مارتن لانغفورد في محاورة وقصائد

الشاعر المسافر في أنوار العقل وبريق الوجدان
الأحد 2020/11/01
غرافيكس "الجديد"

في عامها الأول، وفي عددها الصادر في الشهر العاشر من سنة 2015، أجرت "الجديد" حوارا مع الشاعر الأسترالي مارتن لانغفورد. أحد أبرز الأصوات الشعرية في تلك القارة، واحد محرري الشعر الكبار، وفي جوار الحوار نشرت المجلة ترجمة لعدد من قصائد لانغفورد وتأملاته الشعرية. أجرى الحوار عاطف بسيسو، وترجمه إلى العربية، وكذلك القصائد الناقد والشاعر د. عبد الرحمن بسيسو. وكان في عزم المجلة إصدار سلسلة كتيبات شهرية أدبية فكرية، تحت عنوان "كتاب الجديد". تأخر ظهور المشروع إلى النور، واليوم، وبمناسبة بدء ظهور هذه السلسلة إلى النور، بالتعاون مع دور نشر عربية بينها "المتوسط" ميلانو، "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" بيروت، "خطوط" عمان، ننشر هنا مقدمة الكتاب التي وضعها الناقد عبد الرحمن بسسيسو وباقة لم تنشر من القصائد التي ضمها الكتاب الذي سخرج من المطبعة تحت عنوان: "مارتن لانغفورد-خيال أرضي وسماوات مفتوحة".

الشِّعرُ هو الرَّدُّ الأسْطَعُ والأَبْهَى والأَجْلَى عَلَى غَرابَةِ العَالَمِ وغُرْبَتِهِ؛ والشِّعرُ الجيِّدُ هُوَ، دَائِماً، جَيِّدُ الشِّعر؛ تِلْكُمَا خُلاصَتَانِ أَوْ مَقُولَتَانِ، تَتَعَلَّقَانِ بالشِّعْرِ، وتُكثِّفانِ تَبَصُّراتٍ وخُلاصَاتٍ عَدِيدَةً لافتةً، وتُومِئَانِ إلى مَعْلُوماتٍ مُدَقَّقَةٍ، ومُعْطَيَاتٍ تأسيسيةٍ وأفْكَارٍ جَوهَرِيَّةٍ، وتَصَوُّراتٍ إنسانيَّةٍ رَحْبَةٍ ورؤىً مُؤصَّلةٍ، وصِيَاغَاتٍ فِكْريَّةٍ وجَمَالِيَّةٍ وسياسِيَّةٍ، تتأسَّسُ عَلَى قِراءَةٍ جادَّةٍ لِلْوَاقِع القَائِمِ فِي عَالَمِ اليَومْ، وتَمْتَدُّ جُذُورهَا فِي تُربَةِ إِطْلالٍ نَقْديٍّ مُعَمَّقٍ عَلَى تُراثِ الفِكْرِ الإنْسَانيِّ الفَلْسَفِيِّ والجَمَالِيِّ والسِّيَاسيِّ، مَعَ الانْفِتَاحِ، فِي اللَّحْظَةِ نَفْسِهَا، عَلَى مَدَاراتِ الإبْدِاعِ الإنْسَانيِّ، الشِّعريِّ والنَّثريِّ والبَصَريِّ، المَكْتُوبِ، والمَرْسُومِ، والمَنْحُوتِ، والمْرَئِيِّ، والمَرْئِيِّ الْمَسْمُوعِ، وعلى الأَعَمِ الأَغْلَب من مَجَالاتِ الثَّقَافَةِ الإنْسَانِيَّة، وحُقُولِهَا العديدة، وعُلُومِهَا المُتَنَوِّعَة المفَتْوُحَة، بِدَورِهَا، عَلَى تَطَوُّرٍ مَفْتُوح.

 وتَتَشَابَكُ هَاتَانِ الخُلاصَتَانِ، فِي تَواشُجٍ لا يَنِي يَعْمُقُ ويترسَّخُ، عَلَى امْتِدَادِ المُحَاوَرةِ، وَفِي أطْواءِ الْقَصَائِد الْمُخْتَارَة وفضاءاتها الدَّلاليَّة، وَفِي ثَنايا الومضات التَّأمليَّة ومَداراتها، الْمَضْفُورةِ، معاً، فِي هذا الكتاب، لِتُقِيْمَ نَوعاً من التَّسَاوقِ الأَسْمَى بَينَ مُدْرَكاتِ العَقْلِ وأَحَاسِيسِ الجَسَد؛ بَينَ تَجَلِّيَاتِ التَّأمُّل العَقْلِيِّ المُجَرَّدِ وَتَجَسُّداتِ التَّلَمُّسِ الشُّعُورِي الحَيِّ، ولا سيِّما حين تتواشجُ مَعْ خُلاصَاتٍ أُخْرىٍ تُكثِّفُ تَبَصُّراتٍ وتأمُّلاتٍ تتصِلُ بِمَسَائِلَ حَيَاتِيَّة، وقَضَايَا ثَقَافِيَّةٍ، وأشواقٍ إنسانيَّةٍ كونيَّة، بالغةِ الأَهَمِّيَّة والدَّلالة عَلَى المُسْتَويَاتِ الحضاريَّة، والثَّقافيَّة، والفِكْرية، والجَمَالِيَّة، والاجتماعيِّة، والسِّيَاسية، وذَات أَبْعَادٍ فَلْسَفِيَّة وُجُوديَّة تِبُثُّ مُكوِّنات رؤيةً مُسْتَقْبَلِيَّةٍ، عَمِيقَةٍ ومُؤصَّلةٍ، ومفتوحَةٍ، أبداً، عَلَى مستقبلٍ يُرادُ لهُ أنْ يتابعُ المَجِيء مِنَ مَداراتِ المُسْتَقْبَل المُضَاءِ بأنوارِ الإنْسَانِيَّة الْحَقَّة.

