في معنى الضحك
هذا الربط بين الإنسان والضحك، هو الذي يفسر تلك المقولة القديمة، الجديدة، والتي تقول بأن الإنسان حيوان ضاحك.
أما النفّري فإنه يقول «واضحك.. فإنني لا أحب إلا الفرحان».
ولكن، هل الفرح وحده هو الذي يضحك؟ ثم أيضا، هذا الذي نسميه ضحكا، أليست له درجات في سلّم الإحساس بالناس والأشياء، وبالكلمات والعبارات؟
وماذا يمكن أن نجد في أعلى درجات الضحك سوى.. الضحك الباكي؟ أي ذلك الضحك العالي والمركب والمعقد، والذي قال عنه المتنبي هو «ضحك كالبكاء».
في الكتابة الدرامية يكون المؤلف دائما هو الدافع إلى الضحك، ويكون هو المحرض عليه، وهو الذي يقترح المواقف الضاحكة، أما في هذا الوجود، فإن خالق هذا الوجود «هو الذي أضحك وأبكى»، ووراء هذا الفعل شيء يسميه الناس القضاء والقدر أو يسمونه المكتوب، وتتم هذه الكتابة في السماء، وتجد تنفيذها وانعكاسها وتجلياتها على الأرض، ويردد الناس دائما لازمة شعبية تقول ما يلي «إن ما يكتب في السماء لا يمحوه الماء، وإن ما يكتب على الجبين لا بد من أن تراه العين».
أما بالنسبة إلى نيتشه، فإن الضحك هو صناعة بشرية خالصة، وأن الإنسان هو الذي «اخترع» الضحك أو «اكتشفه»، وذلك لأنه أهم الكائنات البشرية شعورا بالألم، ولأنه أكثرها إحساسا بالمفارقات، وبهذا فقد أمكن أن نقول بأن الضحك هو الوجه الثاني للحياة، والتي لا يمكن أن تكتمل إلا بثنائية الضحك والبكاء.
شخصيا، لا أحب التراجيديا الإغريقية، ولا أظنّني في هذا الإحساس الموقف يمكن أن أكون وحدي، وأرى أن الأصل في الوجود هو الفرح والتعييد والاحتفال، وأن الألم والحزن هما بعض أمراض وأعطاب هذه الحياة، وأرى أن هذه التراجيديا الإغريقية مفزعة ومرعبة، وأن الإنسان فيها مسيّر وليس مخيرا، وهذا ما يتناقض كليا مع مفهومي ـ مفهومنا الاحتفالي للمسرح، والذي هو التعبير الحرّ للإنسان الحرّ في المجتمع الحر، وبعكس التراجيديا، فإن الكوميديا هي فن الأرض، وهي أيضا فن الواقع وفن اليومي وفن الإنسان البسيط.
ففي التراجيديا الإغريقية يساق الإنسان إلى قدره وحتفه رغم أنفه، والجنون في هذه الدراما أقوى من العقل، والموت فيها أقوى من الحياة، والغموض فيها أبلغ من الوضوح، والوحشية فيها أعلى صوتا وقامة من الإنسانية ومن المدنية، وبالنسبة إلى فلسفة التعييد الاحتفالي، والتي هي فلسفة الإنسان والإنسانية، وهي فلسفة المدينة والمدنية، وهي فلسفة الحياة والحيوية، فإنه لا شيء أقوى من الحياة، ولا شيء أقوى من الحيوية، ولا شيء أقوى من تلك الطاقة الإنسانية الداخلية، والتي تمثلها إرادة الحياة لدى الأحياء، وإرادة الجمال والكمال وإرادة الحرية والتحرر.
إنني أومن بالعيد وبالعيدية، ولي في هذه العيدية فلسفة نظرية، ولي فيها مواقف حياتية، ولي فيها إنجازات إبداعية حية، وأرى أن الرؤية العيدية لا يمكن أن تكتمل إلا بأن تكون إنسانية بشكل كامل وكليّ، وأن تكون جديدة ومتجددة مبنى ومعنى، وأن تكون حية حياة حقيقية، وأن تكون مدنية أيضا، وأن تكون عامة وشاملة ومتكاملة، وأن تكون مؤثثة بالحسن والجمال، وأن تكون معزّزة بالإنشاد الشعري الغنائي والملحمي، وأن تكون مسكونة بالانتشاء الصوفي، وأن تكون ممتلئة لحد الفيض بالوجد الروحي، وأن تكون متحلّية بالعربدة الفكرية والوجدانية، وأن تكون محكومة بالفوضى المنظمة وبالهذيان الخلاق وبالعيش الحقيقي والكامل والمتكامل، والذي يتقاطع فيه المأساوي والملهاوي لحد الانصهار، وعليه، فإنه لا يعقل أن نفصل في هذا العالم بين ما لا يمكن أن ينفصل، ولا يمكن أن نفك الارتباط بين الحالات الوجودية المتداخلة والمتفاعلة، ولهذا، فإنه لا مجال اليوم للحديث عن شيء يسمّى الضحك الخالص، أو يمكن أن يسمّى الكوميديا الخالصة، لأن كل ما في حياة المسرح ـفي ومسرح الحياةـ هو تفاعل كيميائي ونفسي وذهني ووجداني وروحي بين كل العناصر المتعددة والمختلفة فيه.
