قصتان

الاثنين 2015/06/01
تخطيط: فيصل لعيبي

انتحار شاب طموح

لأنني وُلدت جزائريًا وجدتُ أنّه عليّ أن أتحمّل أبناء شعبي رغم فداحة الأخطاء التي لا تغتفر، أجدني مجبرًا على التحمّل والغفران فهم بالنهاية أشقائي. حتى أنني فكرتُ بتأسيس حزبٍ للشباب، أطرح عليهم أفكاري السياسية وأحلامي المستقبلية للوطن لكنّ والدي قال الشعب تعوّد أن يمنح ثقته لمن تلوّن شعره بالأبيض وأنت لازال شعرك أسود، السنة القادمة قد أغيّر لون شعري ومشيتي، أقتني بدلات رسمية وسأتحدثُ كثيرًا وسيصفقون لي بوسعي أن أجزم أنني سأكون سياسيًا ناجحًا وقد أترشحُ للرئاسة لأكون بعد بضع سنوات الرجل الأول في البلاد وها أنا أعدكَ منذ الآن إن أصبحتُ رئيسًا لن أتخلّى عنكَ شعبي العزيز، سأكون وفيًا لكم وللكرسي وإن قلتم لي ارحل لن أرحل سأتقبل شكاويكم برحابة صدر وسأتفهم تقلبات مزاجكم!

أمّا السنةُ التي انقضت لم أكن أصّب اهتمامي إلاّ على دراستي فقد كنتُ مقبلاً على شهادة البكالوريا. أبي أرادني طبيبًا، أمّي نصحتني بالخدمة في الجيش فكلّما زادت رتبتي زاد المال والمكانة العسكرية في بلد يحكمه العسكر وأختي نصحتني بالفنون التشكيلية أو الأدبية حتى لا تقضي الأفكار السياسية التي برأسي على ما تبقى لي من إنسانية. أمّا عن أمنياتي الشخصية فأنا رجل طموحٌ لي أحلام بعدد شعر رأسي لكن حياة واحدة لا تكفي لتحقيق كل أحلامنا فكيف لي أن أكون طبيبًا ورئيس دولة وطيارًا وربان سفينة وممثلاً وفنانًا تشكيليًا وأديبًا يجيد نسج الروايات! أعتقد لهذا السبب خلقت الأحلام.

التحقت بصفنا صبية ذكية ومرهفة تدعى عبير، هكذا نمتُ وصحوتُ فوجدتني غارقًا في حبِها لا أعرف كيفَ أو لماذا ولحسن حظي أنها بادلتني النظرات والمشاعر نفسها. عندما انتهينا من امتحاناتِ البكالوريا شعرتُ أنني سأكون أينشتاين المقبل! أما عبير دخلت حالة اكتئاب معلنة الفشل قبل صدور النتائج وبعد عشرين يوما عُلِقت النتائج في الثانويات. كنتُ سعيدًا لنجاحي حزينًا من أجل عبير. سجّلتُ نفسي في جامعة وهران لأدرسَ الطب البشري، وحزمتُ حقيبتي وبدأتُ رحلتي الجامعية القاسية بمبلغٍ متواضع يقدمه لي أبي لا يسد احتياجاتي لذا تطلّب مني العمل كنادل في أحد المطاعم الفاخرة كل مساء. في الإقامة الجامعية قررتُ السكنَ بمفردي، غرفتي في آخر الرواق من الطابق الأخير للعمارة، لا أحد يسكن بالغرفة المقابلة لي لكن يجاورني شابان من ولاية معسكر. اليوم تبدأ محاضرتي في الساعة العاشرة غير أني أفقتُ في السابعة، جهزتُ قهوتي ثمّ غسلتُ ثيابي وخرجت وعندما عدت استغربتُ غياب الثياب عن حبل الغسيل، نظرتُ من النافذة فرأيت ثيابي مكومّة على الأرض، أصابني الدوار لأني أعاني رهاب الأماكن المرتفعة، نزلت السلالم متذمرًا أتساءل كيف للملابسِ أن تقعَ على الأرض في جوٍ مشمسٍ كهذا، صعدتها متذمرًا مرة أخرى و بينما كنتُ أفتحُ الباب سمعتُ صوت أحدهم يتكلمُ بانفعال، لم أتمّكن من تبيّن إن كان الصوتُ الذي أسمعه من غرفتي أم من غرفة جاري؟ وضعتُ أذني على بابي في حالة تركيز وفي تلك اللحظة فاجأني جاري عندما فتح بابه بعنف واستغرب تجسسي على غرفتي خصوصًا أنه يعلم أنني الساكن الوحيد فيها، دخلت مسرعًا كي أتجنب نظراته المحرجة وعندما التفتُ إلى السرير لمحتُ عليه انحناءة كأنّ أحدهم كان جالسًا عليه، لكن من أين خرج وأنا أقف وراء الباب؟

نمتُ على ذكريات عبير وعلى ضوء ابتسامتها ولفرط ما فكرتُ بها زارتني في حلمي، رأيتني في حديقةٍ عامّةٍ ممددًا على العشب ويداي خلف رأسي وإذ بها تحضر في أبهى حلة لها، جلست على ركبتيها ثم انحنت وشعرها الأسود يهوي على وجهي لتهديني قبلة على شفتيّ تجبّ ما قبلها وما بعدها من القبلِ، قاطَعت حلمي ضجة في الغرفة، نومي الخفيف يحدث أن يفسده طنين ذبابة! سمعتُ وقع خف من البلاستيك على بلاط الغرفة، رجل كسول يجرّ خطواتَه فتح الباب ثم صفقه، تسارعَ نبضي وتشوّشت أفكاري أتساءلُ ما الذي حدث للتو؟ بعد بضع دقائق أخرى سمعتُ الباب يفتحُ من جديد محدثاً صريرًا، مشى الرجل متكاسلاً، تثاءب بصوت مسموع ثمّ عمّ الهدوء. يا إلهي! فكّرت: لم لا يكون هذا الصوت قد أتى من الغرفة التي تجاورني؟ كثيرًا ما أسمع موسيقاهم ومناوشاتهم وبالليل تصبح كل الأصوات مسموعة.

