الأمانة

الاثنين 2015/06/01
لوحة: فرح علي

كانت القذائف تنهمر كالمطر، بينما يحوم الطيران في كل زوايا السماء. لم تكن ثلة من الشباب تحمل أكثر من أسلحة فردية، وكان الواضح أنهم المستهدفون في هذا التحرك النشط على الأرض وفي السماء.

هجر كل أهل البلدة بيوتهم.

مازالت أمّه العجوز بجانبه، وقد تأخرت عن الركب بسبب رغبتها بالموت في بيتها الذي أضحى في معظمه ركاماً فوق زوجها، وعدم قدرتها على الجري من طرف آخر.

- يا إمّي، روحي إنتي، ما رح يؤذوكي، شو بدن فيكي إنتي!. نحنا خلص.

- مابطلع إلا وإجري عإجرك. أبوك مات تحت الردم. تحت هالحيطان لسعتو مدفون، يعني هوي هون. كيف روح لوحدي؟!

- يا إمي، يا إمي! لازم تروحي، شوفي مريم وين صفّت.

- مريم لما صار القصف وأهلها جايبينها لعندك بعد التلبيسة، اضطروا يهربوا وأخدوها معهن. ما إلكن نصيب بالدخلة، الله لايوفقهن، حتى العرس مات منو كم واحد.

- إمي نصيبي ما أدخل، ونصيبي موت وتترمل مريم وهي عروس. انتبهي القصف جنبنا. أنا بعرف إنو ريوسنا مطلوبة. الموت أحسن من الاعتقال يا إمي.

– يمكن مريم وأهلها صاروا ورا التبة هنيك، بُعد شي ساعة، ساعتين مابعرف.

- إمي! بدك تروحي، وتاخدي أمانة لمريم معك.

- إمي، شو الأمانة؟ خلينا نروح مع بعض. والله إذا بكيت وترجيتهم، أنا مرة كبيرة، يمكن يتركوك.

- ضحكتيني إمي! الموت أهون من التعذيب، هي حرب إمي. تسلميلي، استني عشر دقايق.

***

مازال القصف مستمراً، والعجوز ترتعد في زاوية البيت وتدعو وتصلي وتتمتم وتقرأ المعوذتين، ثم تنظر إلى حيث ذهب ابنها. إنه قد ذهب باتجاه غرفة النوم التي كانت معدة لزواجه ومريم، وقد تهدم بعضها.

صفير الصواريخ وهدير الطائرات يملأ المكان.

- يا الله لقد تأخر!

ماذا يمكن لها أن تفعل سوى أن تموت في مكانها؟!

عاد مسرعاً وفي يده لفافة بيضاء صغيرة.

– إمي! هي أمانة فورية، لازم تصل خلال ساعة أو ساعتين حد أقصى لمريم. لازم إمي، هي أمانة إمي. لازم توصل خلال ساعة، لذلك إمشي وحطيها بصدرك، خبيها، لازم تبقى دافية إمي، بترجاكي إمي لازم توصل. لا تفتحيها بس سلميها لمريم إمي، بس لمريم. هي الطريقة الوحيدة لعيش إمي.

- شو فيها؟ قللي شو فيها؟!

- رسالة إمي لح تعرفيها بعدين، بس هلأ إمشي. حبيبتي إمي، روحي لعند مريم، خليكي معها، ماصفي غيرها. إنسانة رائعة لإنك إنتي نقيتيها إلي. ولأنها قلبها وحبها ووجهها أجمل شي بها الدنيا. يالله إمي، مافي وقت.

- شفت كيف تنقايتي؟

- الله معك إمي، ساعة بس، روحي لمريم وعطيها الأمانة بينك وبينها. توصلي بالسلامة وإذا سألوكي عني وعن أبي قوليلهم متنا بالقصف. بسرعة، يالله. اشتد الضرب.

تحضنه الأم باكية وتمشي بساق عرجاء ودعواتها تصل إلى السماء.

- الله يحميكم يارب!

بينما كانت تغادر الأم مبتعدة كانت الاشتباكات مستمرة وأزيز الرصاص يؤرجح المكان.

***

كان حزن مريم على فقد زوجها مضاعفاً، فأيام الخطوبة كانت رائعة، وكانت آمال كبيرة ترسم لهما الحياة كزهر اللوز والمشمش، مغلفة بالأسرار اللذيذة كحبات الجوز.

لم تهنأ حتى بليلة الدخلة. كانت تقول له دائماً لا تتدخل بالسياسة، فهم يقنصون ويعتقلون ويتهمون. وهناك مخربون مندسون. إنها تريد أن يتم زواجهما على خير، فكان يجيبها دوماً إنه شاب مسالم، والحديث في السياسة وحرية الرأي حق لأيّ إنسان في هذه الدنيا، حتى وجدت نفسها في النتيجة تشاركه في بعض حواراته ونشاطاته.