إن الليل يحاور النهار، والنور يجادل الظلمة، والصمت يجادل الكلمة، والضحك يعارك البكاء، والموت يتحدّى الحياة، ورغم كل الملايين من الموتى الذين مازالوا يموتون ـ أو يقتلون ـ فإن هذه الحياة تظل حية أبدا ولا تموت.
أفلاطون طرد الشعراء من جمهوريته، ولكنّ نيتشه أعاد لهم الاعتبار، وهو لا يتوقف أبدا عن الحديث عن الفيلسوف الفنان، وذلك في مقابل الفيلسوف النظري، وأرى أن ما ينقص مسرحنا اليوم، ليس هو المسرحي الحرفي، ولكنه المسرحي العالم والفيلسوف والشاعر، أي ذلك المسرحي الذي يمكن أن يعطي المعنى، أو يمكن أن يؤسس المعنى، أو يمكن أن يكتشف المعنى، والذي يمكن أن يفسّر الأسماء والأشياء، ويمكن أن يساهم في تغييرها وتجديدها أيضا، ومثل هذا المسرحي، يمكن أن يضحك على ما ليس خيرا، تماما كما يمكن أن يضحك على ما ليس منطقيا ومعقولا، وبهذا يكون الضحك موقفا نقديا من اليومي ومن الأبدي ومن التاريخي ومن الوجودي ومن الكوني، وليس مجرد فعل عضلي آلي بلا معنى.
يميز برغسون بين الكوميديا والتراجيديا، مؤكدا على أن الأولى ذات طابع جماعي، وعلى أن الثانية ذات طابع فردي وشخصي، فالإنسان يضحك مع الجماعة، ولكنه يتألم وحده، ويموت وحده، ونعرف أن من طبيعة بعض الطيور أنها تختبئ لتموت، ويمكن أن نتذكر الآن بيتين شهيرين لأبي فراس الحمداني:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهي عليك ولا أمر
نعـم أنا مـشـتاق وعـنـدي لوعــة ولـكـن مثلي لا يـذاع له ســر
الحزن إذن سرّ من الأسرار، بعكس الفرح الذي يتطلب الإعلان والإشهار، وترى الاحتفالية، في دعوتها العيدية إلى اقتسام كل شيء في العيد، اقتسام مكان الاحتفال واقتسام زمنه، واقتسام قضاياه، واقتسام مناخه، واقتسام طقسه، واقتسام أحواله، واقتسام أسئلته، وفي رأيها أيضا، أن كل شيء نشترك فيه ونتقاسمه فيما بيننا لا بد أن ينقص، كل شيء نعم، إلا الفرح الصادق، فهو يزيد ويكبر بالآخرين ومعهم، وكلما وجدنا من يشاركنا أفراحنا، ويشاركنا في التعبير عنها، فإن هذه الأفراح لا بد أن تكثر وتكبر وتتسع أيضا، وكذلك هو الضحك دائما، والذي لا يمكن أن يحقق معناه الكامل إلا بالمشاركة، أما من يضحك وحده، فإنه لا بد أن يصبح مشكوكا في صحته العقلية.
إن الأصل في المسرح أنه مجتمع مصغّر، وهو صغير بحيزه الزمني والمكاني المحدود، ولكنه كبير بعمقه الفكري وبقضاياه وبأسئلته وبأهدافه وبأحلامه وبأوهامه وبفتوحاته التي لا تقف عند حدّ معين، وفي هذا المجتمع المسرحي ينتقل كل شيء بالمحاكاة وبالعدوى، فيضحك هذا إذا ضحك الآخر، وبهذا يكون الضحك موجودا دائما ـليس فقط في الحوار وفي المواقف وفي الشخصيات ـ ولكن في الجو العام للمسرح، وفي مناخه، وفي مكانه، وفي زمانه، وفي مناسبته، وفي شبكة علاقاته، وفي قابلية الناس على أن يضحكوا، وبغير هذه القابلية، فإنه لا يمكن أن يضحك الناس شخص من الأشخاص، أو يضحكهم موقف من المواقف، أو تضحكهم كلمة من الكلمات أو عبارة من العبارات.
المسرح والضحك في البدايات
لقد ارتبط المسرح دائما، ومنذ أقدم العصور، بالطبيعة وبالحياة، فهو أساسا فن من فنون الوجود، وشكل من أشكال العيش.
إن هذا المسرح، في مستواه الأول، هو نزعة فطرية تقوم على أساس المحاكاة والتحوّل، وهو فن الإنسان في علاقته الأفقية بالإنسان، وهو فنّ الأرض، المجتمع، اللحظة التاريخية في علاقتها بالسماء وبالمتعالي وبالأبدي وبالسرمدي وبالمطلق.
إن هذا المسرح إذن، وهو الجزء الذي يعبّر عن الكل، لا يمكن أن يفهم أبدا، وبشكل حقيقي وكليّ، إلا بوضعه في إطاره الصحيح، أي بكونه مجموع هواجس الإنسان الحقيقية والوهمية، ومجموع أسئلته الوجودية والاجتماعية، ومجموع محمولاته المعرفية والجمالية، ومجموع مكتسباته العقائدية والأخلاقية، ومجموع علاقاته وارتباطاته، سواء بذاته، أو بالآخر، أو بالزمن، أو بالمكان، أو بالتاريخ، أو بالمؤسسة.