في الصباح نهضتُ من فراشِي بمزاجٍ سيء، مشيتُ إلى دورةِ المياه بخطوات بطيئة وعينين نصف مفتوحتين وعندما فتحتُ الحنفية خُيّل إليّ للحظة أنّ الماء صار أحمر على أصابعي كالدّم، حتى أستعيدَ تركيزي صرتُ أغمض عينيّ ثم أفتحهما مجددا، بهذه الحركة عاد للماء لونه أو بالأحرى عدم لونه، فليس للماء لون! خلال المحاضرة، كنت شاردًا طوال الوقت أفكر بعبير الجميلة، أصدقائي الذين تركتهم في تيارت ومستقبلي ومستقبل وطني، ترى كيف ستكون الجزائر بعد خمسين سنة أي بعد قرن كامل من الاستقلال؟ لا أدري، قد يصبح أفضل وقد تؤول أحواله إلى الأسوأ، من الأفضل أن أكون رجلاً ناجحًا هنا على أرضي، أحيا بسلوك مستقيم وأنفع غيري بما أقدر عليه، عدا ذلك كيف لي أن أغير أسلوب تفكير شعب بأكمله، إنها مهمة شاقّة فشل فيها حتى الأنبياء!

أمضيتُ جلّ نهاري في الخارج وعندما عدتُ إلى غرفتي مساءً وجدتها موحشة وكئيبة، أحسستُ بالضيقِ وأنفع مُسَكِن في حالتي هو صوت عبير، خرجت إلى حديقة الإقامة واتصلتُ بها بعد منتصف الليل، رنّ الهاتف طويلاً في أذني قبل أن ترد وما إن بدأتِ الحديثَ بذلك الصوتِ العميق حتى وجدتني أتوه في دهاليزها. صعدتُ السلالم ولازال صوتها يترددُ داخلي، وجدتُ الرواق مظلماً، أغلبُ الطلاب نيام، أثناء سيري سمعت وقع خطوات أحدهم ورائي، كأنّ أحدهم يتبعني كظلي، توقفتُ عن السير فتوقف الذي يلحقني، بإمكاني أن أشعر به، جمعت شجاعتي وقررت الالتفات بسرعة لكنني لم أجد أحدًا، أنا الآن لستُ نائمًا بل كنتُ أتمشى في الهواء الطلق، أنا في هذه اللحظة بكامل تركيزي ولا يمكن أن يكون هذا وليد التخيلات، تابعتُ سيري مهرولاً هذه المرة والغريب أنّ الخطوات صارت تهرول أكثر وفقا لهرولتي، توقفتُ عن المشي، ساد الصمت و شعرتُ بأصابع ربتت على كتفي مرتين لم يعد الموضوع مجرد صوت يخترق الأذن، فالأصابع التي ربتت على كتفي شعرتُ بها حقًا.

الحل الوحيد هو العودة إلى الغرفة حالاً، عدتُ متوترًا وأوصدت البابَ على نفسي. صراع آخر عشته من أجل أن أنام، أمضيت ساعات أتوسل فيها سيدي النوم كي يحضر وأثناء المحاولة سمعت فرقعات متواصلة نتيجة “إطلاق ريح” لو كنت مع أحدهم ما كنت لأمنع نفسي عن الضحك وبصوت مرتفع لكن هذا الموقف مختلف جدّا ولم يكن يدعو للضحك، تضاعف خوفي، لا توجد أيّ احتمالات أخرى، كأن أقول لنفسي إنني أسمع هذا من الغرفة المجاورة ففكرة كهذه لا يقبلها المنطق !

النومُ الذي أبغضه أصبحتُ أشتهيه أكثر من أيّ وقت، تشبثتُ بسريري وغطائي ما لبثت أن نمتُ ساعةً حتى استيقظتُ على صوت أوراقٍ تُقَلّب! كأنّ أحدهم يذاكر بعد منتصف الليل يتمتم وهو يتصفح الكتب ويقلّب الأوراق، مازالت عيناي مغمضتين، لا العين اليمنى فتحت ولا اليسرى رغبت بتقصي هذا الصوت، لا بد أنّ زميلي في الغرفة يمضي ليله في المذاكرة ليتني أقتدي به. بعد دقائق بائسة قررتُ القيامَ بردة فعل، لا يمكنني متابعة ليلي هكذا، رميتُ الغطاء وأضأتُ المصباح وبمجرد أن أنيرت الغرفة، لاحظتُ أنّ كل شيء طبيعي فيها، لم يكن هذا حلمًا، لقد استيقظت على صوت الأوراق وبعد استيقاظي استمر الصوت ولم يتوقف، تنتهي الأحلام والكوابيس حال استيقاظنا، بصعوبةٍ عدت إلى النوم ويا ليتني لم أعد:

راودني كابوس يشبه الواقع بألمه، رأيتني في الحلم أبكي بالدموع والشهقة كالطفل الصغير، أتقدمُ من النافذة لأرمي بنفسي من أعلى طابق بالعمارة. في ظرف دقيقة واحدة سقطتُ سقوطا عنيفًا، شريط حياتي كلّه عرض عليّ بسرعة كصور في فلاش، اصطدم رأسي بالأرض فتحطمت جمجمتي ونزف رأسي دمًا يتصاعد الدخان منه لفرط حرارته، على صورة ذلك الدم استيقظت هلِعاً، يا له من كابوس مفجع! غادرت سريري وصباح جميل يستقبلني، اقتربت من النافذة فطارت العصافير، نظرت من النافذة فرأيت الأرض وموقع حادثة انتحاري بالكابوس، ابتعدت عنها وأغلقتها. أصبحتُ أمضي جل يومي خارج السكن الجامعي ولا أعود إلا ليلاً كي أنام.