وتلك خُلاصَاتٌ جَدَّدَتْ إثَارَتَهَا فِي عَقْلِ الشَّاعرِ الأُستراليِّ مَارْتِن لانغْفُورد وَوِجْدَانِهِ، أَسْئِلةُ المُحَاوَرَة الَّتِي أَجْرَاهَا مَعَه المُثقَّفُ الوَاعِدُ عَاطِفْ بسيسو، والَّتي هي بمثابةٍ باكورةٍ لسِلْسِلةٍ مُحَاوراتٍ بادرَ الشَّاعرُ نُوري الجرَّاح، رَئِيسُ تَحْريرِ المَجَلَّة الثَّقَافِيَّةِ العَرَبِيَّة الجَامِعَةِ "الجديد"، إلى إطْلاق فِكْرة إجْرائِهَا مع شُعَرَاءِ العَالَمْ، بُغْيَةَ تَمْكِينِ القُرَّاءِ العَرَبِ ونَاطِقي اللُّغةِ العَرَبِيَّةِ، وضِمْنُهم بالطَّبعِ، الشُّعراءُ والنُّقَادُ والأكَادِيِميُّونَ المَعْنِيُّونَ، مِنَ الإطْلالِ، مُبَاشرةً وباللُّغة العَرَبِيَّةِ، عَلَى المَشْهَدِ الشِّعْرِي فِي جَمِيع أَرْجَاء العَالَمِ، عَلَى تَنَوُّع ثَقَافَاتِ هَاتِهِ الأَرْجَاء، وعَلى تَعَدُّد لغُاتِ قَاطِنِيهَا مِنَ النَّاس، وذلكَ عبرَ مُتَابَعةِ نَشْرِ هَذِه المُحَاوراتِ، مَقْرُونَةً بقَصَائدَ ونُصُوصٍ مُخْتَارة من إبداع الشَّاعر، فِي أَعْدَادِ مَجَلَّة "الجديد" المُتَوَالِيَةِ.

تَتَشَعَّبُ الموضُوعَاتُ والقضايا الَّتِي أَثَارَتْهَا أَسْئِلةُ المُحَاوِرِ  لتَتَلَقَّى إجَابَاتِ الشَّاعِرِ المُحَاوَرِ عَلَى نِحْوٍ يُبَيِنُ، بسطوعٍ وجلاء، أبرزَ مكونات رؤيته، كإنْسَانٍ مَسْكونٍ بوعيٍّ حَقيقيٍّ خَلَّاقٍ، وكَشَاعِرٍ مُبْدِعٍ طَلِيقِ الْخَيَال، وكَمُثقَّفٍ إِنْسَانيٍّ مُسْتَنِيرٍ، لِلْعَالم"؛ تلكَ الرُّؤية الَّتِي تَشْمُلُ الأعمَّ الأغلبَ من الشَّواغل والأُمُور المتَّصِلَةِ بالإنْسَانِ والحَيَاةِ وكوكبِ الأرضِ والأنْشِطَةِ الإنْسَانِيَّة - وَفِي صُلْبِهَا الإبْدَاعُ الأَدَبيُّ والفَنيُّ - والمُجْتَمَعَاتِ والنَّاسِ وأحوالِ العالم الرَّاهنِ المُتَبَاهِي، اسْتِعْلَاءً وَكِبَراً، فِي أَحْيَازِ بَعْضِ قِبَابِهِ وفَضَاءَاتِهِ، بِحَدَاثَتِهِ ومَا بِعْدَهَا ومَا بَعْدَ مَا بَعْدِهَا، والمُتَمَسِّكِ، جَهْلاً واسْتِبْدَدَاً، فِي أَحْيَازِ بَعْضِ أَقْبِيَتِهِ ودَيَامِيْسِه، بِقَدَامَتِهِ ومَا قَبْلَهَا ومَا قَبْلَ مَا قَبْلِهَا، والَّذِي فِيهِ شَرعت البَشَريةُ بأسرها فِي الإسْفَارِ عَنْ عَجْزِهَا أمَامَ سَطْوةِ إرْهَابٍ آيديولوجيٍّ عُنْصُريٍّ مُتَطَرِّفٍ، عَنِيفٍ وأعْمَى، يِأْخُذُهَا إلى نقيضها إذْ يَحْمِلُهَا، قَسْراً، عَلَى وُلُوجِ أزْمِنَةِ التَّوحُشِ، وأقبية العَمَاءِ، مُغْلِقاً التَّاريخَ الإنسانيِّ الحَضَاريِّ، ومُنْهِيَاً وجُودَ الإِنْسَانِ، وذلكَ بِإِنْهَائِهِ الإنْسَانِيَّة نَفْسِهَا: فِكرةً، ومَسَارَاتٍ حَضاريَّةً، وتَارِيْخَاً ذَا صَيرورةٍ وتَحوُّلاتٍ، ومَنْظُومَاتِ قِيَمٍ ومَبَادِئَ مُشْتَركةً، وتَجَلِّياتِ سُلُوكٍ إنْسَانيٍّ حَقِيقِيٍّ، ومَدَراتِ تَحَقُّقٍ حَيَويٍّ فِي شتَّى مدارات الوُجُود.

