خطاب شيطنة الآخر
مع ظهور نظرية ما بعد الحداثة أولى نقاد الأدب وعلماء الاجتماع قدراً كبيراً من الاهتمام لمفهوم «الآخر”، فصار مفهوما تأسيسيا في دراساتهم. وعلى الرغم من صدور كتاب «الاستشراق” لإدوارد سعيد في سبعينات القرن الماضي فإنه مازال يؤكد موقعه المركزي المميز كنص تفجيري كاشف لتنميطات الاستشراق السلبية وما أسفرت عنه من تعزيز لمفهومي الاختلاف وشيطنة الآخر.
وفي الكلام على بعض مؤشرات خطاب شيطنة الآخر (Demonization) الآخر كما تتجلى في الصيغة المعرفية السائدة في المؤسسة الأكاديمية الغربية، أجد من الضروري التمييز بين نوعين من المثقفين: المثقف العضوي بالمعنى التداولي المستمد من غرامشي، والمثقف الأكاديمي الممأسس، أي المرتبط بمؤسسة الاستشراق بنموذجها المتمثل في حده الأقصى كما يعرضه إدوارد سعيد.
والهدف من هذا التمييز هو استكناه بعض مؤشرات خطاب الصيغة المعرفية المعتمدة في الخطاب الغربي السائد، أي ضمن الباراديم (Paradigm) المهيمن وفق توصيف توماس كون في كتابه «بنية الثورات العلمية” T.S.Kuhn, The)
Structure of Scientific Revolutions, Chicago University of Chicago Press, 3rd ed., 1996
والمقصود بخطاب «الشيطنة” هنا هو التذكير بعلاقة الاقتران بين السلطة والمعرفة من خلال مُقْترب إدوارد سعيد المستمد من فوكو، وهي علاقة تجعل من شيطنة الآخر أمرا ممكنا.
فالذين يملكون السلطة المهيمنة على الخطاب الأكاديمي الغربي أو فلنقل جلّه يسيطرون على ما يُعرف ولماذا يُعرف على هذا النحو أو ذاك. وصانعو خطاب المعرفة السائد هم المهيمنون على مستقبلي خطاب النزعة المركزية الأوروبية، استقبال العاجز في بعض الأحيان، عن نقضه أو نقده أو حتى روزه.
والحال أن علاقة الاقتران بين المعرفة والسلطة هامة جدا في سيرورة فحص برنارد لويس وكيفية اشتغاله على خطاب شيطنة الآخر. فالطريقة التي يقدم بها خطابه المعرفي الاستشراقي في ما يتعلق باكتشاف الإسلام لأوروبا لا تتيح له فرصة تعزيز هيمنة المركز على الهامش فحسب، بل تمكنه فضلا عن ذلك، من تعميق الصور النمطية السلبية المكونة لخطاب شيطنة الآخر، وبالتالي فإنها تسبغ على هذه الصور هالة الموضوعية الأكاديمية الناجزة.
ولعل المدائح التي أغدقها ويغدقها عليه المؤرخون وصانعو القرار، تؤكد مكانته كصانع صور نمطية متمرس. فالمؤرخ مارتن كرامر مثلا، وهو أحد تلامذته السابقين يكتب في «موسوعة المؤرخين والكتابات التاريخية” الأميركية أنه خلال عمل لويس الممتد لستة عقود «برز كأحد ألمع مؤرخي الإسلام والشرق الأوسط”.
ويكتب إدوارد سعيد بالمقابل «لم يضع برنارد لويس قدما في العالم العربي خلال أربعين عاما على الأقل. إنه لا يعرف شيئا عن تركيا كما قيل لي ولكنه لا يعرف شيئا عن العالم العربي”.
بديهي أن هذا الحكم أو ذاك، ومثله أحكام مشابهة لمريدين وحواريين وخصوم متمرسين، تطرح قيد التداول باستمرار، مشفوعة بمؤلفات لويس العديدة. ولهذا فإنه بالهالة المسبغة عليه في الجامعة والإعلام، مؤهل للإسهام في صناعة خطاب الشيطنة بامتياز. ولكن الهالة شيء، والحقيقة شيء آخر. وأسوأ أنواع الهالات هو ذاك الذي يعمي عن الحقيقة. ولا شك أن كتاب «اكتشاف الإسلام لأوروبا” يصلح لأن يكون نموذجا ونعني به تحديدا النموذج الذي لا يعنى بالنيل من الإسلام كدين فحسب، بل يحاول قبل كل شيء، الحط من الحضارة الإسلامية ونواتها العربية.