خارج غرفتي كلّ العالم يبدو طبيعيًا، الناس في الجامعة، في الشوارع، في المطعم، كلّ الغرائب التي أعيشها لا تحدث سوى في غرفتي، لولا اكتظاظ الطلاب هذه السنة ولولا خشيتي أن يقابل طلب تغيير غرفتي بالرفض ما كنت لأتردد بالتحدث إلى الإدارة لكن أيّ الإزعاج ألطف؟ إلطاف من هم مثلي من البشر أم إزعاج شبح؟ لأكونَ صادقًا، زميلي بالغرفة الذي لا أراه لم يؤذني أبدًا هو يعيش يومه، يذاكر، ينام، يدخل و يخرج، يطلق ريحًا! كلّها أمور طبيعية، ربما بوسعي أن أصادقه، من يدري؟

كلّ هذه الأيام المجنونة التي أعيشها لم تمنعني عن التفكير بها. كيف لي أن أستأصلَ ذكرى عبير من ذاكرتي؟ أنا الطالب المفلس الذي يعجز حتى أن يشتري هدّية تستحقها؟ هكذا أصبحتُ أقضي وقتي، مرة هروباً من اليقظة المرة إلى النوم ومرة من الكوابيس المرة إلى اليقظة. بمنتصف نومي، سمعتُ أنينًا لرجل مريض يتخبط ألمًا، حاولت تجاهل أنينه ومتابعة نومي لكن ذلك الصوت لا يحتمل، كلّمته متوسلاً منه الصمت وكلّما قلتُ أصمت صرخ أكثر، الكلمة مني كانت تجلده كما يفعل السوط، أمضيتُ الليلة أصغي إلى أنينه وانتحابه وبعد دقائق وجدتني في حالة توحد معه أئنُ مثله تمامًا وأضرب بقبضتي الحائط، شيء داخلي كان يعذبني دون رأفة.

وجودهُ معي في الغرفة صار يحبطني وحالتي النفسية بدأت تسوء، كل ليلة أستيقظ بمنتصفها لسبب ما مرّة أستيقظ على صوت كأس زجاجية سقطت على الأرض فانكسرت وعندما أنير الغرفة لا أجد حطام الكأس، استيقظتُ مرة على صوت قهقهة رجل لا يمكنه التوقف عن الضحك ومرّة على صوت تمتمة لشخص يرددُ الكلام ليتمكن من حفظه. عدا كابوس الانتحار الذي يتكرر كل ليلة.

قررتُ أخيرًا زيارةَ طبيبٍ نفسي بسبب كوابيسي، قال فكرة الانتحار تكمن في باطن عقلي “اللاوعي” أجبت: هذا مستحيل، أنا أكره الموت، أنا أكثر الناس تفاؤلاً ما يحدث معي كالتالي أظنّ أنّ جنيـًا يحاول سرقةَ جسدي ولأنني أقاومه يعذبني بهذه الطريقة، حاول الطبيب تهدئتي بأعذار لم تقنعني، أعلم أنّه لم يصدق، وصف لي مهدئات وودعني مبتسمًا تلك الابتسامة التي تحملُ في طيتها شفقةً ممتزجة بالسخرية والتكذيب، ابتعت المهدئات علّها تساعدني على النوم وبعد تجربتها أدركت أنّ وجودها في دمي أو عدمه سيان.

لمعت في رأسي فكرة مجنونة، ماذا لو وجدتُ طريقةً للتعرفِ على زميلي في الغرفةِ شخصيًا؟ أريد أن نجلس معًا على الطاولة ذاتها ونتناقش لأفهمَ منهُ سببَ اكتئابي وكوابيسي، وضعتُ ورقةً ورحتُ أكتبُ له رسالةً: “أعلم أنكّ موجودٌ لأنِي أحسُ بوجودكَ معي في هذهِ الغرفة، أحيانًا تختفي ربما لانشغالاتٍ أجهلها لكنّك تعود دائمًا لتذاكرَ أو تنام ربما أنت واقفٌ الآن أمامي تقرأ كل كلمة فور ولادتها أو ربما أنتَ في مكانٍ بعيدٍ من يدري؟ لكن حالما تعود إلى الغرفة ستقرأ حتمًا رسالتي، ما أريدُ قوله أنّ بداية تعارفنا كانت سيئةً وأرى أنّ علاقتنا يشوبها الكثير من التوتر، هذهِ الطاقة السلبية التي تنتشرُ في الغرفة تزعجني وتوترني، حبذا لو نطوي هذه الصفحة ونبدأ من جديد، مستعدٌ أن أسمعكَ وأجلس إليك وأكون صديقك إن أحببت، أتساءلُ إن كنتَ بحاجةٍ حقًا إلى صديق تتبادلُ معه أطرافَ الحديث؟ ألا تعتقد مثلي أنّه من المناسب أن نتقابل كأيّ راشِدين؟ أنتظر منك ردا قريبا.. هشام”.

وضعتُ كأسًا فارغةً على الورقة حتى لا تطيّرها الريحُ إن هبّت من النافذة، ما فعلته بعد ذلك هو أني حملتُ هاتفي وعلبة سجائري وغادرتُ غرفتي باتجاه المسؤول عن الجناح ورغم ما يبدو عليهِ من تكتّم وهدوءٍ دائم إلاّ أنني قررتُ تولّي مهمة استنطاقه حول الغرفة 399.