وفي البدء الأول، كان الجدب وكان الخصب أولى لغات الأرض والحياة، وكانت ثنائية الولادة والموت، وكانت ثنائية المضحك والمبكي، وكانت لغة هذه الأرض هي الأقوى والأعلى والأفصح والأبلغ، ومن هذه الأرض تعلّم الإنسان كل شيء، وبالمحاكاة عرف كيف يضحك ويفرح، إذا ضحكت هذه الطبيعة، وعرف كيف يبكي ويحزن، إذا ماتت هذه الطبيعة مؤقتا، وعرف كيف يؤمن بالبعث، وكيف يمكن للأجساد والأشياء أن تستعيد وجودها وحياتها وحيويتها من بعد الصمت والموت، وتعلّم كيف يضحك ويبكي، وتعلم كيف يحتفل، وأن يكون هذا التعييد احتفالا ملوّنا، وأن يكون مأتما بلا لون.
وامتد ذلك الخصب، وذلك الجدب، ليكون لهما وجهان اثنان، وجهان متعاقبان أو متناقضان أو متكاملان، الوجه الأول تمثله الولادة، بفرحها واحتفالاتها، وبألوانها وأضوائها وأهازيجها، أما الوجه الثاني فيمثله الموت، بحزنه وقلقه، وبطقوسيته وجنائزيته، وفي ذلك المجتمع الزراعي الذي كان، ولد المسرح لأول مرة، وبذلك فقد كان ضروريا أن يشبه الطبيعة في «انفعالاتها» المختلفة، وأن يكون ربيعا ضاحكا، وأن يكون خريفا باكيا، وأن تكون نشوة المسرح مرتبطة، ارتباطا عضويا وحيويا، بنشوة الخمرة، وأن تكون تعبيرا عن الفرح بالامتلاء الذي يمثله الخصب، وتمثله الولادة، وأن يكون خوفا وقلقا وحزنا أيضا، وذلك أمام ما يمثّله الموت من خوف ورعب، وما يوحي به فراغ ومن خواء ومن وحشة ومن غموض ومن قلق وجودي.
ولأن هذه الطبيعة، هي بالأساس فصول متعاقبة، فصول فيها برد وحرّ، وفيها مدّ وجزر، ولأنها أيضا، مواسم يتبع بعضها بعضا، فقد جاءت المسرحية التي هي صورتها الأمينة، ومنذ بداياتها الأولى، لتكون فصولا نفسية وذهنية ووجدانية وروحية، وليكون الضحك فيها موسميا، وليكون الحزن والأسى موسميا أيضا.
إن الضحك إذن، هو أحد وجهي الطبيعة والحياة، وبذلك فقد كان للفعل المسرحي نفس وجهي هذه الطبيعة وتلك الحياة، وكان له نفس قناعيهما الضاحك والباكي، وكان رسما في الوجوه المعبّرة، وكان قهقهة عالية لها صوتها وصداها، ولها رنتها المميزة الخاصة.
روافد المسرح العربي
لوحة: إسماعيل نصرة
شيء مؤكد، أن هذا الذي ندعوه المسرح العربي لم يؤسسه شخص واحد، ولم تبنه جهة واحدة من الجهات، ولكنه نتيجة نهائية لفاعلين متعددين ومختلفين جاؤوا من حقول معرفية وفنية وفكرية متعددة، وحتى نعرف موقع الضحك في هذا المسرح، فإنه لا بد أن نعرف الفاعلين الأولين والأساسيين فيه، وأن نحدّد الجهات التي أتوا منها إلى هذا المسرح، وأرى أن نحصر هؤلاء الفاعلين الأساسيين في خمسة وهم:
1- المغنّي: وقد كان هذا المسرح العربي غنائيا في بداياته الأولى، وقد استقطب مجموعة كبيرة من المغنيين، وأدخلهم في بنيته وفي نسيجه، وفي مغرب الثلث الأول من القرن العشرين كانت الفرقة المسرحية تسمّى جوقا، ويمكن أن نذكر من هؤلاء المغنّين الذين دخلوا المسرح سلامة حجازي والشيخ درويش وغيرهما، ويشير د. عبدالله شقرون في كتابه «فجر المسرح العربي في المغرب» إلى «من كان يسمى زرياب القوم، والذي تشاء الصدف أن يكون مطربا وممثلا» (منشورات اتحاد إذاعات الدول العربية، تونس 1980، ص73 ).
2- الخطيب السياسي: سواء في مرحلة النضال ضد المستعمر، أو في مرحلة النضال من أجل إقرار المجتمع المدني الديمقراطي في العالم العربي، ومن هذه الباب دخل المسرح كثير من الزعماء ومن المصلحين ومن السياسيين، والذين اعتبروا المسرح منبرا آخر للخطابة، واعتبروه أداة ناجعة لتأطير المواطنين سياسيا، ولتوعيتهم أيضا بضرب الأمثال المجسّدة والمشخّصة والحيّة، ويمكن أن نذكر من هؤلاء السياسيين الزعيم الوحدوي عبدالخالق الطريس والفقيه محمد القري، والذي كان «شاعرا وعالما في العلوم الدينية والإنسانية، كما كان في مقدمة الشبان المتشبعين بالثقافة الأدبية والميل نحو التجديد والإصلاح وكان، فيما بعد، في مقدمة شهداء الوطنية الأبرار» (المرجع نفسه، ص 73).