وأزعم أن المظهر الأكاديمي الصادم الذي يتخفى وراء خطاب شيطنة الآخر لدى لويس، هو نتاج وجود صور لديه للحقيقة، متشكلة قبل الرؤية (Pree-seen) أي قبل البحث والفحص والروز. ولهذا فإن هذه الحقيقة هي أقرب إلى الأيديولوجيات المدفوعة بنزعة إرادوية مسبقة الصنع منها إلى الحقيقة التي يصل الباحث في المستقبل إليها نتيجة للبحث الأكاديمي.
في ضوء ما تقدم يمكن أن نطرح السؤال التالي: ما هي مؤشرات هذا الضرب من الشيطنة في سياق البحث في خطاب اكتشاف الإسلام لأوروبا؟
ثمة مؤشرات أود بادئ ذي بدء أن أوجزها في ثلاثة:
أولا: مؤشر اللغة التي صاغ العرب المسلمون بها خطاب اكتشافهم لأوروبا والعالم، وهذه اللغة هي العربية طبعا. لكنها على حد زعمه لغة عاجزة عن التعبير عن الحقائق التاريخية. فهو يقول إن «كتّاب النصوص الجغرافية المسلمين قسموا العالم إلى أقاليم، وأن كلمة إقليم تعني الإقليم الجغرافي أصلا، فضلا عن أنها مستعارة من كلمة (Clima) اليونانية. كما أنها نتاج تصنيف جغرافي محض ولا تنطوي على أي معنى سياسي أو حتى ثقافي..”.
ويضيف «ولكن كتابات المؤرخين المسلمين لا تشير إلى هذه الأقاليم، بل هي -على ما يبدو- لا تحتل مكانا بارزا في مسألة الوعي بالذات لدى الشعوب الإسلامية” ( Bernard Lewis, The Muslim Discovery of Europe, London : Weidenfeld and Nicolson, 1982, PP. 11, 12
هذه الأحكام الجزافية التي تتكهن فتمارس بذلك فعل الكهانة والتخمين، أحكام تنحو نحوا خطيا لا يأبه بالانقطاعات والفجوات التاريخية مهملا نقاط التقدم والارتداد والنكوص. وهي تطرح بهذه الخَطيَّة التاريخية مشكلة المنهج اللاتاريخي لدى مستشرق ينظر إلى مراحل التاريخ الإسلامي وكأنها قابلة للاختزال في كتلة صماء ثابتة القوام، لا تتغير إطلاقا. كما أنها تحيلنا بداهة إلى جوهر واحد عصي على التغيير. وبعبارة أخرى فإن الإسلام، مشفوعا بمحموله المعرفي الحضاري، أي موضوع النص المدروس، يصبح بلا صيرورة. فهو كامن في سمات جوهرانية تراوح في نقاط ثبات ولا علاقة لها بسياق تاريخي تتغير وتائره سلبا وإيجابا، باستمرار.
هدف لويس المعلن هو التأكيد على أن صنّاع الحضارة العربية الإسلامية، غير قابلين للتطور أو التغيير. وكذلك الأمر في ما يتعلق بلغة الخطاب لديهم. فهي حضارة بدو أجلاف
وهذا يستدعي إلى الأذهان تعليق المفكر المغربي عبدالله العروي على لاتاريخية المستشرق غرينباوم، زميل لويس الذي ينطلق بدوره من أصولية جوهرانية يسبغها على الحضارة الإسلامية بنواتها العربية على امتداد فترات تاريخية متباينة. يقول العروي «إن الصفات التي يقرنها غرينباوم بكلمة قروسطي وكلاسيكي وحديث صفات محايدة أو حتى فائضة عن الحاجة. فليس عنده فرق بين إسلام كلاسيكي أو قروسطي أو حتى إسلام بلا صفات”
وإذا عدنا إلى ما قاله برنارد لويس حول كلمة إقليم فسنكتشف أنه يعزل هذا المصطلح عن حقيقته التاريخية.
ففي استخدام كتّاب النصوص الجغرافية المسلمين لمصطلح «إقليم” تأكيد على وحدة ديار الإسلام. بل إن الإشارة إلى بلاد الشام والمغرب الكبير مثلا، لا تخلو في استعمالاتها -كما هو معروف- من محمول تاريخي كامن تتفاوت حصيلة روزه وتقييمه ووضع حدوده بين فترة تاريخية وفترة أخرى.
