قدرة الشاعر
الشعر فعل تغييري عميق الأثر، لا ينبني على انفعال سطحي بالحدث، بل يتأمله ويفككه ليعيد صياغته في قول معرفي محمول على الرؤية، مؤجج للشعور، وقادر على تحريك الآخر المتلقي، وتحريضه وجدانيا على التأمل والتفكير في مجريات الحياة ودوافعها وكيفياتها، فإذا نجح قائله في هذا تحولت كلماته إلى حكمة لا تنقطع عن الترديد والعمل بها، وشاعت بين الناس كأيّ عرف أو تقليد، يحكم السلوك ويحدد التوجه ويشكل الوجدان، وهو بهذا يمتلك أثر الفلسفة والعلوم الطبيعية والإنسانية، من حيث القدرة على تشكيل الوعي الجمعي.
ما سبق يطرح السؤال الجوهري في المسألة، إذ تفترض هذه الرؤية للشعر امتلاك الشاعر القدرة على الفهم الشمولي للحدث، والانفصال عن الوعي السائد، خاصة إذا كان هذا الوعي فاسدا ولا أخلاقيا، ينتج ثقافة الاحتراب والقتل والسلب والضياع والتشرد، فهل يستطيع الشاعر ذلك، وهو الكائن الاجتماعي المنفعل بالمحيط، المتأثر بقيمه؟
إن الأحداث الجسام التي يمر بها العالم العربي، تشير إلى تغير واسع في البنى الفكرية والقيمية والمادية، سيشكل موجة عاتية من الفساد القيمي المعرفي، لن تستثني الشاعر من وقعها والتأثر بها، إلا إذا كان صاحب رؤية معرفية تتجاوز الراهن وتستشرف المستقبل، ليكون قادرا على التشبث بقيم الإنسانية الجوهرية، مقابل ضياع الحياة وهدرها، وليستطيع وضع بذور المعرفة القادمة، بعد الانهيار الكبير.
وعلى الشاعر، كي يستطيع التأثير، التمييز بين وجوده بوصفه فردا في المجتمع، له ما له، وعليه ما عليه، ووجوده في العالم اللغوي، ففي الوجود الأول يلعب الأدوار الاجتماعية المختلفة وينفعل بها وقتيا، وقد يكون ثائرا، أو متظاهرا، أو مصابا، أو قتيلا. وخلال ذلك، تصدر عنه أشعار منفعلة بالحدث، تؤثر على المدى القصير، وتمضي، أما في الوجود الآخر، فيكون متأملا رائيا ومتأنيا، وقد لا يكتب شيئا في الحدث، وإنما يختزن تأملاته، ويعايش الحيثيات بعين الحكيم، ليصوغها في حينها، شعرا خالصا يحمل الرؤية ويؤجج المشاعر ويشكل الوجدان.