3- الحكواتي الشعبي والراوية والحلايقي: والذين اعتبروا أن هذا المسرح يمكن أن يشكل مجال اشتغالهم وإبداعهم الجديد، وقد انضموا إليه، لأنهم يملكون موهبة الحكي، ويملكون موهبة شد الانتباه إليهم.
4- الأديب: سواء أكان شاعرا ينظم القصائد، أو كان ناثرا يجيد الحكي ويجيد السرد، ويعرف كيف يوجد الشخصيات المسرحية، ويعطيها أسماءها وكلامها، ومن خلال دخول هذا الأديب إلى الحقل المسرحي وجد فاعل جديد في الثقافة العربية الحديثة يسمى الكاتب المسرحي.
5 ـ المضحك، والفكاهي والمقلد وكل الذين لهم ملكة الإضحاك: والذين وجدوا أنفسهم ينخرطون في هذا المسرح بتلقائية، وقد تشكّل بوجودهم مسرح شعبي فطري، مثل ذلك التيار الفطري في الفنون التشكيلية، ولقد عرف المغرب دائما هؤلاء المضحكين والمبسطين، والذين كانوا جزءا أساسيا وحيويا من ثقافته الشعبية، وإلى جانب كل الأشكال الفنية الشعبية التي عرفها المغرب قديما، والتي نجد من بينها الحلقة وسلطان الطلية وسيدي الكتفي، فهناك فن يسمى البساط ـمن البسط ـ ولقد كان المبسطون ـ كما يذكر د. عبدالله شقرون «يتخذون من معارفهم وبعض المشهورين في المدينة مواضيع لمستملحاتهم ومضحكاتهم، كما أنهم كانوا يأتون بحركات وأفعال في تشخيصهم ـوإن بلغت السوقية ودرجة الاستبشاع أحياناـ فقد كانت تدخل في نطاق الفكاهة» (المرجع نفسه، ص 30).
هؤلاء المبسطون كان يتقدمهم كبيرهم الذي يسمى «البوهو»، وقد استعرته شخصيا، وقدمته في مسرحية «عطيل والخيل والبارود»، وجعلته رسول المستضعفين إلى السلطان، يسوق الرسائل السياسية داخل فعل الإضحاك.
الضحك والتساؤلات الوجودية
إن الأساس في المسرحية، أيّ مسرحية، سواء أكانت مسرحية الوجود والحياة، أم كانت مسرحية الأدب والفن، أنها مجرد يوم من هذه الأيام السائرة والعابرة والمعبّرة، أو قد تكون فقط، ذلك اليوم الاستثنائي الذي يختصر كل الأيام والليالي، ويختزل كل الجغرافيا والتاريخ، ويتضمن كل المواقع والوقائع، ويخفي كل الحالات والمقامات، ويشي بكل أشكال الحوارات والخطابات المختلفة والمخالفة.
في هذا اليوم المؤسس، سواء لحياة المسرح أو لمسرح الحياة، أو لحياة الناس في هذا المسرح، والذي هو يوم وجودي ومسرحي في نفس الآن، في هذا اليوم الأبدي والسرمدي يحضر النور وتحضر الظلمة معه، ويحضر الليل والنهار إلى جانبه، ويحضر الفرح والأسى يتعقبه مثل ظله، ويحضر الجمال والقبح يلاحقه، ويحضر الحضور والغياب يهدده، وأمام كل هذه التناقضات التي تؤسس عيش الناس وعيش الشخصيات وعيش كل الكائنات الحيّة، يكون من واجبنا أن نسأل الأسئلة الأساسية والحيوية التالية:
• من يضحك في هذا المسرح ومن لا يضحك؟
• ومن يضحك من، أو من يضحك على من، أو على ماذا؟
• ولماذا يضحك الحاضر على الغائب عادة؟
• وهل معنى ذلك أن الغياب خطأ اجتماعي تعاقب عليه المجتمعات بالضحك؟
في هذا المسرح يضحك الإنسان بكل تأكيد، وذلك باعتبار أن هذا الإنسان حيوان ضاحك، وباعتبار أن لهذا الضحك فوائد نفسية وذهنية وعلاجية كثيرة جدا، ولولاه لماتت شعوب كثيرة من القهر، ولانقرضت أمم كثيرة بفعل الأسى والهم والغم، ويضحك الإنسان ولسان حاله يقول دائما «ربنا ما خلقت هذا الضحك باطلا سبحانك».