والحال أن مؤشر لغة خطاب الشيطنة لدى لويس، وهو خطاب ملفّع، بهالة أكاديمية تستبطن محمولا معرفيا أيديولوجي المنزع، ليس جديدا. ففي كتابه «العرب في التاريخ” المترجم إلى العربية والصادر منذ عام 1950 في ما لا يقل عن عشر طبعات، نقرأ في فصل عنوانه «الحضارة الإسلامية” المقطع التالي «لقد جعلت الفتوحات اللغة العربية لغة الإمبراطورية (Imperial Language) ولم تلبث أن صارت لغة عظيمة ومتشعبعة”. وهكذا تطورت العربية للاستجابة لهاتين الحاجتين، وذلك باقتراض كلمات وتعابير جديدة، فضلا عن تطورها تطورا داخليا جعلها تستحدث كلمات جديدة من جذور قديمة، وتمنح معاني جديدة لكلمات قديمة. وكمثال على تلك السيرورة يمكننا اختيار كلمة عربية لمعنى كلمة «المطلق” (absolute) وهو معنى لم يكن غير ضروري للعرب قبل الإسلام” (Bernard Lewis, The Arabs In History, Oxford : University Press, 1993, p.143).
ما هي جذور كلمة «مطلق” العربية التي يشير إليها لويس؟ الحال أنه بدلا من ذكر كلمة «مطلق” يذكر كلمة «مجرد” وهي الصفة من فعل «جَرَدَ”. وهذا يثير الاستغراب. فترجمة كلمة (absolute) بـ”مجرد” غير صحيحة بطبيعة الحال. وكان بإمكانه أن يصححها في الطبعة الثانية من الكتاب. إلا أنه لم يفعل. وأنا أشير هنا إلى الطبعة السادسة من الكتاب الصادرة في عام 1992. فلماذا لم يفعل، على الرغم من كثرة تلامذته ومريديه من العرب والمسلمين الذين لا بد أن يكونوا قد نبهوه إلى الخطأ..؟
في تقديري أن عزوف لويس عن تصحيح الخطأ يعود إلى أنه سرعان ما يقرن كلمة «مجرد” بكلمة «جرادة”. وهذا الاقتران يتيح له فرصة القهقهة الصامتة من وراء السطور، وبالتالي تغيير الانطباع الإيجابي الذي كوّنه لدى القارئ بخفة تشي بقدر كبير من الدربة والمران (درس برنارد لويس ودرّس، قبل انتقاله إلى جامعة برنستون بالولايات المتحدة، في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن، وهي مشهورة بتميزها في حقل الدراسات الشرقية).
وفي كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق” إشارة شبيهة توضح كيف حلل لويس جذور كلمة «ثورة” فوجدها مرتبطة بنهوض الجمل وفقا للاستعمال المغربي على حد تعبيره. لا ندري المقصود من هذا الرابط بين نهوض الجمل وبين اعتبار هذا النهوض على الطريقة المغربية. ولا شك عندي أن المقصود بالعودة إلى فقه اللغة التماسا لأصل الكلمة المزعوم، هو استدراج سمج لقهقهة القارئ الصامتة نفسها. فهو يقول «إن الثورة مصطلح استخدمه الكتاب العرب في القرن التاسع عشر للإشارة إلى الثورة الفرنسية، ويستخدمه الذين جاؤوا في أعقابهم للثورات المَرْضيّ عنها، محلية كانت أم خارجية” (Edward Said, Orientalism, New York : Pantheon Books, 1978, P. 315).
هدف لويس المعلن هو التأكيد على أن صنّاع الحضارة العربية الإسلامية، غير قابلين للتطور أو التغيير. وكذلك الأمر في ما يتعلق بلغة الخطاب لديهم. فهي حضارة بدو أجلاف، المفاهيم التي صنعتهم ذات صلة تكوينية بأصول بدائية، فهي خلافا للحضارة الغربية، ذات طابع جوهراني لا يتغير بل يصرّ على النكوص والارتداد إلى الأصل أو قل إلى جوهر سكوني ثابت.
