر فقط في الشرق الأوسط لكنه يكثر فيه، في المناطق والسلالات العربية وإسرائيل، ولذلك اختار له الدكتور هذا الاسم.. تتقاطع بعض أعراضه مع أعراض البارانويا وجنون العظمة، يشعر المريض أن مهمة عظيمة منوطة به ويصاحبها فقدان ثقة في المحيطين وقد تصحبها هلاوس أو وسوسة أو هلع وخوف من الخزي.. في الكثير من الحالات المشخصة كانت المهمات العظيمة تتعلق بإنقاذ أعراق وشعوب معينة من أخطار تهددهم كالاندثار والانقراض والتشتت والإبادة.

ضم بحث الدكتور أسماء لامعة كصدام حسين، أسامة بن لادن، أفيخاي أدرعي وآخرين.. مؤخرا تمت الاستعانة بخبرات الدكتور في المملكة العربية السعودية ضمن برنامج المناصحة للسجناء العائدين من مناطق القتال وبؤر الصراع بدعوى الجهاد.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.