- جئتُ لأسألك عن الغرفة رقم 399، هل كنت مسؤولاً عن الجناح العام الماضي؟


تفصيل من تخطيط لفيصل لعيبي

- أنا مسؤول عن هذا الجناح منذ سنوات .. لماذا تسأل؟

- هل يمكنني أن أعرف من سكنها قبلي؟

- هذه الغرفة لم تسكن منذ أربع سنوات، آخر من سكنها شابٌ كان طالبا بشعبة الطب ولكنّه انتحر.

- هل رمى بنفسه من النافذة؟

- يبدو أنّك سمعت عنه.

- سامحك الله يا عمي إبراهيم، لماذا أعطيتني هذه الغرفة ما دام لم يرغب أحدٌ بسكنها؟

- أنت طلبتَ ألاّ يكون لك رفيق وكانت الغرفة الوحيدة الشاغرة، لا أظنك تتشاءم بحادثة انتحار الشاب!

- لستُ متشائمًا ولكن.. لا عليك، ما اسم الشاب الذي انتحر إن كنت تتذكر اسمه؟

- اسمه عابد.

أصبحت الصورة تتضحُ شيئًا فشيئًا، إنه يحاول أن يجعلني أعيشَ قصته من خلالِ تلك الكوابيس، فتحتُ الباب فرأيتُ شابًا جالسًا على الكرسي ويضعُ يده على الطاولة، شابٌ أسمر البشرة، طويل القامة ونحيف الجسم، شاحب الوجه مثل ذلك المريض بالأنيميا الذي ينقصه الكثير من الدم كي يتورد خدّاه، لا يمكنني أن أنكر ذلك الخوف الذي حاولت أن أخفيه لكنني أغلقت الباب وتقدمت منه قليلاً:

- أخيرا التقينا.. لا تدري كم كنتُ أتوق للتعرف إليك.

- ظننتكَ لا ترحبُ بوجودي!

- ربما في البداية لكنّ أفكار الإنسان تتغيرُ مع مرور الوقت.

- لمَاذا طلبتَ رؤيتي؟

- نحن نقيم بالغرفة ذاتها، أشعر بوجودك مثلما تشعر بوجودي من الطبيعي أن أرغب برؤيتك.

- ليس مُهمًا أن تراني، يكفي أن تشعر بي.

- أريد أن أسألك عن تلك الكوابيس، لِماذا أراني بطلا للحادثة ولا أراك أنت، ما علاقتي بما عشته أنت؟

- لماذا لا تقول عنه أنّه حلم لم تجد له التفسير الصحيح بعد؟

- لا تقل لي أنّكَ لستَ نادمًا لأنك انتحرت وأنهيتَ حياتك يا عابد، فأنا لن أصدقك.

- بل صدّق، لستُ نادمًا على الإطلاق.

- غريب، سمعت أنّ الموتى يحسدوننا على الحياة.

- ليس كلّهم، ليس إن كان الموت أجمل من الحياة التي عاشوها.

- لا أعتقد، هل يمكنني أن أعرف سبب اختياركَ الموت؟

- ليسَ مهمًا أن تعرف..

قال الجملة الأخيرة واختفى، أصبحَ الكرسي الذي كان يجلسُ عليهِ فارغًا، ترى أهي الصدفة أم أنّه اختارني عمدًا؟ كان عليّ أن أسأله هذا السؤال لكنّ تزاحم الأسئلة في رأسي جعلني أعيش حالة من التشويش فلم أدر بأيّ سؤال أبدأ، أتى ورحل دون أن أطرح عليه تلك الأسئلة الحقيقية التي تمنيت إيجاد أجوبةٍ لها. هذا اللقاء الذي جمعني بعابدٍ أعدّه من أغرب اللقاءات بحياتي، انتابني شعور من الرهبة كنت أقاومه متحديًا نفسي، لم أشأ الاقتراب منه أكثر أو مصافحته فقد كنت حذرًا وأردت أن أحفظ المسافات بيني وبينه ولا هو شاء الاقتراب.

عندما يحضر الليل تستعيدُ الغرفةُ كآبتها، هذا المساء لم يأتِ عابد ولم يزعجني بتصرفاته المعتادة ورغم غيابهِ لم أتمكن من النوم إلى أن أغمضت عيني في الساعة الثالثة فجرًا، راودني الكابوسُ نفسه للمرة الألف، هبوطٌ سريع وتحطم جمجمة ونزيف دم ساخن يتدفق من رأسي على الأرض، استيقظتُ رافضا الكابوس ككل يوم وفي الساعة السادسة عندما فتحت عيني وجدته أمامي، يقف أمام النافذة:

- أعلم ما تريده مني يا عابد.. أنت تريدني أن أنتحر؟

- بل أنتَ الذي تريد!

- مخطئ.. أنت لا تعرفني، أقول لكَ أكره الموت.. فكيف أفكرُ بالانتحار؟

- ربما لم تتعرّف على نفسكَ بعد، أليس هذا ما قاله لك الطبيب؟

- أعرف نفسي أكثر ممّا تعرفني و ممّا يعرفني الطبيب.

- ألن تدعني أحدثك أوّلاً عن الموت؟ هل تخالني ميتًا؟ أنظر إليّ، أنا حيّ أرزق، جسدي الذي مات، الروح لا تموت يا هشام، لماذا تصر على التشبث بهذا الجسد الفاني الذي ستغادره عاجلاً أم آجلاً؟ لماذا تريد الانتظار إلى أن يشيب شعرك وينحني ظهرك وتفقد ذاكرتك؟ تعيش حياتك كلها تحت تهديد خطر الموت، فلتختر مصيرك مثلما اخترتُه.

- لي أحلام كثيرة أودُ لو أحققها.

- عليك أنت تختار إذن بين الاستمرار بممارسة الأحلام أو الخلود؟ أن تختار بين أن تعيش كل عمرك حالمًا أم تنتقل إلى عالم آخر وتحرر روحك من عبودية الجسد.