يَبُثُّ الشَّاعرُ مَارْتِن لانغْفُورد، عبر مُكوِّنات هذا الكتاب: المُحَاوَرَةُ، والْقَصَائِدُ الْمُخْتَارَةُ، والوِمْضَاتُ التَّأَمُّلِيَّةُ الَّتِي رَأَهَا "ثَعَابِينَ أَنِيْقَةً" فَأَسْمَّاهَا بِمَا أَسْمَتْ نَفْسَهَا بِهِ، يَبُثُّ مَلامِحَ رُؤْيَتِهِ لِعَالَمٍ يَمْتَدُّ مِنْ حيِّزٍ تَقْطُنُهُ "أُمَّهَاتٌ يُولِينَ جُلَّ عِنَايتهنَّ لِلْمِلْحِ والقُلْقَاس"، إلى حَيِّزٍ  لا شَيءَ سَيُبرعمُ فيه سِوى "الجحيمُ وحْدَهُ". وَفِي المَسَافةِ الممتدّة مَا بين نَمطِ عَيْشٍ إِنْسَانِيٍّ بَدْئيٍّ، أَوْ ذِي بُنْيَةٍ مُجْتَمَعِيِّةٍ بَسِيطَةٍ، وبين أَنْمَاطِ عَيْشٍ وبُنَىً مجتمعيِّةٍ وسِياسِيَّةٍ ذاتِ أشكالٍ وَتَكويناتٍ حَضَاريَّةٍ حَدَاثِيَّةٍ ومَا بَعْدَ حَدَاثِيَّةٍ، بَالِغَةِ التَّشَابُك والتَّعْقِيد، أَوْ ذاتِ مُؤَسِّساتٍ وتَركِيْبَاتٍ آيديولوجيةٍ مُشَيَّدة؛ أيْ مُصْطَنَعةٍ ومُوَظَّفَة لِتَحْقِيقِ مَقَاصِدَ غَيرِ سَويَّةٍ، لأنَّها، فِي أَصْل نَشْأَتِهَا، ودَوافِعِهَا، ومُحفِّزاتها، غَيرُ إِنْسَانِيَّة أَصْلَاً.

وإزاء تَراوحِ درجاتِ تَعَقُّد هذه التَّشَكُّلات والبُنَى المُجْتَمَعيَّة مَا بين درجةِ مَا قَبْلَ الاستبداد التَّوحُّشِيِّ الأَدْنَى وَدَرَجِةِ مَا بَعْد الاسْتِبْدَادِ التَّوحُّشِيِّ الأَقْصَى، يُسَافِرُ الشَّاعِرُ مَارْتِن لانغْفُورد، مُشْتَعِلاً بلهيب جميع الحَواس، ومُضَاءً بأنوارِ العقل وبريق الوجدان وسُمُّو الرُّوح، ومُحَفَّزاً بتوقٍ لاهبِ إلى الاكتشاف والكشفِ وبَلورة الرُّؤى، يُسَافرُ، عبرَ وَعْيِهِ الإنْسَانيِّ المُتَبَصِّرِ وخَيَالِهِ التَّأمُّلي الخَلَّاق، فِي أَحْيازِ الكَونِ ومَدَاراتِ الوُجُودِ، لِيُقَلِّبَ، بِإِمْعَانٍ مُتَبَصِرٍ مُضَاءٍ بِوهَجِ رُؤْيَةٍ مُسْتَقْبَلِيَّةٍ مُنِيرَةٍ، صَفَحَاتِ كتاب العَالِم، مُوغِلاً فِي قراءة بعضَ تَاريخهِ، مُسْتَلْهِمَاً دُرُوسَهُ، ومُتطلِّعاً إلى مزيدٍ مِنَ الْمَعْرِفَةِ المَقْرُونَة بِصَوابِيَّة إدراكٍ تتحدَّدُ درجةُ صَوابيته بدرجةِ صِدْقِ إنسانيته الَّتِي تُحَدِّدُ، بدورها، مُكوِّنات هُويَّةِ أصْحَابِهِ إذْ تُنْشِئ مَعَاييرَ تَعَامُلِهِم مع أنفسهم، ومع الآخر المُخْتَلِف، ومَعَ الطَّبيْعَةِ والأشياءِ والْكَائِنَاتِ والْكَلِمَاتْ، وإذْ تَصُوغُ كيفِيَّات هذا التَّعاملِ فِيمَا هِيَ تُشكِّلُ طَرَائِقَهُ، وتُمْلِي أَسَالِيبَهُ.

فِي الموقفِ الرُّؤْيَويِّ الذي يتبنَّاهُ إزاء علاقة الأنا بالآخَر، تَتَمثَّلُ أَبْرَزُ المُقَارباتِ الجَوهَرِيَّة الَّتِي تتردَّدُ تَجَلِّيَاتُها النَّصِّيَّة عَبْرَ صِيَاغاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ، وكيفياتِ تَنَاوُّلٍ عَدِيدَةٍ، تَسْتَجِيبُ لمُقْتَضَياتِ السِّياقات الَّتِي تَرِدُ فيها، سَواءُ فِي المُحَاورة  أَوْ فِي الْقَصَائِد الْمُخْتَارَة أَوْ فِي الوِمْضَاتْ التَّأَمُّلِيَّةِ، فَتُشَكِّلَ خُلاصَاتُها، فيما أَحْسَبُ، صُلْبَ رُؤْيَةِ مَارْتِن لانغْفُورد الفِكْريَّة والشِّعرية المُتواشجة لِلْعَالم، وتَصُوغُ جَوهَرَهَا العَمِيق المُتَبَدِّي فِي لُبِّ أَيِّ مُكَوِّنٍ مِنْ مُكَوِّنَات هَذَا الموقفِ الرُّؤْيَويِّ الإنْسَانيِّ المُؤَصَّلِ مِنِ جَوانِبَ ومَنْظوراتٍ حَضَاريِّة وتاريخيِّة وآنثربولوجيَّةٍ وعقليَّة ومنطقيَّة شتِّى، والَّذي عَلَيهِ يُنْهِضُ قِرَاءَتَهُ لِلشِّعر الَّتِي تَقُولُ "إنَّهُ يبدأُ مِنْ تَفَاعُلٍ مَعْ آخَرِينَا، أيَّاً مَنْ كَانَ، أَوْ مَا كَانَ، واحدُ هؤلاء الآخرين: حبيباً، شخصاً آخَر، أشخاصاً آخرين، بيئةً طبيعيةً – أَوْ إِلَهَاً"، لِتُؤَسِّس تعريفه للشِّعريه بأنَّها " انتباهٌ أَوْ إدراكٌ مُتَزَامِنٌ بَينَ مَرْكَزَيِّ جَاذِبِيَّةٍ – عَادَةً: المُتَكَلِّمُ، وَشَيءٌ آخَرْ". 