وقد نتساءل أيضا:
• هذا الضحك المسرحي ماذا يعني؟ وماذا يشكل في حياة ذوات الأفراد والجماعات؟
• هل هو لحظات للاستراحة التي لا بد منها؟
• هل هو حالة بريئة أم حالة عدوانية؟
• هل هو موقف نفسي وذهني من الآخرين ومن سلوكهم ومن تفكيرهم؟
• وهذا الضحك، هل هو فعل أخلاقي دائما، أم إنه من الممكن أن يرقى ليصل درجة الموقف الفكري والفلسفي، سواء من المؤسسات الاجتماعية أو السياسية، وذلك في أيّ مجتمع من المجتمعات، أو في أيّ حقبة من حقب التاريخ؟
• ثم أيضا، ألا يكون هذا الضحك مجرد تقليد ومحاكاة للطبيعة الضاحكة والباكية؟
• وهل هذا المسرح، في معناه الحقيقي والشامل والكامل، إلا التقليد والمحاكاة؟
لقد قال الشاعر البحتري:
أتاك الربع الطلق يختال ضاحكا
من الحسن حتى كاد أن يتكلم
• وهذا الضحك أيضا، أليس كلاما وتعبيرا، أو شكلا من أشكال الكلام، والتي لها ليس لها عدّ ولا حصر؟
وقد يحدث أن نضحك أيضا، عندما تضحك لنا الحياة، وقد يحدث أن نضحك نحن أولا، حتى تضحك لنا هذه الحياة بعد ذلك، ألم يقل المغنّي «اضحك للدنيا تضحك لك»، وحتى عندما تتمنّع هذه الدنيا على الإنسان، ولا تظهر له إلا جانبها السيئ والمحزن، فإنه لا يكف عن ممارسة حقه في الضحك، وبمرارة يضحك هذه المرة، يضحك ضحكا كالبكاء كما قال المتنبي.
ويمكن أن نواصل فعل السؤال، وأن نقول ما يلي:
– وفعل الضحك هذا، سواء في المسرح أو في ما وراء المسرح، هل هو فعل آلي، ميكانيكي، يصدر عنّا رغما عنّا، أم إنه فعل نأتيه عن وعي واختيار وعن سابق إصرار وترصد كما يقول فقهاء القانون؟
إنّ الضحك مستويات بلا شك، مستويات بعضها أعلى من بعض وأبعد من بعض، وفي أدنى درجات هذا الضحك نجد الضحك المادي الحسّي، أما في أعلى درجاته فإنّنا نجد الضحك العقلي والفكري، وتشكّل السخرية الوجودية، كما مارسها كثير من الشعراء والمبدعين المتفلسفين، قمّة الضحك والإضحاك.
وفي هذا الضحك دائما، وكما يعرف الجميع، تلتقي كل الشعوب والأمم، ولكن بدرجات متفاوتة، وذلك بحكم أنّ استجابة هذه الشعوب والأمم لا تتم دائما بنفس القوة وبنفس الحماس وبنفس الإيمان بالضحك، فهناك شعوب مبتسمة، وهناك شعوب ضاحكة، وهناك شعوب مقهقهة، وهناك شعوب غنيّة برصيدها في بنك الضحك، وهناك شعوب أخرى فقيرة في هذه المادة الحيوية، فقيرة لحدّ البؤس.
وفي تاريخ الإنسانية، وعبر كل المراحل المختلفة والمتعاقبة في هذا التاريخ، ظهرت حقب خاصة ازدهر فيها الضحك بشكل واضح، وظهرت حقب أخرى لحقها الحرب والدمار، ولفّها الهمّ والغمّ والأسى، ولقد تمّت ترجمة القلق الوجودي الإغريقي إلى تراجيديا فيها عنف وقوة، وفيها أسئلة ومسائل فلسفية، وفيها خوف ورعب، أما الدراما الرومانية، وبحكم فقرها الفكري والفلسفي، فقد نظرت إلى العالم من زاوية مختلفة، ونظرت إلى الواقع بعين ضاحكة.
وفي السينما العالمية الحديثة، اشتهرت مرحلة ما بين الحربين العالميتين بالضحك، وقد أطلق عليها اسم السنوات المقهقهة، وفي ذلك الموسم الضاحك والمقهقه صالت كثير من الأسماء وجالت، وأضحكت الناس في كلّ مكان، وكان على رأس هؤلاء الضاحكين المضحكين شارلي شابلن ولوريل وهاردي، وبودابوط ولو كسطلو وهارولد لويد وبيستر كيتون والإخوان ماركس وغيرهم كثير، أما بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد كل المآسي التي عرفها الغرب الأوروبي، فقد اختفى ذلك الضحك الأبيض وظهر مكانه ضحك آخر أسود، وذلك على يد جيل كامل من المسرحيين الذين أطلق مارتن إيسلن على مسرحهم اسم مسرح العبث، وسماه غيره مسرح الطليعة، وسماه الباحثون والدارسون العرب مسرح اللامعقول.
وفي المسرح المصري تزدهر الكوميديا منذ الفصول المضحكة التي كتب عنها د. علي الراعي ومنذ نجيب الريحاني وعلي الكسار وشرفنطح وماري منيب وزينات صدقي وحسن فايق وإسماعيل يس وعبدالسلام النابلسي وغيرهم كثير، وقد كان كل هذا قبل زمن النكسة، الشيء الذي يدل على أن الضحك له علاقة بالرخاء وبالفرح وبالأمان وبالسلم.
أما في المغرب، فقد جاءت مواسم الضحك بعد الاستقلال مباشرة، وكانت ممثلة بفرق مسرحية تجوب البلاد شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، وتنقل البهجة والفرحة إلى الناس كافة في كل مكان، وظهر ممثلون كبار يمتلكون روح النكتة الشعبية، ولهم قدرة كبيرة على الضحك والإضحاك، وعلى نقد المغرب القديم، وذلك بكل تقاليده القديمة والبالية والمتحفية، والتبشير في نفس الوقت بالقيم الأخلاقية المعاصرة والجديدة، ومن هؤلاء يمكن أن نذكر الكاتب والممثل الكبير أحمد الطيب العلج والممثلون أحمد العلوي وأحمد العماري وحمادي عمور والعربي الدغمي، كما ازدهر شكل مسرحي شعبي قريب من الناس وقريب من كل الأشكال الاحتفالية القديمة التي عرفها الناس في الأسواق الشعبية وفي الساحات العامة، مثل جامع الفنا، وفي المواسم الدينية السنوية، وقد كان وراء هذه التجربة مجموعة من العصاميين ومن الموهوبين في فن الإضحاك، وذلك من مثل بوشعيب البيضاوي والبشير العلج وأحمد القدميري والحبيب القدميري والصويري والمفضل الحريزي وعبدالجبار الوزير ومحمد بلقاس وغيرهم كثير.