………………………………

- اقترِب منّي يا هشام وحرّر هذا القلب من هذا القفص، حرّر هذه الروح المسجونة، دعها تسبح في السماء وتركض في البراري وتسافر إلى من تحب، تحرسهم وتحقق أمنياتهم، أقتل الأحزان والفقر والأحلام والخيبة ولنحي معًا حياة الخلود، صافحني يا هشام وكن صديقي.

اقتربتُ منه بخطواتٍ تقودني إليه كالمنوّم مغناطيسيًا ومددتُ يدِي إليه، أمام النافذةِ رفعتُ ذراعيّ كطير ينوي التحليق لأول مرة، شعرت بيديه خلفي حطّتا على ظهري ودفعتني من الوراء بقوة خارقة، خلال السقوط أدركتُ أنّها النهاية لكل شيء واستوعبت أنّه في ثانية واحدة يمكن أن تتحول الحياة إلى حالة من الموت. لحظةَ الارتطام، رأيت ملكَ الموت يقترب مني بخطوات ثابتة، قلت له متوسلاً:

– لقد حدث سوء فهم !سيدي أنا لا أريد الموت، لازالت لديّ مخططات كثيرة.

لم يجب، منَ الواضح أنّه لا يحب الثرثرة مع جثث الناس أو ربما هو معتاد على توسلاتهم!

– سيّدي.. دعني أوضحُ لك أمرًا واحدًا فقط قبل أن تستلمَ روحي، أنا لم أنتحر إنها مؤامرة من عابد، أنت تعرفه جيّدًا لقد سحبت منه الروح منذ أربع سنوات في هذا المكان بالتحديد، هو الذي حاول قتلي بدفعي من فوق. يا للمهزلة سيظن الجميع أنني انتحرت، الجميعُ يعلم أنني شاب طموح ! لكن لماذا ترفضُ حتى التأكّد من لائحة الموتى بحوزتك ربما حدث خطأ ما، أرجوك سيدي لن تخسرَ شيئاً.

توقفَ قليلاً وعدّل من وقفته ابتسم بوجهي وكادَ يضحك لكنّه لم يفعل، نفض يديه ثم استدار ورحل، تركني غارقا في دمائي وأحلامي وعندما فتحت عيني وجدتني ممددًا على سرير المرض، عاجزًا عن الحراك. أنا لا أزال على قيد الحياة ! وجدتُ في غرفتي كلّ أفراد أسرتي ولاحقًا اتصلوا بعبير لتأتي لرؤيتي، قالوا أنني في المشفى منذ شهر دخلت غيبوبة خشي الأطباء ألاّ أخرج منها سألني أبي:

- لماذا حاولتَ الانتحار يا ولدي؟

- ………………….

- أجب والدك يا بني، أخبرنا لماذا حاولت الانتحار؟ قالت أمي

- …………………….

- تحدّث هشام، قالت عبير.

- أنا لم أحاول الانتحار يا أبي لقد كانت حادثة “قلتُ بلسانٍ ثقيل“.

- حادثة؟ !

- نعم.. أنا أموتُ ككل الناس ولا أنتحر يا أبي.

- نحن نحمد الله على عودتك وبالمناسبة هذه الصبية التي طالما حدثتنا عنها خطبناها لك أثناء غيبوبتك.

- هذه هي امرأتي !

تجربة الغرفة 399 تركت أثرها على شخصيتي، تعلّمت أمورا كثيرة المشي من جديد والكلام وحتى التفكير بطريقة مختلفة، قبل سنة كنت أخالني قادرًا على تغيير العالم لكن بعد هذه التجربة أدركت أنني لا أعلمُ شيئًا، أصبحتُ أكبح ذلك الفضول داخلي وأجيد توظيفه، التهور قد يودي بالإنسان إلى الهاوية، أردت حشر أنفي في عالم غريب عني ولا يعنيني، ما كان عليّ أن أتطفل عليه أن أكتب رسائل إلى رجل ميت أو أصافحه محاولا مخاطبته. حتى اليوم لستُ أعرف من كان عابد حقًا؟ هل كان شبحًا؟ رجلاً معلقًا بين الحياة والموت أم أنّه رجل أنجبه وهمي أثناء ساعاتِ وحدتي ولا ذلك الحوار الذي دار بيني و بين ملَـك الموت؟ ترى هل دار حقا أم أنّه حلم عابر لحظة احتضار؟

بعد سنة، عدتُ إلى الجامعة من أجل استئناف دراستي، في جناحٍ آخر برفقة شاب من مدينتي، في أحد الأيام جلستُ في المطعم الجامعي أتغدى ككل يومٍ يقابلني شابٌ من الصحراء، بدا شاردًا وحزينًا سألته:

- هل أنت طالب سنة أولى؟

- نعم وأنت؟

- أنا أيضًا لكنني أعيدُ سنتي فقد تعرضتُ لحادثٍ ولم أستطع إتمام العام الدراسي، يبدو أنّك لم تعتد بعد على الجو الجامعي؟

- المشكلة لا تتعلق بالجامعة، أنا لا أنام كل الليل، تحدث معي أمورٌ غريبة، ربما لن تصدقني لكنني أسمع أصواتًا وأرى أطيافًا، يراودني كابوس كل ليلة، أراني أنتحر من النافذة فأسقط على الأرض غارقًا في دمائي.

- يا الله أنتَ تقيمُ في الغرفة 399 ؟

- نعم.. كيف عرفت؟

- هل قابلت عابد؟

- كلاّ لم أقابله، من يكون عابد؟

- لا تحاول أن تعرف، هناك أمور من الأفضل ألاّ تعرفها، أترك تلك الغرفة حالاً وحاول أن تجد غرفة غيرها وإن لم تغيّر لك الإدارة الغرفة اتصل بي وسأستقبلك في غرفتي ربما علينا أن نقوم بمظاهرة طلابية من أجل أن تشمّع تلك الغرفة بالأحمر.