ثانيا: مؤشر الاختزال، والمقصود بالاختزال كما هو معروف الحذف المخل الذي يوحي بأن العناصر المحذوفة من النص لا وجود لها أصلا، وفي دراسة لويس لاكتشاف المسلمين لأوروبا اختزال خطير. فهو يستهل هذا البحث الأكاديمي الموثق بالقرن السابع الميلادي ويمضي به وصولا إلى الوقت الراهن. وخلال هذه الفترة التي تتعامل مع موضوعها كما أشرنا، وكأنه يمتلك سيرورة خطيّة ثابتة، تجاهل غير معلل لرحلات التجارة العربية البحرية والبرية. فمع نهاية القرن الثامن الميلادي طور التجار العرب خطوطا تجارية بحرية بدءا من الشرق الأدنى، والعاصمة الجديدة بغداد، وميناء البصرة ودجلة والفرات إلى الهند ومدغشقر وسيلان وإندونيسيا والصين. وأما الطرق والمعابر البرية فكانت تمر عبر بلاد بلخ وخوارزم وبخارى وسمرقند. وقد ازدهرت المنطقة التي تقع إلى الجنوب من بحر الأورال والواقعة تحت السيطرة العربية.
لوحة: وليد نظامي
ومن هناك كانت تنطلق قوافل التجار العرب عبر طريق الحرير لتبلغ الصين. وخلال خمسة قرون احتكر التجار العرب المسالك التي تصل بين الصين وأوروبا. ولم يتمكن الإخوة بولو من الانطلاق في رحلتهم الشهيرة حتى نهاية القرن الثالث عشر.
ويشهد نشاط خطوط التجارة العربية هذه، العثور باستمرار على نقود ومسكوكات فضية وذهبية إسلامية في شمال أوروبا وعلى امتداد نهر الفولغا وعبر المنطقة الشرقية من بحر البلطيق ووصولا إلى فنلندا والنرويج والسويد. (The Genius of Arab Civilization (Sources of Renaissance), London : Eurabia Publising Ltd., 1983, PP. 224-225).
ذلكم جانب من جوانب الصورة لا بد لاستكماله من أن يضاف إليه نشاط الرحالة المغاربة وخطوط التجارة البحرية والبرية المغربية والأندلسية خلال فترات تاريخية محددة.
ولكن اللافت في كتاب لويس أنه يستبعد على نحو مثير للريبة، نشاط أشهر رحالة في تاريخ الأدب الجغرافي العربي والإسلامي، ونعني به المغربي ابن بطوطة.
كما يهمل الكتاب التطرق إلى رحلة ابن فضلان في القرن العاشر، وهي الرحلة التي تعتبر من أبرز أعمال الأنثروبولوجيا الثقافية المبكرة والتي تؤرخ لتاريخ شعوب القارة الأوروبية.
وعندما يتعرض لويس لكتاب «الاعتبار” للأمير السوري أسامة بن منقذ فإنه لا يعطيه حقه من التقييم بل يلتقط منه من بين ما يلتقطه، موضوع الغيرة الشرقية على النساء فيقرع حول هذه الخصيصة طبولا، ويُسَمِّرها طرفا من طرفي مفاضلة مجحفة بينها وبين طريقة تعامل الغربيين ممثلين بالصليبيين مع المرأة.
وهناك أمثلة عديدة أخرى على هذه القراءة المتعسفة لكتاب «الاعتبار”، وهي قراءة تسلب مؤلفه بغير حق، قيمته الاستثنائية المتميزة.
ثالثا: مؤشر اكتشاف الآخر. يحدد برنارد لويس مفهوم اكتشاف الآخر في سياق التقليد السائد في كتابة التاريخ الغربي باعتباره مفهوما يصف سيرورة بدأت في أوروبا الغربية منذ القرن الخامس عشر.
وهذه السيرورة على حد تعبيره «آلت على نفسها اكتشاف بقية العالم”.. أي الأجزاء التي لم تكتشف منه بعد. وهو يسوّق هذا الاستهلال ليتحدث عن اكتشاف معاكس على حد قوله. فكتابه عن اكتشاف المسلمين لأوروبا هو اكتشاف مواز لاكتشاف أوروبا للعالم من وجه، ولكنه مختلف من وجه آخر.
وهذا يطرح مفهوم الاكتشاف على خلفية تنفخ في بوق «الاختلاف” باعتباره خصيصة تراتبية سلبية، على نحو لا تاريخي يتمحور حول جوهرانية مطلقة تروز الفارق بين الشرق والغرب على المستوى الأنطولوجي، فتقرر أنه فارق كينونة مسبق الصنع. ولا ندري كيف تستقيم المفاضلة بين ثقافتين أو حضارتين على هذا النحو الذي يهمل الملابسات المحيطة بكل منهما.