وقد أتت على المسرح العربي مواسم كثيرة عرف فيها غيابا ملحوظا للضحك الصادق والخالص والحقيقي، وشاع فيه الهم السياسي والنضالي، وعلت النبرة الاتهامية في خطاب تحريضي، وأصبح هذا المسرح بين حدّين لا يكاد يتحرر منهما، حد الخطابة عالية الصوت، وحد الغنائية الباكية، وقد زادت حدة هذه الخطابية وتلك الغنائية مع الجرح الفلسطيني النازف، وأصبح المسرحيّ العربيّ تفضحه قضيته، وتمنعه من أن يضحك ضحكا خالصا، وإذا حضر هذا الضحك، فإنه يصبح ضحكا ملوّنا، ويكون بكاء أو تباكيا على الذات العربية الجماعية وعلى حالها السياسي، ونتساءل الآن:
• هذه المرحلة هل انتهت حقا؟
• هل دخلنا عهدا مسرحيا جديدا يقطع مع المرحلة الحزيرانية؟
• وهل من حقننا أن نؤسس لمرحلة أخرى جديدة في الضحك المسرحي العربي، مرحلة تكون أكثر واقعية وعقلانية من كل المراحل الفطرية التي عرفها المسرح العربي من قبل؟
هذه الأسئلة، وأخرى غيرها كثير، ننتظر أن يجيب عنها المسرح العربي مستقبلا، وذلك عندما يتحرر من تقليد الجديد عند الآخرين، بدل تأسيسه وإنتاجه، وعندما يتحرر من التبعية ومن الشكلانية التي يقدمها المسرح التجريبي، حيث تغيب روح المسرح الحق، وتبقى الكلمة للأشكال والألوان والأضواء والحركات التي قد يكون لها معنى أو قد لا يكون.
وعندما ألتقى صاحبي الممثل، في رحلتي الافتراضية إلى ذلك العالم الافتراضي في «الرحلة البرشيدية» وأسأله:
– «وأنت يا صاحبي ماذا تختار؟».
فإنني أجده يقول لي:
– «أنا؟ أنا أختار ما هو جاد في غير تجهّم، وأختار ما هو إضحاك في غير إسفاف، وأختار ما هو طبيعي وواقعي، وأعرف أن أجمل ما في الطبيعة غناها، وأن أروع ما في الواقع شاعريته، وأختار ما هو بسيط وسهل أيضا، وأعرف أن أخطر ما في البساطة صعوبتها الخفية، والتي لا يقدر عليها إلا القادرون..» (الرحلة البرشيدية، رحلة افتراضية في عالم افتراضي، مخطوط).
ثنائية المضحك المبكي
هي ثنائية أخرى صادفتني في حياة مسرحي، وحضرت في مسرح حياتي، وهي ثنائية المضحك المبكي، وقد وجدت نفسي دائما بين حدّين متقابلين ومتعارضين و(متناقضين): حد الفرح وحد الحزن، أو بين حدّ التراجيديا والكوميديا، ولقد تساءلت دائما.. نعم، أنا الكاتب الباحث المفكر المسرحي تساءلت:
• من أين أبدأ في فعل هذه الكتابة الحية؟
• وأيّ الحدين هو الصحيح والسليم، سواء في الوجود والحياة، أو في الفكر والإبداع، أو في اليقظة والمنام؟
• وأيّ المسرحين هو الواقعي والحقيقي: المسرح الكوميدي الضاحك، أم المسرح المأساوي الباكي؟ المسرح الجاد لحد التجهّم، أم المسرح الفكاهي لحد الإسفاف والتهريج؟
• وهل حياتنا اليومية مأساة حقيقية أم إنها مجرد مهزلة وجودية؟
وكما كسرت ثنائية اليمين واليسار في وعيي السياسي، وكما تجاوزت ثنائية الدين والدولة في رؤيتي الفكرية، وكما قفزت على ثنائية التفاؤل والتشاؤم في حياتي الوجدانية، فقد راجعت ثنائية النحن والآخر أيضا، وراجعت ثنائية الهنا والهناك، وثنائية الأصيل والدخيل، وثنائية الواقعي والتاريخي، وثنائية الطبيعي والماورائي، وثنائية العامي والفصيح، وبذلك فقد وجدت نفسي، من حيث أدري أو لا أدري، أدمّر ثنائية المضحك والمبكي أيضا، ولقد جاء هذا انطلاقا من عقيدتي الإسلامية الموحدة أولا، ومن إيماني الصوفي بالحلول ثانيا، ومن قناعتي بأن «أصدّق كل الأمور أسى هو الذي يضحك ولا يبكي» ثالثا، وأعتقد أن الأساسي هو أن نحيا وكفى.. نحيا بصدق وكفى.