*****************************

في غياهب الشهوة

كُتب على هند أن تولد في إحدى القرى الصحراوية شمال اليمن وقبل أن تدّرسَ أيّ شيء عن الله والحياة والأدب والحب تم تلقينها كلّ العادات والتقاليد والخطوط الحمراء التي يجب ألاّ تتجاوزها. تعدّ هند من جميلات تلك القرية والواحدة من النساءِ هناك تتفوقُ على غيرها ببياضِ وصفاءِ بشرتِها بقدرِ سوادِ شعرها وعينيها، لهند أهدابٌ غزيرة ومنحنية وحاجبان أسودان يمتدان على طول العينين الواسعتين. كلّما خرجت برفقة والدتها أو شقيقتها وجدت نفسها قِبلة لكل العيون، تسيرُ بجسدٍ شهي لا يمكن لعباءةٍ سوداء أن تخفي ما يحملُه من مفاتن. حاولَ والدها إقناعَها بضرورةِ الزواج في أكثر من مناسبة بتلميحاتهِ التي لا تنتهي غير أنّها رضيت بلقبِ العانس على أن تمنح نفسها لرجلٍ يعافه عقلها أو قلبُها، لم تكن تطلب الرجل الكامل ولكن فقط الرجل المناسب.

دخلت هند إلى غرفة الاستحمام كي تُحَضّر حمّامًا ساخنًا وعندما امتلأ الحوض تعرّت من ثيابها ووقفت أمام المرآة، لأوّلِ مرةٍ تواجهُ جسدها بهذهِ الطريقة، لقد تعرّت من التقاليد والخوفِ وعقدةِ العيب، الانعكاسُ منحها شعورًا مختلفًا كالتي تصافحُ جسدها بنظرةٍ محبةٍ ومدهوشةٍ.. مثل امرأةٍ عمياء قدّرَ لها أن ترى في جسدها كل ما كانت تتحسسه وتعجزُ عن رؤيتهِ، استوعبت جودةَ مفاتنها وفهمت لم ابنة خالتها تواقة للزواج وتتحرقُ لأن تجتمعَ بأيّ رجلٍ متوّفر، الآن فقط فهمت معاناة العوانس، عصبيتهن، غيرتهن، مزاجهن العكِر، المسألة تتجاوزُ الغيرةَ من الأخريات لأنهنَ قادرات على تأسيسِ عائلة، للأنثى حاجات جسدية مثل الأكل والشرب تمامًا عليها أن تلبيها، نعم.. فالجسد أيضًا يعطش ويجوع.

داخل الحوض بالغت هند بالاهتمام بجسدِها وشعرت أنّها قصرت في حقِه قبل اليومِ كثيرًا، اعتذرت منهُ بلمساتٍ دافئة مررتها على عنقها وصدرها وساقيها وما بينهما، اعتذرت بالصابونِ والرغوةِ و شفرةِ الحلاقة، هذا الجسد الجميل أصبحَ يحتاجُ رجلاً ليترك عليه بصمته الخالدة. أنهت استحمامها الذي استغرق ساعةً من الزمن وارتدت ثوب الاستحمام الأزرق، لفّت شعرها بمنشفةٍ زرقاء ثم اتجهت إلى المطبخِ بوجنتين متوردتين لتعدّ لنفسها عشاءً مميزًا كان طبق المعكرونة بالصلصة الحارة شهيًا وعصير البرتقال البارد أنعشَ هند بعد حمامٍ ساخنٍ. فتحت الكمبيوتر الشرفةُ الوحيدةُ التي تطلُ من خلالِها على العالم، وجدت الجوّ الافتراضي مملاً وروتينيًا وبفناء الماسنجر لم يكن أحد من الأصدقاءِ متواجدًا، وضعت يدها على خدّها شاردة وأثناء ذلك سمعت تنبيه وصولِ إيميل جديد، فتحت علبة البريد فوجدت رسالةً من شخصٍ يسمّي نفسه bigX، فتحت الرسالة الإلكترونية فتفاجَأت بمقاطع فيديو إباحية، رجلٌ يجلس على كرسيّ عريضٍ تركبُه صبية شبقة، احتمالُ حذف الرسالة الإلكترونية أو حظر هذا الشخص لم يكن واردًا، هذا الإيميل كأنّه جاء في وقته، لا ضرر إن شاهدت عملية جنسية بدلاً من التصور هكذا خاطبت نفسها، فتحت مقاطع الفيديو بأصابع مرتعشة وقلب تسارعت نبضاته، ما إن تشاهد مقطعًا حتى تغلقه لتفتح آخر في فضول ونهم، في تلك الغضون شاهدت ما يقارب ثلاثة وثلاثين مشهدًا جنسيًا، بركان من الكبتِ انفجر في لحظة واحدة بمحض سهرة أخذت عائلتها إلى عرس قريبهم.

عمرُها ثلاثون سنة لكنّها لم تشاهد يوما ما يسمونه “جنس″ حتى أنّها تخشى لو تلفظ الكلمة بينها وبين نفسها، لم تر في حياتها كيف هو عضو الرجل الذكري، هذا الذي يصفونه مرة بالجزرة ومرة بحبة الخيار! أرادت أن تعرف كيف هو شكله حقًا لكن ما رأته مختلفٌ عن كل ما سمعته، ما كان عليهَا أن تثق بوصف أهل عشيرتها، لم تتوقع أن تكون ممارسةُ الحب مشوقة هكذا ولا عضو الرجلِ بديعًا لذلك الحدّ، شيءٌ لم يخلَق إلاّ ليتصلَ بعضوِ المرأة مثلَ لعبةٍ تتألفُ من قطعتين ولا تعملُ بشكلٍ جيّد إلاّ إن ركّبت ببعضها، ثلاثون سنة من الحرمان واليتم الجسدي، ثلاثون سنة من الجهل الجنسي، لقد تأخر كثيرًا فارس الأحلام هذا والجسد على وشك الذبول، ها هي تقف لأول مرة محاصرة بين الشرف والشهوة وعليها أن تختار سبيلاً تمضي منه.