***

لم يتبق من أسرتها سوى أخت أخرى لها، وأمّه العجوز، في بلدة تعتبر هادئة نسبياً، حيث هناك آلاف الأسر التي تعيش على الإعانات، لا عمل، لا أمل، سوى انتظار الموت الذي تمنينه وهن يسجدن في الصلاة، بنفس الطريقة التي مات فيها الأحبة والزوج والأهل.

قالت لها أختها:

- ما رأيك لوقتلنا أنفسنا وانتهينا؟

- قتل النفس جريمة، نتركها لله. أنا بلهاء لا أدري كيف أفكر وكيف أتصرف، شهادة المعهد لا تفيدني بشيء، لا يوجد عمل، لا يوجد سوى انتظار المجهول، وهذه العجوز المسكينة التي فقدت زوجها وابنها الوحيد لا تتوقف من وقتها عن الصلاة.

- مريم، هل لي أن أسألك سؤالاً، ماذا ننتظر؟

– نعم، هذا هو السؤال، ماذا ننتظر ماذا ينتظر الوطن كله؟! دائماً هناك نبتات تخرج من بين الركام. هناك نحل يعيش حتى ما بعد الصقيع، هناك فروع تنشط من الجذوع المقطوعة. لقد قرأت عن نظرية جديدة غاية في الغرابة والإثارة.

- ماذا قرأت يا مريم؟!

- نظرية تقوم على مبدأ تناقل الشيفرات الجينية. كما تنتقل هذه الشيفرات من الأب والأم للأبناء تنتقل من خلال عملية التحول التي تحصل في كل شيء. أنا لم أفهم من النظرية كثيراً، لأن المظاهرات اندلعت ونسيت الموضوع وما عدت أتابعه على النت.

- تعالي يا مريم نصلي مع المرأة العجوز أم زوجك الفقيد، فالله هو ملجؤنا الوحيد الباق

- آااااه.

- ما بك مريم؟

- لا شيء!

- ولكن بطنك منتفخ مريم، لابد من معالجة الغازات وزيادة الوزن التي أستغربها ونحن نأكل القليل.

- لا شيء!

- كيف لا شيء مريم؟

فكرت الأخت بذهول ناظرة في بطن مريم.

- هل هكذا تحضرين المال لنا؟! بطنك مريم، يقول إنك… أعوذ بالله! من هو أبوه؟! أعرف كل الناس ظروفها سيئة، لكن لم يلجأ الكل لمثل هذه الطرق. شو مساوية مريم؟! إحكيلي أنا أختك. بتروحي ننزلو، لازم تجهضي مريم. حدا فرض عليكي؟! إحكي مريم، جننتيني، شو بكي ساكتة، إحكي مريم، إحكي

بقيت مريم صامتة.

***

- مريم الولد لازم ينزل! شوبدها تقول الاختيارة اللي مات ابنها، وإنتي حملتي من غيرو وما منعرف مين أبوه.

تظل مريم صامتة.

***

- بعرف هلأ إنو إذا بدك تطرحي الولد يمكن تموتي. سميه الولد اليتيم المجهول. شو بدي أعمل إلك؟! بس هي الإختيارة اللي عم تموت شو بدنا نقلها؟ مريم ردي.

- ماتقوليلها شي، أنا بقلها بالوقت المناسب.

***

كان الوقت عصراً عندما أحست مريم بتشنجاتها الرحمية. إنه موسم المخاض، موسم الولادة.

هيا، ساعدي نفسك، ساعدي ابنك. عضي على الخرقة واصرخي.

عندما خرج المولود وانطلق في صرخته الأولى كانت أصوات القذائف مازالت تتردد في سمع العجوز وهي تصرخ في ابنها. دعنا نغادر يابني معاً دعني أهرب من أجلك.

عندما ارتاحت مريم قليلاً من ألم الولادة، أعطت ورقة بيضاء ملفوفة للمرأة العجوز لتقرأها.

لم تكن الجدة تعرف القراءة، فقلبت الورقة بيدها ثم شمتها.

- إنني لأشم رائحة ابني فيها.

- نعم أيتها الأم، هذه كانت رسالته التي أرسلها معك يوم أتيت لي بها، أتذكرينها؟

– اقرئيها لي يابنتي.

أخذت الأخت الورقة وقرأتها بصمت وهي تكاد تغيب عن الوعي.

- يا الله! هل هذا معقول يا مريم؟!

- نعم أنت أمه! هذا المولود هو حفيدك. لقد كان يعلم أنه ذاهب، فأرسل لي نطافه، التي لم أتوان عن زرعها في رحمي.

فالحياة رغم كل دمار يجب أن تستمر.

إنه وطن لن يموت أبداً.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.