لوحة: إسماعيل نصرة
وفي عالم هذا المسرح عشت دائما، وتعوّدت على ألا أقيم الحدود والسدود بين المأسوي والملهاوي، وعلى ألا أضع الحرس والعسس بينهما، ولا يغريني اللعب بالتصنيفات والتفريعات المدرسية، فالمهم عندي هو أن أحيا وأكتب، وأن أكتب وأحيا، تماما كما تكتب أمّنا الطبيعة، وكما تكتب الأيام والليالي، وكما يكتب التاريخ، وهل الإبداع إلا التأريخ الوجداني لما أهمله التاريخ، ولما نسيه السادة المؤرخون؟
وأعترف أن كلّ ذلك الذي كتبته بالأمس، وأن كلّ هذا الذي أكتبه اليوم، لا يمكن أن يكون إلا احتفاليات مسرحية وكفى، وأيّ نعت آخر لها غير هذا فهو لا يعنيني، وفي هذه الاحتفاليات الدرامية يمكن أن نتوقع حدوث أيّ شيء، وأن نسمع كلّ كلام، وأن تثير لدينا كل الحالات المختلفة والمتناقضة والمتضاربة والغامضة والمبهمة، فالحال أحادي البعد واللون ممنوع في الفلسفة الاحتفالية وفي الإبداع الاحتفالي، والرأي أحادي البعد لا مكان له في الوعي الاحتفالي أيضا، ولهذا يقول الحكواتي في تلك الاحتفالية المسرحية التي تحمل عنوان «المقامات البهلوانية» الكلمة التالية:
– «من حقك أن تفرح، إذا كان هناك مجال للفرح، ولكن من حقك أن تحزن أيضا، إذا كان هناك ما يدعو للحزن.. الفرح هو الأصل يا صاحبي، والحزن حالة عابرة، فحاول ألا تسرقك الحالات العابرة» (عبدالكريم برشيد، الأعمال المسرحية الكاملة، وزارة الثقافة، الرباط، 2009).
وهذه الاحتفالية لا تمارس الإضحاك عن سابق قصد، وقديما قال الناس في بلدي «الضحك بلا سبب من قلة الأدب»، وهي تستبعد أن يكون اللقاء المسرحي جلسة للضحك الخالص، وهل هناك فعلا ضحك خالص؟
كما أنها لا تؤمن، بأن مجرد إثارة الخوف والشفقة والرعب، في التراجيديا، يمكن أن يكون لها معنى لدى المتلقي، خصوصا في هذا العالم الذي ضيّعت فيه الأشياء والكلمات والعبارات والحالات بساطتها وشفافيتها، وأصبح للضحك أصناف وألوان وأصباغ بعدد لا يحصى، ابتداء من الضحك الأبيض، ومرورا بالضحك الأصفر، وانتهاء إلى الضحك الأسود.
يقول نفس ذلك الحكواتي، في نفس ذلك الاحتفال المسرحي:
«اعلم يا صاحبي أن الضحك حربائي وزئبقي، فقد تراه أنت مدحا وهو هجاء، وقد تراه فرحا وهو بكاء، وقد تراه امتلاء وهو خواء، وقد يحسه الواهمون ضحكا مع الآخرين وهو ضحك عليهم.. يضحكون ضحكا هو في الأصل بكاء أو يشبه البكاء» (الأعمال المسرحية الكاملة).
إن الضحك الحقيقي موجود في البكاء الصادق، أي في ذلك البكاء الذي يرتقي أعلى درجات الحزن وأقصاها، والذي يمكن أن يزيد عن حدّه، لينقلب بعد ذلك إلى ضدّه، أو إلى وجهه الثاني، أي إلى الضحك العاقل والمتأمل والمتفلسف، هذا الضحك العاقل تمثله السخرية دائما، وهي موجودة عند كبار المفكرين والمبدعين الذين لا تصرفهم العيوب الجسدية والاختلالات الاجتماعية عن القبض عن المفارقات الوجودية الكبرى، والذين يرتقون بالسؤال الصغير إلى درجة المسألة الكبرى، ولهذا، يمكن أن نقول مع ذلك الحكواتي الاحتفالي «كن متفائلا لحدّ التشاؤم، وكن متشائما لحدّ التفاؤل، واضحك لحدّ البكاء، وابك لحدّ الضحك، وادفع بكل الحالات إلى أقصاها وأعلاها، وفي أقصى أيّ حالة لا يمكن أن تجد إلا ما يخالفها ويناقضها» (الأعمال المسرحية الكاملة).