شعرت هند أنّ جنية صغيرةً تستيقظ داخلها بعد سباتٍ طويل بينما تشاهدُ شابًا أسود بجسدٍ ضخم يضاجع امرأة شقراء بأسلوب فريد كأنّه فن وموهبة! اندماجُ الألوان بين الأبيض والأسود كان كلوحةٍ فنيةٍ اختلطَ فيها كائنان ذابَا في بعضهما البعض حتى أصبحَ فصلهما عن بعضهما يبدو مستحيلاً، تساءَلت؟ ما الذي يعرفه شبابُ قريتِنا عن هذا الفن؟ داهمَها انفعالٌ داخليّ بعد تركيز وانغماس بالمشاهدة. رمت ثوب الاستحمامِ أرضًا وقرّرت مدّ يدِ المساعدة لجسدها في محاولة بائسة وانفصام غريبٍ حيث تُمثل عليه بأنّ من يداعبه هو شخص آخر منفصل عنها وليس هي، استمرّت بذلك إلى أن شعرت بنفسها تغيبُ عن الوعي وتقترب من المراد. بعد ذلك أحسّت أنها تحرّرت من ذلكَ الغليان وصار بإمكانها النّوم أخيرًا. بعد تلك الليلة الخريفية لم تستطع منع نفسِها من المشاهدة كل ليلة بعد أن ينام الجميع. لقد أحبّت إدمانها واعتبرته حقا شرعياً في غياب الرجلِ الذي يستحقها.

اليوم السابع من شهر يناير، يومٌ لا يشبههُ أيّ يوم آخر في حياةِ هند، مساءٌ ذهبَ فيه أفرادُ أسرتها إلى المستشفى من أجل زيارةِ خالها عبّاس، راودها الضجرُ فذهبت إلى غرفتها ونزعت كل ثيابها وحليّها وفردت شعرها الفاحم على كتفيها وفتحت الكمبيوتر وشاهدت فيديو جديدًا بين عاشقين، تمددت على السرير والتهب جسدها مجددًا، من يراها يرى صبية حسناء تتلوى شبقا مثل أفعى جائعة تنتظر فريستها وبعد دقائق سكنت لنفسها وهدأت وفي تلك اللحظة شعرت بيدٍ ساخنة تحطّ على ساقها!

ما تملكّها هو الخوف، حاولت أن تمدَ رقبتها لتتبين لكنّها لم تستطع فقد وجدت نفسها عاجزةً عن الحِراك تمامًا، أصبحت تشعرُ بكلتا اليدين الساخنتين تتنقلانِ على جسدها. بقوةٍ خارقةٍ أحسّت أنّ اليدين تفتحان ساقيها وعبثًا حاولت أن تضمّهما فتلك القوة الخارقة تفوّقت عليها، رأت ساقها اليمنى ترتفع منتصبةً بفعلِ فاعل والثانية مثنية على الهواء وكأنّها مثنية على كتفِ أحدهم ولكن لا أحدَ كان موجودًا. شعرت بقضيبٍ يفتح ما هو مغلقٌ، يخترقُها ويغوص فيها أكثر فأكثر، شيءٌ ملتهبٌ ومؤلمٌ كأنّه من جمرٍ، ودّت لو تصرخ وجعًا لكنّها لم تتمكن حتى من الصراخ لأنّ الصوت رفض الانطلاق من الحنجرة !تغيّر لونُ وجهها وأصبح يتصببُ عرقًا مثل امرأةٍ على فراش الولادة، بعد دقائقٍ أخرى، سحبَ المخلوق اللامرئي قضيبه وترك ساقيها تسقطان على السرير ثمّ رحل.

عند عودةِ عائلتِها إلى البيت لم تسمع الضجّة التي أثاروها أثناء دخولهم فتلك التجربة القاسية عزلتها عنِ الجميع. اتجهت والدتها إلى غرفتِها فأصيبت بالهلع لما رأته! هند عارية تمامًا على السرير ترتجف بينما تتصببُ عرقًا، مستلقية بوضعية الجنين في رحم أمّه، رمت عليها أقربَ غطاء على جسدها واقتربت تسألها عمّا حدث لكنّ هند لم تكن لا تسمع ولا تجيب، استمرّت بالأنين والبكاء بنشيج متواصل، أدركت السيدة فاطمة أنّ أحدهم تسللَ إلى البيت وقام باغتصابها، ركضت إلى ابنتها الكبرى سميّة: “مصيبة إن فقدت عذريتها!“.

قدِمت القابلة صباح الخميس التالي، سلّمت عليهم وشربت القهوة ثمّ تقدمت نحو غرفتها وهي تحاول ارتداء القفازين المطاطيين لكن ما إن حاولت فتح ساقيّ هند حتى صرخت صرخةً سمعها كل من في البيت، خرجت وطلبت من السيدةِ فاطمة وابنتها المساعدة، دخلن معًا، اتجهت سمية إلى ذراعيها ومسكتهما بقوة أمّا والدتها فحاولت فتح ساقيها بعنف غير آبهة لصراخ ابنتها! تمكّنت السيدة ليلى من رؤية الغشاء من بين الشفرتين بصعوبة بسبب صراخ هند وبكائها وممانعتها “الغشاء سليم، لم تتعرض للاغتصاب، هذه الفتاة لم تفعلها أبدًا، ليس هناك أي خدوش على الغشاء ربما مشكلتها نفسية.”

- “لك الحمد يا رب.. تنهدت أم هند وحمدت”.