ولعلَّ لهذا التَّعريف اللَّافتِ أنْ يكونَ مُنْطَوياً عَلَى مَا يجعلُ كلَّ شَيءٍ فِي الكَوُنِ بمثابة "آخَر" أَوْ "أَنَا مُغَايِر" لأيِّ "أَنَا" إنسانيٍّ يَودُّ أنْ يُدركَ هُوِيَّتهَ عبرَ تعرُّف مكوناتِ ذَاتِهِ، ويتطلَّعُ لأنْ يُحقِّقَ، لنفسه وبنفسه وعبر تفاعلٍ مفتوحٍ مع الأَنَوَات المُغَايِراتِ والآخرين، وجُوداً فَاعلاً فِي وجودٍ لا يَنِي يُومِئُ إِلى وُجُودِ إِمْكَانِيَّةٍ ثَرِيَّة لفَتْحِ أُفُقٍ إنسانيٍّ جَديدٍ يُفْضِي بالإنْسَانِ إلى التَّدَرُّج فِي مَسَارِ تَحقِيقِ كَمَالٍ إنْسَانيٍّ مُحْتَمَلْ. وما عَلَى الإنْسَانِ الحَقِّ إلَّا السَّعيَ، بِدأبٍ ومُثَابَرةٍ، لِجَعْلِ هذه الإمْكَانِيَّة المُجَرَّدةِ إمكانِيَّةً فِعْلِيِّةً تَتَعدُّدُ تَجَلِّيَاتُهَا الْحَيَاتِيَّة الْوُجُودِيَّة، وَتَتَنَوَّع.

يتحَوَّلُ صُلْبُ رُؤيَةِ الشَّاعِرِ، الفِكْرِيَّةِ والشَّعريَّةِ المُتواشِجَةِ للْعَالَمِ، إلى مِفْتَاحٍ وَمِصْباحٍ يَتعَانَقانِ فِي مِشْكَاةِ يَدَيْهِ المُمْعِنَتَينِ فِي طَرقِ أبوابِ العَالِم: أحْيَازاً أرضيَّة، ومَسَاحَاتٍ، وأمَاكِنَ، وفَضَاءَاتٍ، ومجالاتٍ حَيَويَّةٍ، وأبْوابَ سَمَاواتٍ؛ فَيُمَكِّنَاهُ من رؤيهِ العَالَمِ الذي يَجُوسُ رِحَابَهَ سَاعِياً إلى إدراكِ حَقِيقَةِ واقِعِه القَائِمِ، وتعرُّفِ مآلاتِهِ المُمْكِنَةِ، واتجاهات مَصَائرهِ، وتبيُّنِ مُمُكِنَاتِ انتقالهِ إلى واقعٍ مُسْتَقْبَليٍّ مُمْكِنٍ يَتَسَاوَقُ مع جَوهَرِ الإنْسَانِيَّة، ويُطْلِقُ خَطْوَ الْبَشَرِ صَوبَ دُرُوبٍ، ومَداراتِ وُجودٍ، لا تُوصِلُهَم نِهايَاتُهَا إلى إدْرَاكِ نَقِيضِ مَا كَانُوا قَدْ سَعَوا، بِدَأَبٍ لاهِبٍ، إِلى إِدْرَاكِهِ.

هَكَذَا تنفتحُ كُلُّ إجابةٍ عَلَى سُؤَال، وَيُضَاءُ كُلُّ مُسْتَغْلَقٍ بِسُؤالٍ جَديدٍ، فَتَتوالَى الإجَابَاتُ فِي صِيَغِ خُلاصَاتٍ مُؤصَّلةٍ ومُدْرَكاتٍ تُعزِّزُ صُلْبَ رُؤيَةِ الشَّاعِرِ للْعَالَمِ، وتُوسِّعُ مَدَارَاتِهَا، إذْ تتجلَّى فِي نُصُوصٍ من كَلِمَاتٍ وعباراتٍ وجُملٍ تَقُولُ، فِي تَضَافُرٍ جَمَالِيِّ، شِعْريٍّ وسَرْدِيٍّ حَمِيمِيِّ ولافتٍ، أَبْرَزَ مُكوِّناتِ هذه الرُّؤْيَةِ الإنْسَانِيَّة الرَّحْبَةِ الَّتِي يُؤسِّسُ صُلْبُها خُلاصتين جَوهريتين مؤداهُمَا أنَّ "المهمَّةَ التَّخْيِلِيَّةَ الأكثرَ صُعوبةً هي أنْ تَتَصَرَّفَ كإنْسَانْ"، وأنَّ "الرِّحلةَ صَوبَ الآخرِ هي رحلةٌ صَوبَ الذَّات".