في زمن من الأزمان، كان ذلك المهرج التقليدي القديم يسعى لإضحاك ذلك الطفل الذي كان، وكان لذلك المهرج بذلته الغريبة والعجيبة، وكان له حذاء كبير عملاق، وكان له أنف منتفخ أحمر، وكانت له مقالبه وشقلباته وشطحاته البهلوانية، وفي السينما الصامتة أيضا، كانت لشارلي شابلن قامته القصيرة بين العمالقة، وكانت له بذلته وطربوشه، وكان له عكازه ومشيته الغريبة، وكان في ضحكه فيلسوفا، وكان في فلسفته ضاحكا، وكان حكيما، وكان مقنعا في كل مغامراته وفي كل خصوماته التي تفتقر إلى التكافؤ وإلى المنطق، وكان جمهوره، ولا يزال، مقتنعا بما يقدم له من مفارقات بريئة ومضحكة، ذلك المهرج إذن، سواء في صورته «السيركية» أو السينمائية، لم يقدم ضحكا خالصا، وكان الحزن هو ما يشكّل عمق الصورة في حركته وكلامه وفي حياته دائما، وقد يبكي هذا المهرج في ضحكه ونحن لا ندري، وقد ننخدع بأصباغ الوجه، وتلهينا عن ألوان الداخل الخفية، والتي هي الأصدق دائما، وفي نفس ذلك الاحتفال المسرحي دائما، والذي يحمل عنوان «مقامات بهلوانية»، وفي ختام احتفالية السيرك اليومية، وبعد أن أدّى المهرج نمرته، وأضحك كل الأطفال، نجده ينسحب إلى مقصورته تشيّعه ضحكات الأطفال البريئة، وعندما ندخل خلفه خلسة، نفاجأ إذ نراه جالسا إلى مرآته وهو يبكي.. يبكي من شدة ألم المرض، وعندما يسأل في ذلك يقول:
– «إنني أبكي يا ولدي.. فرحا أبكي، ودموع الفرح أصدق الدموع وأنبل كل الدموع» (الأعمال المسرحية الكاملة).
وآخر الكلام، في هذه الفقرة من الكلام، أن كل الطرق تلتقي عند ملتقى الطرق، وأنها كلها تفترق عند مفترق الطرق أيضا، والملتقى والمفترق هما معا نفس النقطة، ونحن ننطلق منها ونعود إليها، ونحن لا ندري، أو لا نريد أن ندري، وتتعدد الأسماء في كلامنا وفي كتاباتنا والمسمى دائما واحد أوحد، مما يدل على أن ما نختلف عليه، هو نفس ما نتفق عليه.
في هذا العالم اليوم، يلتقي كل شيء بأيّ شيء، يلتقي المضحك والمبكي، نعم، في نفس الوجه وفي نفس العين يلتقيان، وأمام نفس المشاهد المرعبة والقاسية والمجنونة يلتقيان، فهل نضحك أم نبكي، أم نضحك ضحكا كالبكاء كما قال الحكيم المتنبي؟
حدود المأساة والملهاة
بين المأساوي والملهاوي شعرة رقيقة ودقيقة جدا، فوراء كل واحد منها حالة مختلفة ومخالفة، والمرور من حالة نفسية ووجدانية إلى أخرى ليس بالأمر الصعب، سواء بالنسبة إلى الكاتب أو بالنسبة إلى الممثل أو بالنسبة إلى المخرج أو بالنسبة إلى المتلقي أو المتلاقي في الاحتفال المسرحي، فهم جميعهم يعيشون العمر المسرحي باعتباره ديوانا واحدا موحّدا، وباعتباره مأدبة حسية مفتوحة على كلّ الحواس، ومفتوحة على كل الحالات والمقامات، ومفتوحة على كل الممكنات والاحتمالات، وكل العناصر متفاعلة ومتغيرة ومتحوّلة ومتجدّدة في كيمياء الاحتفال المسرحي، ولا شيء ثابت فيه إلا مساره الذي قد يشبه مسار النهر المتدفق مياها لا تكف عن التجدد أبدا.
شيء مؤكد أن ما يحزن اليوم قد يضحك غدا، وأن ما يضحك هذا قد لا يضحك ذاك، وأن ما قد يُسعد هنا قد لا يُسعد هناك، وكل شيء نسبي في عالم الناس وفي عالم المسرح المتحرك، والذي لا يمكن أن يتوقف لحظة عن الحركة، وما هو مؤكد هو أن الضحك هو الذي يسبق دائما، وأن فعل البكاء لا يأتي إلا بعد أن يبلغ الفرح مداه، وبعد أن يبلغ أعلى درجة فيه، وكأنه بذلك يستجيب للمثل ـ القاعدة التي تقول «كل شيء يزيد عن حدّه ينقلب إلى ضدّه»، ومن عادة الإنسان المغربي، مثلا، عندما يكثر من الضحك، أن ينتابه فجأة شيء من الخوف والقلق، وبذلك نسمعه يردد لازمة «اللهم اجعل ختام هذا الضحك خيرا».
وعليه، فإنني أرى من البلادة أن ينعت كاتب مسرحية من مسرحياته، وأن يكتب على غلافها بأنها كوميديا أو تراجيديا أو تراجيكوميديا، وأرى أن مثل هذا الفعل، في حال حدوثه، ما هو إلا مصادرة صريحة لحق القارئ في أن يقرأ نصه كما يشاء هو، أو كما تشاء له ثقافته أو حضارته، وكما تشاء له شروطه وظروفه الخاصة، ومثل هذا الفعل دائما، هو وصاية على جهاز التلقّي لدى المتلقّي، وهو إلغاء لحرية القراءة التي هي الوجه الثاني لحرية المبدع، وتصل هذه المصادرة أقصاها عندما ترفع بعض المسرحيات التجارية الشعار التالي «ثلاث ساعات من الضحك المتواصل» وكأنها بهذا تصدر فرمانا يلزم الجمهور بأن يضحك عددا معينا من الساعات، أو، ربما، عددا معينا من الضحكات.