أحضرت سمية بعض الحليب الساخن وقطعًا من الكعك لهند التي لم ترَ الصينيةَ أمامها، تسمّر بصرها صوب زاوية الغرفة، تنظر إلى الفراغ كالمجنونة! قرّرت الجلوس على حافة السرير ومساعدة هند على الأكل، حملت الكأس وعندما لامست شفتيها لم تفتحا لتذوق الحليب، حاولت إجبارها على الشرب ولكن عبثاً فعلت ذلك لأنّها سكبت كل الحليبِ على ثوبها الأبيض. ظلّت على تلك الحالة أسبوعًا كاملاً، قرّرت السيدة فاطمة أن تخبر زوجها وأولادها الخمسة دون ذكر أنها وجدتها عارية على السرير ليلة الحادثة، ما حدث بعدها أنّ كل من في البيت أصبح قلقاً عليها وتم إحضار طبيب القرية إلى البيت ووجد كذلك أنّ حالتها الجسدية جيّدة، كتبَ لهم تحاليل شاملة يجرونها لهند في مخبر المدينة يقرأها لاحقًا لينهي تقريره الطبي.

ألبسوها عباءة و منديلاً، مشت معهم كالدمية الشاحبة التي لا روح لها، أجروا لها التحاليل وهي ليست معنية بما يدور حولها. وفي المساء حضرَ الطبيب مجدداً وفتح برقية التحاليل أمام والدها وشقيقها الأكبر “هي تعاني من فقر دم… بالإضافة إلى..” زمّ شفتيه قليلاً ثم أعلن” إنها حامل”.

انهارَ والده و جلس كالذي أصابه الشلل في ساقيه، كيف حدث هذا وابنته لا تخرج من البيت إلا برفقته أو رفقة والدتها؟ وقف الأخ الأكبر معلنًا أنّ الواجب الآن هو قتلها! حاولت السيدة فاطمة أن تشرح له بأنّ أحدهم تسلل إلى البيت واغتصبها يوم زاروا الخال عبّاس في المسشفى لكنّه نزل السلالم ركضًا وعندما فتح باب غرفتها وجدها جالسة تنظر إلى اللاشيء، نَزَع الحزام الجلديّ من خصره وانهال عليها بسوطه أخفت وجهها واتخذت وضعية الجنين مستسلمةً، تدخلت والدتها وهددت ابنها بأنها ستقتل نفسها إن هو قتلها، مسحَ العرق من على جبينه وخرج من الغرفة صافقًا الباب وعاد إلى والده الذي لازال غارقاً في الدهشة يستشيره بما ينبغي فعله، ردّ عليه أنّه ليس بمقدروهم أن يفعلوا شيئًا سيتبرأ منها، يسجنها إلى أن تلد ثم يتخلص من الطفل في دار أيتام و ينتهي الأمر.

لم تعارض هند السجن الذي فُرض عليها فهي ما عادت تشعر بوجودها منذ ذلك اليوم المشؤوم، لم تفارقها الكوابيس كلّما نامت تعيش الاغتصاب، تئن ليلاً لا يسمعها أحد، وفي النهار تأكل بشراهة ما يأكله عشرة أشخاص، يومًا بعد يوم صارت بطنها يكبر أكثر فأكثر وبالشهر الرابع أصبح بطنها كالحامل بشهرها التاسع! كان يمكن للرائي أن يعلم أنّها ستنجب جنينًا ضخمًا ممّا أثار ذعر والدتها التي تتفحصُ بطنها بيدها وتقول “يا الله إلى أي مدى سيكبر بطنها أكثر؟” مرّ شهر آخر لتتم خمسة، جاءها المخاض مبكرًا في الثانية صباحًا، شعرت بكرة بحجم حبّة البطيخ تخرج منها، حاولت أن تصرخ ولكن خانها صوتها مجددًا، ملامحها تغيرت وانقبضت مع انقباضاتِ رحمها، تمنّت الموت ألف مرة أثناء الولادة ولم تشعر أنها تنجب جنينا عاديًا بل جنينًا بحجم رجل ضخم كلّما خرج منها جزء منه كلما اتسع أكثر فأكثر، في الصباح فتحت والدتها الغرفة تحمل صينية الفطور وبمجرد أن رأت ما رأته أوقعت الصينية على الأرض دهشة، رأت هندًا مستلقية بوضعية الجنين على طرف السرير وكل الشرائف والملاءات ملطخة بالدمّ الأحمر القاتم، أدركت أن ابنتها أنجبت ليلة أمس: أين هو يا هند أين الجنين؟

أشارت بيدها إلى تحت السرير، جلست على الأرض ثم انحنت لكي ترى فرأت مخلوقًا لا يشبه الإنسان ولا الحيوان، كتلةٌ ضخمة من اللحم الأحمر تبدو لزجة ليس لها أطراف ولا أذنان! لكن لها عينان حادتان تلمعان بلونٍ رمادي يكاد يبدو أبيض وأنفٍ صغير مُدّبب يشبه أنف القط أمّا الشفاه تشبه شفتا إنسان طبيعي وخاصة شفتا والدته الممتلئتين! في بطنه حبل سريّ طويل ملتف على نفسه كالثعبان، فكرة سحب هذا المخلوق وحمله كانت فكرة سيئة جدّا من يجرؤ على الاقتراب منه؟

خرجت الأم تصرخ كالمجنونة وتنادي كل من في البيت وعندما دخلوا غرفة هند وجدوها نائمةً، رأوا ما تركه النزيف من دمٍ على الفراش الأبيض نظروا إلى تحت السرير فلم يجدوا شيئًا طلبوا من الطبيب الحضور الذي حينَ أتى وفحصها وجدها عذراء وليس على جسدها أيّ آثار للحمل أو الولادة، استعادت هند وعيها بنفسها وتحدثت إليهم أخيرًا:

- كيف حال خالي عبّاس؟ متى سيخرج من المستشفى؟ ولماذا تأخرتم هكذا؟!

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.