صورة

هكذا يَرى الشَّاعِرُ أنَّه لا يُمْكنُ لمَخْلُوقٍ أنْ يُحَقِّقَ لِنَفْسِهِ وُجُوداً إنسانيَّاً فِي الوُجُودِ إلا إذَا "شَرعَ فِي التَّحدُّثِ مَعَ الآخَرينَ، ومَعْ نَفْسِهِ"، كما يَرى أنَّه يتوحَّبُ عَلَى كلِّ إنسانٍ فَردٍ، وعلى كلِّ جَمَاعةٍ بَشَريَّةٍ أَوْ قَومٍ أَوْ شَعْبٍ أَوْ أُمَّة، أنْ يُقاوِمُوا غريزة التَّراتب الهرميِّ بالرُّجُوعِ خُطْوةً واحدةً إلى الوَراءِ لإفسِاح المجال أمامَ الآخَرِ كي يُحقِّقَ وُجُودِه. وَفِي إدانةٍ صَريحةٍ لما نجمَ عن الاستعمار والاستيطانِ، ولا سيما فِي "أستراليا" الَّتِي صارَت وطنَاً لأبناءِ مُهَاجرينَ مُسْتَوطِنِينَ قَدِمُوا، أَوْ اسْتُقْدِمُوا، من أَمَاكنَ وفضَاءاتٍ شتَّى منْ مُخْتَلَفِ أرْجَاءِ العَالَمِ، من عَواقبَ وعَاقَبِيلَ غيرِ إنْسَانِيَّةٍ، بأيِّ مقياسٍ وَفِي أيِّ حَال، يتلمَّسُ الشَّاعر أوجاعَ سُكَّانِ أُستراليا الأَصْلِيين (مَا يربو عَلَى ثلاثمائة قومٍ)، ويُعْلي من شأنِ قيمهم الإنْسَانِيَّة، الحَضَاريَّة والثَّقَافِيَّة المُوْغِلةِ فِي قِدَمٍ يربو عَلَى الأربعين ألفَ عامٍ فِي مَسَاراتِ الزَّمَنِ، ولا سيما "سَمَاحَهُم لِلْبِيْئَةِ أَنْ تكُونَ هِيَ الْخَيَالُ الآخَرُ".

وإلى ذلك، يَرى الشَّاعِرُ الإنْسَانُ أنَّه يتوجَّبُ عَلَى البَشرِ الَّذين اسْتَمْرَأُوا كِتَابَةَ مَصَالِحِهِمْ، وحَاجَاتِهِم، وَجَشَع أَطْمَاعِهِمْ الَّتِي لا تُشْبَع، فوق حُقُوق الآخَرين: بَشَراً، وأشياءَ، وكائناتٍ حيَّةً، ومَواطِنَ طبيعيَّةً، وَكَيْنُونَاتٍ مُؤجَّلة الوجودِ، ومَوْجُوداتٍ، أَنْ يُعِيْدُوا النَّظَر فِي تَجَارُبِهم وفقَ مَنْظُورِ رُؤْيَوِيٍّ إِنْسَانِيٍّ صَائِبٍ، وَأَنْ لَا يَكُفُّوا، مَرةً وَإِلَى الْأَبَد وَفِي كلِّ حيِّزٍ مِنْ أَحْيَازِ الْعَالَمْ، عَنْ فِعْلِ ذَلِكَ، فَحَسب، بَلْ أنْ يَشْرعُوا أَيْضَاً، ومنْ فَورِهِمْ، فِي إعَادَةِ الحُقُوق المَسْلُوبَة، والْحُرِّياتِ المَسْرُوقَة، إلى أَصْحَابِهَا: حُقُوقُ حُقُوقِ الطَّبِيْعةِ: أُرْوضاً، وسَماواتٍ، ومَواردَ، وكَائِناتٍ، تِلْكَ الَّتِي عُومِلتْ بِقَسْوَةٍ أَنْهَكَتْهَا وَضَيَّعتْ حُقُوقَ الأَجيال البشريَّة الآتية من المُستَقبل فيها؛ وحُقُوقُ النَّاسِ الَّذين حُمِلُوا عَلَى مِحَفَّة سَردٍ رأَسِمَالِيٍّ استعماريٍّ استيطانيٍّ مُهَاجِرٍ، ليُلْقَى بهم عَلَى هَامِشِ الْحِكَايات.

وإذْ يُؤَكِّدُ الشَّاعِرُ أَنَّ كِلَا الْحَقَّينِ: حَقّ الطَّبِيْعَة وحَقّ النَّاس، مُترابطان عَلَى نَحْوِ يَجْعلُ الحُصُول عَلَى أيٍّ منهما أمراً مَشْرُوطَاً بالحُصُول عَلَى الحَقِّ الآخَر، ويَحْمِلُ هذه الخُلاصةَ ليقرأَهَا فِي ضَوء خُلاصَاتٍ أُخْرى مُتَنوِّعة المجالاتِ ومتشابكةِ المَدْلُولاتِ والمَعَاني، غير أنَّهَا، جَميعاً، عميقةُ الصِّلة بِدَعْوَتِهِ المُلِحَّة إِلَى التَّصَالُح مَعْ فِكْرة الآخَرِ المُتَعَدِّدِ، المُتَنَوِّعِ، والمُخْتَلِف؛ فَإنَّهُ يَخْلُصُ إِلى اسْتِنْتَاجِ يقولُ إنَّ "سَمَةَ فَشَلِنَا المُميَّزةَ هِيَ رَفْضُنَا الاعْتِرافَ بِالْآخَرِ، بِاسِمِ حَاجَتِنَا إِلَى صَوغِ قِصَّةٍ (تَخُصُّنَا وَحْدَنَا)"، أَيْ لا تَخُصُّ أَحداً مِنَ النَّاسِ سِوانَا!