والأغرب من ذلك أن المفاضلة تسفر في ختام الكتاب عن إطلاق أحكام قيمة جامعة مانعة مفادها أن الأوروبي يملك حس الفضول المعرفي بينما يفتقر المسلم إلى هذا الحس. (عبارة «صدام الحضارات” (Clash of Civiliations) من وضع برنارد لويس وقد نقلها عنه صاموئيل هنتنغتون في وقت لاحق دون الإشارة إلى المصدر).
والسؤال هنا: ما هو هذا الفضول المعرفي الغربي؟ ما خصائصه، وما علاقته بالاستعمار؟ بل ما معنى اكتشاف الآخر وشيطنته في سياق غربي؟
الاكتشاف في مرحلة التوسع الاستعماري وما أعقبها كما يطرحه لويس ليس بريئا. فهو يصر على أن الأرض التي يكتشفها لم تكن مكتشفة من قبل. هذا على الرغم من أن الخرائط التي يرسمها لا يكمن وراءها فضول معرفي شبيه -على سبيل المثال لا التعيين- بفضول الشريف الإدريسي.
والحال أن رسم الخرائط في عصر الاستعمار الأوروبي كان طريقة من طرق تحويل الحيّز الذي يشغله الآخر إلى «حقيقة” غير حقيقية، تعكس العلاقة المجحفة بين المركزو الهامش.
كما أن منح المكان المكتشف اسما غير اسمه الأصلي، كما يفعل الإسرائيليون، ليس سوى وسيلة من وسائل تعزيز التحكم به والسيطرة عليه. وأحد الأمثلة المستلة من الأدب المعاصر، مسرحية (Translations ترجمات) للكاتب الأيرلندي برايان فريل (Brian Friel) التي تدور حول عملية إطلاق أسماء جديدة على القرى والبلدات الأيرلندية من قبل الجيش الإنكليزي في القرن التاسع عشر، حيث يصبح المكان موضوعا مكرسا للطمس والاكتشاف رغم أنه مكتشف بطبيعة الحال.
وهذا النوع من الاكتشاف يختلف قليلا عن الاكتشاف الصهيوني لفلسطين. فالمكتشف هنا يخترع أسماء جديدة يطلقها على المكان، بينما تستخدم الصهيونية أسماء لاهوتية مستلّة من التوراة، وتستنكف عن المضي في عملية البحث عن الأصول التي سبقتها في ماض أبعد.
آية ذلك أن الخريطة لعبت في عصر الاستعمار دور الأداة الأيديولوجية التي تسعى إلى تأكيد الاستحواذ على المكان. كما أنها تلجأ إلى استثمار علامة فارقة من علامات النزعة المركزية الأوروبية. فهي تقدم «الحقائق” منسوبة للمركز الأوروبي الذي يحدد ما هو حقيقي باستمرار.
وبذلك تصير أوروبا الرابط المعتمد الذي يصل الهوامش بالمركز. بل إن الخريطة كما يرى خوسيه راباسا (Rabasa) هي أشبه بدراسة تتخفى وراء مفاهيم التأويل الصادرة عن سلطة ذات قوة ونفوذ.. سلطة تحمل وجهة نظر طرف منتصر على طرف مهزوم” (Ashcroft, Griffith And Tiffin, Key Concepts in Post- Colonial Studies, London New York : Routledge, 1998, P. 32)..
وفي تقديري أن صرخة الطفل في حكاية الدانماركي هانس أندرسن «ثياب الإمبراطور الجديدة” (في عام 1979 أصدر الباحث البريطاني E. L. Ranelagh كتابا عن أبوة الشرق الأوسط لأدب الفولكلور الغربي، برهن فيه على نحو لا لبس فيه، أن حكاية «ثياب الإمبراطور الجديدة” لهانس أندرسن منقولة عن قصة مغربية. ولكنّ الصيغة المعرفية السائدة ظلت تنسب القصة له زورا) والمنقولة عن سرديّة مغربية ترجمت قبل عقود، تصلح للتذكير بضرورة مساءلة «الباراديم” السائد بل تفنيده بلا مواربة. الإمبراطور العاري لا بد من رؤيته على حقيقته.