ضد‭ ‬النهايات

الخميس 2015/10/01

الشعر هو الذي يريد، لأنه ضد النهايات، لأنه ببساطة هو العالم، والعالم بوصفه نصاً هو حزمة الأسئلة الوجودية، التي قطعاً لا إجابات نهائية بالنسبة إليها، والشعر ضد النهايات، وخلافاً لما هو سائد، يظل يطلق عنان خياله، ويجوب آفاقاً بعيدة عن المدرك، ويدك أحصنة عاتية على جيوش الفنون الأخرى‭.‬ القصيدة تختار دربها أولاً، ورفيقها الشاعر أو هكذا أظن‭.‬ ليس دقيقاً أن نصف الشعر بالضلال والغواية، بمجرد نبشه لجثة عالم، وتحريكه لثابت كاد يكون مقدساً‭.‬ مثلاً، من الممكن أن نصف شاعراً ما بالغاوي أو الضال، لأنه نكص العهد في مسيرة الشعر، وجبن في ارتياد عوالم أخرى وفي اختراق تابوهات خالدة‭.‬ خلق الشاعر ليدحض مسلمات الآخرين، ويحيل لغتهم إلى قاموس مشفّر، لا يدركه إلا من يبشر بهذا الخروج الأبدي‭.‬

حالة التشظي التي باتت سمة بارزة بين الجماعات الثقافية، أربكت المشهد برمته، وصارت شبيهة بحالة المشهد السياسي، ولن أقول سراً إذا قلت إن حالة الاستقطاب والتباين السياسي، ألقت للأسف بظلالها على مجمل المشهد الثقافي بمؤسساته المدجَّنة والهشَّة‭.‬

أنا هنا لا أبرِّئ الثقافي من حالة الضعف والوهن التي تعتريه، من جراء إفرازات عدة، منها حالة الكسل والخمول في إنتاج المعرفة، والتأسيس لمشروع ثقافي وطني حقيقي، بالإضافة إلى الحروب والخصومات الشخصية، الناتجة عن سوء الفهم والتنافس غير المبرر في حقول لا تخص المثقف بصلة، ولا تخدم قضية الثقافة وغيرها من الأسباب، التي أقعدت المثقف عن القيام بدوره الحقيقي في عملية التغيير‭.‬ هذا يقودني إلى أن المصطلح بات في حاجة إلى إعادة تعريف، فثمة مثقفون كثر بتعريفات كثيرة‭.‬ نحتاج إلى تعريف جديد لمثقف التغيير من هو؟ وكيف يفكّر في واقع مأزوم؟ كيف يحلل في مشهد يكتنفه التشظي والإحباط؟ وكيف يستطيع أن يقدم وصفته العلاجية الناجعة؟ كيف يفجّر أسئلته وكيف يؤثر؟ الكثير من (الملاذات) تملأ جمجمته، ولا تجد طريقاً لها في عملية التطور والتغيير‭.‬
أقولها بكل صراحة ووضوح، إننا في السودان نحتاج بشدة لمثقف التغيير هذا، المثقف الذي يدرك جيداً دوره في قيادة الجماهير بقوة المبادرة، قاطعاً الطريق على السياسي والانتهازي، الذي لا يرى المستقبل، وحتى مفهوم التغيير نفسه يحتاج إلى إعادة تعريف، فتغيير المفاهيم في حد ذاته بالنسبة إليّ -ومن وجهة نظر خاصة جداً- يحتاج تعريفاً على ضوء ما شهدته الساحة العربية من تحولات دراماتيكية تحت عنوان التغيير، أو ما يسمى جزافاً بالربيع العربي، إذ نجد أن المفهوم بهذه الوتيرة تاريخياً عندنا -لو سلمنا مجازاً- بانتمائنا إلى بنية الثقافة العربية الإسلامية؛ نجده عنصراً عضوياً في كل مراحل التطور التاريخي لثقافتنا وتراثنا، وقد عبَّر عن نفسه دائماً بطريقة مباشرة بالتمرد والرفض لوعي السلطة القائمة وممارساتها، ولم يهتم بأمر المجتمع لأسباب عدة، ولعل أهمها تسليمه واعتقاده بانتماء المجتمع كليا للإسلام كدين، ونجد أن الذين تبنوا هذا المفهوم ركزوا على اشتراطين فقط: ينادي الأول بمزيد من الحقوق والحريات بلا أيّ شكل تنظيمي ودون الرغبة في تولي مهام سلطوية؛ والثاني منظم وتبنَّى مسألة الاستيلاء على السلطة، وفرض أيديولوجيته وخياراته، فالتجربة التاريخية تؤكد أن كلا الفريقين على امتداد تاريخيهما حوَّلا مفاهيم التغيير إلى حراك سياسي وسلطوي مسطّح، ولم ينتبها إلى أسِّ الأزمة وجذورها في بنية العقل العربي، والأمثلة على ذلك كثيرة، إلا في حالات استثنائية وعابرة، أما في التاريخ المعاصر فنجد أمثلة حيّة في مصر، مثلاً فترة عبدالناصر، وفي العراق وسوريا حالة حزب البعث العربي الاشتراكي، وفي ليبيا تنظيرات القذافي وغيرها‭.‬
عليه فإنه لا يمكن اعتبار حالات الثورة أو التغيير حقيقية ومؤثرة، ما لم تقم على قطيعة صريحة مع الماضي، وكنس مفاهيمه البالية، وبالتالي يجب على الذين يتبنونها أن تتوفر فيهم مزايا ليبرالية وكونية في المقام الأول، وثانيها أن يتبنوا مفهوماً للتغيير شاملاً، ليس للسلطة السياسية فحسب؛ وإنما يأخذ معه بذات المستوى كل البنى والمؤسسات الثقافية والاجتماعية والدينية أيضاً بلا خوف أو مواربة، فنحن نعلم جميعاً أن تفكك نظام الخلافة مثلاً قد قادنا إلى تكوين أنظمة متعددة ومستنسخة، وفقاً لحاجاتها ومصالحها الآنية، في حين أن نظام المجتمع ككل كما هو لا يتأثر إلا سلباً دينياً وعرقياً بحقوقه، وخاصة حقوق المرأة والإنسان، إذ تضعضع بصراعات السلطة السياسية، وتبنيها لمفاهيم ذات طبيعة انتهازية‭.‬
إذن تبقى ضرورة تغيير المفاهيم ليست ثقافية وتاريخية فحسب، وإنما إنسانية، وضرورة أن يتبناها أولئك العقلانيون وأصحاب المعارف‭.‬
مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.