ولكنْ مَنْ هُمْ مِنَ النَّاسِ أولئكَ الَّذينَ لا يُمْكِنُهُم تَخَيَّلَ وُجُودِ الْآخَر، أَوْ العَاجِزين عَنْ الاعترافِ بِوُجُودِهِ لِكَونِهِم يُنْكِرُونَ حَقِيقَةَ أنَّ الذَّاتَ مَرْكزٌ فِي هامشِ جَمِيع العَوالِمِ الأُخْرى، فَلَا يَروَنَ سَواهَا (سِوى ذَاتِهِم الْعُنْصُريَّةِ الْمُتَعَالِيَةِ المُتَضَخِّمَةِ الشَّوهَاءِ) مَرْكزاً لِجَمِيعِ العَوالِمْ؟

بِإِيْجَازٍ قَاطِعٍ، يُجِيبُ الشَّاعِرُ عَنْ هَذَا السُّؤالِ، فيُسَمِّي كُلَّ أولئك الخَارِجِينَ عن جَوهَرِ الإنْسَانِيَّة الْحَقَّةِ، وسَويَّة العَدالة، وَقِيَمِ الجَمَال. وإِلَى ذَلِكَ، فإنَّ كُلَّ مُوهُوبٍ لَا يَنْفَتِحُ وَعْيُهُ عَلَى إِدْرَاكِ الْآخَرِ، ولَا يُتِيْحُ لِمَوهِبَتِهِ أَنْ تَتَشَكَّلَ فِي تَشَابُكٍ مَعَهُ، إنَّمّا يُحِيْلُ مَوْهِبَتَهُ إِلَى مَحْضِ تَقَافُزٍ وَشَقْلَبَةٍ؛ وكًلَّ مبتهجٍ أَوْ سعيدٍ لا يَعِي وُجُودَ الآخرِ، إنَّمَا يضَيِّعُ بَهْجَتَهُ ويُحِيلُ سَعَادَتَهُ، عَاجِلاً أَوْ آجِلَاً، إِلَى بُؤسٍ وشَقَاءٍ! ولأنَّ كُلَّ مَنْ لا يَهْتَمُّ بإنْفَاذِ الْعَدَالةِ لَا يَسْتَطِيعُ تَخَيُّل الآخَرَ، فَإنَّهُ يَقْبَعُ، راضِيَاً مُطْمَئناً مَغْرُوراً بقوَّته، أو قَلِقَاً مُتَحَفزاً مَسْكُونَاً بالهَلعِ لأنَّهُ قد شَرعَ يُدْركُ مَدى هَشَاشَتِهِ النَّاجمة عن ضَراوةِ ظًلْمِهِ، فِي أَقْبِيَةِ الظُّلْمِ، حَتَّى تَقَعَ نَتَائِجُ ظُلْمِهِ وَبَالاً مُسْتَحَقَّاً عَلَيهِ!  ويَكادُ الأَمْرُ نَفْسُهُ أنْ يَنْطَبقُ عَلَى كُلِّ سَاعٍ إِلَى كَمَالٍ مِنْ أَيِّ نَوعٍ عَلَى حِسَابِ الآخَرينَ مِنْ دُونِ أَدْنَى شُعُورٍ بِهِمْ، أو اعترافٍ بِوُجُودِهِمْ، أَوْ إقرارٍ بحَاجَاتِهِم وحُقُوقِهِم. وكَذَا هُوَ الأمرُ، بالنِّسبةِ لِكُلُّ مُسْتَبِدٍ مَهْوُوسٍ بالسُّلْطَةِ فَلَا يَرى فِي مَرَايا الْعَالِمِ إِلَّا انْعِكَاسَ صُورَتِهِ، وَلَا تَسْمَعُ أُذُناهُ إِلَّا مُراوداتِ نَفْسَهِ وصَوتَ جَشَعِهِ وأطْمَاعِهِ.

وَفِي تَشَابُكٍ تَفَاعُليٍّ يتضَافرُ مَعْ هَذَهِ النَّماذجِ غَيرِ الإنْسَانِيَّة الَّتِي شَارَفَتْ حُدودَ التَّوحُّش، أَوْ أَوْغَلَتِ فيه فاكتست بِضَراوَتِهِ وَعَتْمَتِهِ، فَفَارَقَتْ الانتماء إِلى كينونةٍ بَشَريِّةٍ تَتَوخَّى إدراكَ إنسانِيَّتها، يَنْدَرِجُ كلُّ مَنْ يَتَعَامَلُ مع الآخرينَ مِنْ دُونِ إقرارٍ بِوجُودهِم، أَوْ احْتَرامٍ لِحَقِيقَةِ وُجُودِ "التَّنَوُّع البَشَريِّ الخَلَّاق" الَّذي كَرَّسَتْ وُجُودَهُ تَجَاربُ البَشَرِ عَلَى مَدَى الحَضَارَاتِ والْأَحْيَازِ والْأَزمِنَة، فَيَتَحَدَّثُ إِلَيْهِم، أَوْ يَتَحَدَّثُ فِي غَيبتِهِم عَنْهُمْ، مِنْ دُونِ اعْتِنَاءٍ بِهِمْ، أَوْ إِدْرَاكٍ لِتَمَيُّزهم، أَوْ مُحَافَظَةٍ عَلَى شُعُورِهِم، كَبَشَرٍ آخَرِينْ، وَإِنَّمَا باعْتِبَارِهِم مَحْضَ أَشْيَاءَ تُؤْخَذُ أَوْ تُتْرَكُ حَسْبَ حَاجَتِهِ وَمَشِيْئَة عُنْصِرِيَّتهِ السَّوداء وَجَشَعِهِ الأعْمَى، أَوْ مَحْضَ أَعْدَادٍ وطَاقَاتٍ ومَواردَ قَابِلَةٍ للاستثمارِ والتَّحَوُّل إِلَى أَرْقَامٍ وعُمْلَاتِ وَأَرْصِدَةٍ مَالِيَّةٍ فِي مَصَارف!

