الشّعر‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الإنسان

الخميس 2015/10/01
تخطيط لـ ساي سرحان

في مقدمة كتاب أوكسفورد “شعر الحرب”، يستَذْكِر جون ستولوورثي قول المعلّم ويليام ووردسوورث بأنّ “الشعر تدفقٌ عفويٌّ لمشاعر جيّاشة” وبحسب ستولوورثي فإنّه ليس هنالك من تجربة بشرية تمتلك ما للحرب من قوّةٍ في إثارة طيفٍ واسع من تلك “المشاعرَ القوية” كالأمل والخوف، الابتهاج والاحتقار، والحب والكراهية‭.‬

إذا كانت إعادة هندسة العالم أحد أهم هواجس الشعر، فإنّ هذا الخراب المُهَنْدَس للعالم ليس إلاّ تحديّاً صرْفاً للشعر وهواجسه ورسائله الأساسية، وبعيداً عن التعريفات الضيّقة التي ترمي إلى تأطير الأدب في قوالب توظيفية ذات نزوع أيديولوجي خبرتها البشرية واستغرقت ردْحاً من الزمن لِفَرزها ولنبذِها، يبرزُ دورُ الشِّعريةّ في الانحياز للإنسان وحده قبل كل شيء وفي الاعتراض على كلّ ما ينتقص من حقّه في أن يحيا بأمان وسلام‭.‬

وفي حين راكَمَت الحداثة تعريفاً للشّعر يبدو لاوظيفيّاً في ظاهره غيرَ أنّ فلسفتها استمدّت قِيَمَها من التماهي مع الإنسان والالتصاق بتطلّعاته، خلافَ ذلك يبدو الفنّ في علاقةٍ مبتورة لا يعوّل عليها‭.‬

إنّ انحياز الشعر إلى الإنسان هو بالضرورة انحيازٌ جماليٌّ لأن يكون هذا الإنسان حرّاً في إرادته، وانحيازٌ لمضمون الإنسانيّة وجوهرها حيثُ أنّ تجارب محتدمةً كالتي نعيشها اليوم إنّما تفكّك أساطيرَ لطالما اعتقدناها راسخة سواء حول جماهيرية الشعر أو نخبويّته، وتظهِرُ سقوط أيّ فنّ يتنكّر للأهوال التي تنزلها بالبشرية قوىً طاغية تشقُّ مساراتها على أنقاض الحياة وعلى آلام البشر، فأولئك الذين صمتوا واستعلوا على آلام ضحايا العسف والطغيان إنّما خانوا رسالة الشعر واحتفظوا لأنفسهم بأوهامهم الرسولية‭.‬

لقد عشنا خلال هذه السنوات آلاماً يبدو أنّ الشعر وقفَ مذهولاً أمام فداحتها كأنما انعقد لسانه وهو يشهد هذا التداعي العلنيّ للقيم التي كانت موضع إيماننا حيث تبدو المواكبة الشعرية ضئيلةً مقارنةً باتّساع دائرة الموت والآلام التي ستشكّل دونما شك مستقبلاً لمخيّلةٍ مكلومة بالفقد والخراب والشّتات سيكون على الشعر أن يطوي سنواتٍ ولربما عقود لهضمها وتجاوزها‭.‬

وفي الوقت الذي تشكّل الحروب فرصةً لحيتان السياسة والمال ولتجّار الدماء والسلاح ولأساطين الميديا، يكون البشر مادّتها الأرخص، ويكون ثقلها طاغياً على كاهل الشعر، فإذا كانت وظيفة السياسي إرسال الجنود وسواهم إلى الحرب/ الموت فإنّ هاجس الشاعر يبقى إعادتهم إلى السلام/الحياة، وحينَ تتزاحم أبواق النفير المجنون إلى الخراب يكون على بوصلة الشعر أن تبقى مشدودةً نحو الخلاص، فليس الشاعر بقارع طبول حرب ولا بمهرّجٍ لدى أمرائها، إنّ إخلاص الشعر والشاعر لفكرة الحياة مفهومٌ لا يجب أن يخضع لمساومة‭.‬

ولعلَّ هَوْلَ وقسوةَ ما يشهده عالمنا اليوم من حروبٍ وفظائع ضدّ إرادات البشر وأحلامهم وضدّ كلّ ما هو جماليّ وشعريّ إنّما يؤسّس لولادةٍ جديدة لعالمٍ أكثر انتباهاً ووعياً لذاته ولقداسة حريّته ولمعنى أن يحيا بسلام ولشعريّةٍ أكثر التصاقاً بالبشر وهواجسهم الأصيلة، فإذا كانَ الموت مادة لنصوص الطغاة وسيرتهم فإنّ الحياة هي مدوّنة الشّعر ومبتغاه الدائم‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.