 كُلُّ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَكَثِيرٌ غيرهُ مِنَ النَّمَاذِج، والظَّواهِر، والإِشَارَاتِ، والاسْتِعَاراتِ المُوسَّعةِ، والأُمْثُولاتِ، والصِّور، إِنَّمَا يَجِدُ تَعْبِيرَاتِهِ النَّقْدِيَّةَ الْمَعْرِفِيَّةَ الجَلِيَّةَ الصِّيَاغَةِ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ إفْعَامِها بالْكَثَافةٍ والتَّركِيزٍ، فِي الْمُحَاوَرَةِ، فِيْمَا سَتَتَنَوَّغُ تجلياتِهِ الإِبْدَاعِيَّةَ التَّخَيُّلِيَةَ القَاسِيَةَ، المُرَّة والْمَرِيْرَةِ، فِي نَسِيجِ الْقَصَائِد وَنَبَراتِهَا وانْعِطَافَاتِ أَشْكَالِهَا، وتَنَوُّعِ بُنَاها، وسَتَعُودُ خُلَاصَاتُهُ الفِكْرِيَّةُ، وَوَخَزاتُ تَبصُّراتِهِ الضَمِيرِيَّةِ النَّقْدِيَّة الصَّارمةِ، لِتَرْتَسِمُ فِي الوِمْضاتِ التَّأَمُّلِيَّةِ الَّتِي تَوَشِّمُ جُلُودَ الثَّعَابينِ الأَنِيْقَةِ، مِنْ ذَوي الْيَاقَاتِ المُنشَّاةِ وَأَرْبِطَةِ العُنُقِ الزَّرقاء، بِمَا يُلَطِّخُ وَجْهَ الْبَشَرِيَّةِ المُتَقَاعِسَةِ عَنِ الإِمْسَاكِ بِجَوْهَرِهَا الإِنْسَانِيِّ الْعَمِيقِ الَّذِي يَكْفُلُ لَهَا الْمُحَافَظَةَ عَلَى مَا يُرسِّخُ إنسانِيَّتها مِنْ مَبَادِئَ وَقِيَمٍ وَأَنْمَاطِ سُلُوكٍ، وتَحْفِيزِ كُلِّ مَا يُمَكِّنَهَا مِنْ مُواجَهَةِ نَقِيضِهَا التَّوَحُّشيِّ الَّذي شَرعَ فِي سَوْقهَا، بِشَراسَةٍ غَيرِ مَسْبُوقة، وعبرَ آيدْيُولُوجِيَّات عُنْصُريَّةٍ مُشَيَّدة، إِلى أَزْمِنَة التَّوحُشِ، والْعَتْمَةِ المُطْلَقَةِ، وَالْعَمَاءِ الأَقْصَى.

لذلكَ كُلِّهِ، وَلِكَثِيرٍ غَيْرَهُ من مُعْطياتٍ ومُؤَسِّسَاتٍ وخُلاصَاتٍ مُؤَصَّلةٍ، لا يَرى الشَّاعِرُ مِنْ مَهَمَّةٍ للشِّعْر فِي الْعَالَم الْحَدِيثِ تَفْضُلُ "الْإِصْرَارَ عَلَى أَهَمِّيَّةِ عَلَاقَاتِنَا مَعَ الْآخَرِين". وَيَعْتَقِدُ أَنَّ "العَلَاقَاتِ بَيْنَ الْبَشَرِ لَنْ تَكُونَ رَاسِخَةً وَحَسَنَةَ الإِنْشَاءِ، إِلَّا حِيْنَ تَكُونُ لَهُمْ، كَبَشَرٍ، عَلَاقَاتٌ جَيِّدَةٍ مَعَ الْعَالَم الطَّبِيْعِيِّ". وَإِلَى ذَلِكَ وَغَيرهِ مِنْ أُسُسٍ ومُسَوِّغاتٍ، فَإنَّهُ يَعْتَقِدُ أنَّ دورَ الشَّاعِرِ قَدْ تَغَيَّرَ مَعْ تَغَيُّرِ وَظِيفَتِهِ الأَسَاسِيَّة، وتَبَلْوُرِ مُحَدِّداتِ وَاجِبِهِ الْوُجُوديِّ فِي عَالَمٍ مُتَغَيِّرٍ بِاسْتِمْرَارٍ وتَسَارع؛ فَمَا عَادَ مُتَوقَّعاً مِنَ الشَّاعِرِ أَنْ "يَعْكِسَ مَشَاعِرَ الْقَبِيْلَةِ"، بَلْ صَارَ مَدْعُوَّاً لِأَنْ "يَكْتُبَ وِفْقَ أَفْضَلِ تَصَوُّرَاتِهِ ومُدْرَكَاتِهِ، وَفِي ضَوءِ مَا تَوصَّلِ إِليْهِ مِنْ خُلاصَاتٍ". ومَا ذَلِكَ إِلَّا لِأنَّ الشُّعَرَاءَ الَّذينَ يَحْتَرِمُونَ مُدْرَكَاتِهِم، وَيَسْلُكُونَ بِمُوجَبِهَا، هُمْ وَحْدَهُم الْقَادِرُونَ عَلَى كِتَابِةِ "شِعْرٍ إِقْنَاعِيٍّ" جيِّدٍ، وجَمِيلٍ، وَيَكُونُ بمقدوره أنْ يُؤَدِّيَ دَوْرَهُ الْفَاعِلَ فِي الْوُجُودِ؛ كَأَرْضٍ تَضْفُرُ الْحِكْمَةَ، وَالتَّسَامُحَ، وَالْإِخَاءَ، وَالْعَدْلَ، وَالْإِقْرَارَ بِالتَّنَوُّعِ الْبَشَرِيِّ الْخَلَّاقِ، فِي إِهَابٍ وَاحِدٍ، وَكَصَوتٍ نَقِيضٍ لأَصْوَاتِ أولئك الَّذينَ يَبْتَغُونَ ضَفْرَ الْمَسَاحَاتِ، فِي الْأُرُوْضِ وَالسَّمَاواتِ، لِصَالحِ أَنَانِيَّتِهِم، والَّذين يُرِيدُونَ تَقْلِيصَ كُلِّ شَيءٍ إِلَى عَلامةٍ مُفْرَدَةٍ، أَوْ بُعْدٍ مُبْتَسَرٍ هُوَ: نَحْنُ وَهُمْ، أَنَا وَأَنْتَ! وتراهم يَعْمَلُونَ، بِشَراسَةٍ ضَاريةٍ، عَلَى صَبْغِ الْعَالَمِ، وَالْكَونِ بِأَسْرِهِ، بِلَونٍ عُنْصُريٍّ استئثاريٍّ جَشِعٍ، ووَحيدٍ.

وَبُغْيَةَ إِكْمَالِ قَوسِ التَّوَاصُل التَّفَاعِليِّ الْحَيِّ بَيْنَ الشَّاعِرِ الرَّائِي، والْقَارِئِ المُتأمِّلِ الْيَقِظْ، فَإِنِّي لأَدْعُو القُرَّاءَ الْأَعِزْاءَ الَّذِينَ حَرِصُوا عَلَى اقتناءِ نُسْخَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَاب، أَنْ يُلَبُّوا دَعْوةَ الشَّاعِرِ لِلانْخِراطِ فِي رَقْصَةٍ حَمِيمِيَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ مَعَ الْآرَاءِ، وَالْأَفْكَارِ، والتَّصَوُّرات، والْأَخْيِلَةِ، وَشَتِّى أًشْكالِ الجَمَالِ، وَمَعْ خُلاصَاتِ النَّقْدِ الجَذْريِّ الصَّارمِ، وصُوَر الْهَولِ، تلكَ الَّتِي تَبُثُّهَا مُحْتَوَيَاتُهُ من مُحَاورةٍ، وقَصَائِدَ مُخْتَارةٍ، وَوَمَضَاتٍ تَأَمُّلِيَّةٍ.

وَإنِّي لَأَثِقُ أَنَّ للشُّرُوع فِي قِرَاءةِ هَذَا الكِتَابِ أَنْ يَجْذِبَ الْقَارِئَ الإنْسَانَ لِلِانْخِراطِ، بِشَغَفٍ مَعْرِفيٍّ وجَمَاليٍّ وَقَّادٍ، فِي تِلْكَ الرَّقْصَةِ الْحَمِيْمِيَّة الَّتِي تُكْمِلُ قَوْسَ التَّواصُلِ الإنْسانيِّ عَلَى نَحْوٍّ يُغيِّرُ الذَّاتَ، ويَفْتَحُ مَدَارَاتِ آفَاقٍ وَفَضَاءَاتٍ سَيَكونُ لِوُلوجِ رِحَابِهَا أَنْ يُفْضِي إِلى تَغْييرِ الْعَالَمِ عَبْرَ  الْمُشَارَكَةِ الْفَاعِلَةِ فِي أَخْذِهِ صَوبَ مآلاتٍ تَلِيقُ بإنْسَانيَّة الإنْسَان، ومَقاصِدِ الْوجُود.

ولا يَسْعُني وَأَنَا أَخُطُّ آخِر كِلَماتِ هذا التَّقديم، لِأُفْسِحَ الْمَجَال لِلْقَارِئِ النَّبيل، كَي يَشْرَعَ فِي جَوسِ مَسَاحَاتٍ هَذَا الْكِتَاب، والتَّحْلِيقِ فِي فَضَاءَاتِهِ، إِلَّا أَنْ أَتَقَدَّمَ بِجَزيلِ الشُّكْرِ والامْتِنَانِ لِكُلِّ مَنْ أَسْهَمَ فِي جَعْلِه كِتَابَاً مطبوعاً، فَأَتَاحَ إِمْكَانِيَّةَ تَدَاوُلهِ، وبَثِّ رسالته فِي النَّاسِ.

 وَأَخُصُّ بالشُّكْرِ الصَّديقةَ الدُّكتورة هَنَاء علي البَوَّاب، المدير العام لدار خُطُوط وظِلال للنَّشر والتَّوزيع، والصَّديقَ الشَّاعر، والفنان التشكيلي، مُحَمَّد العامري، مُديرَ الدَّار ومُشْرِفَهَا الفنِّي، والأخ بسام حمدان المُصَمِّم التنفيذي لإصدارات الدَّار.

وبقدر ما أتوجَّه بالشُّكر والامتنان إلى إبني وصديقي عاطف بسيسو الذي أجرى المُحَاورة مع الشَّاعر مَارْتِن لانغْفُورد، وحرَّرها للنَّشر باللُّغة الإنجليزية، فَأَتَاحَ لي فُرصَةً ثَمينةً للإطلالِ، عَنْ قُربٍ، عَلَى عَالَمِ هذا الشَّاعِرِ المُبْدِعِ، وَالْإِنْسَانِ النَّبِيلْ، فَإنَّني لأُجَدِّد الشكر للشاعر الصديق نوري الجَرَّاح، رئيس تحرير مجلَّة الجديد، على ما قدَّمَه من تسهيلات لإجراءِ المُحاورة، وعلى الاحتفاء بِنشرها، مُعَرَّبَةً، مع مُخْتاراتٍ مِن قصائد الشَّاعر مارتن لانغفورد، وَومَضَاته،  قَبْلَ سَنواتٍ، في المجلَّة، وهي المواد الْمضْفُورة الآنَ، مع التَّقديم، بينَ دَفَّتي هَذا الكتاب الَّذي آمُلُ أنْ يُمتِعَ القارئِات والقارئينَ، بِقدر ما يُقَدِّم نَفْسَهُ، إليْهُنَّ وإلِيهم، كَمنارةٍ مَعْرِفَةٍ، ويُنبُوعَ شِعْريَّةٍ، وفَضَاءً رُؤْيَاوِيَّاً مُفعَماً بِالأخْيِلَةِ الطَّليقةِ، وَوَمْضِ الْفِكْرِ الْوهَّاجِ، وتَجَلِّيات الجَمَالْ.     

براتِسْلَافَا، 6 أيلول (سبتمبر) 2020

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.