أيديولوجيا جزافية لا تطابق الواقع
يطرح النص مسألة الهوية في الشعر العربي، أي مسألة ما يدعى بـ”النموذج المرجعي” (paradigm) وهو الصيغة المعرفية النقدية المعترف بها والتي يحجم الكاتب عن الاحتكام إليها، (جهلا أو تجاهلا) في إصدار أحكام القيمة القاطعة والتي تستبطن المقال من الألف إلى الياء .وبعبارة أخرى نذكّر أن “النموذج المرجعي” هو الميزان الذي يُحتكم إليه في عملية الفرز الأكاديمي بين الخطأ والصواب سواء وضعنا الصيغة المعرفية النقدية التي يعتمدها النص على محك علم الاجتماع أو نظرية المعرفة، أو التحقيق التاريخي.
وقد كان التشكيك في صحة “النموذج المعرفي” أو الباراديم المعتمد من قبل الاستشراق، الأساس الذي اعتمده إدوارد سعيد في سجاله النقدي المناهض لتلك المؤسسة .وكما هو معروف فإن سعيد استند في أطروحته هذه على نظرية ميشيل فوكو حول العلاقة بين السلطة والمعرفة .يقول فوكو: “السلطة والمعرفة يدل واحدهما على الآخر مباشرة، وأنه لا توجد علاقة سلطة دون وجود معادل لها في حقل المعرفة، ولا توجد أيّ معرفة لا تفترض وجود علاقة بالسلطة في الوقت نفسه”.
وفي دراسة إدوارد سعيد “الاستشراق” تأكيد مدعوم بالأمثلة والبراهين، على أن خطاب المغايرة والاختلاف بين الغرب والشرق ليس إلا التعبير عن علاقات السلطة (القوة) غير المتكافئة بين الطرفين.
وهكذا صار خطاب الاستشراق إطارا مرجعيا للتحليل، سواء فيما يتعلق بالأدب، أو علم الاجتماع، أو اللاهوت .وقد تمكن الاستشراق من صنع تراتبية يتوارثها الشرق العربي الإسلامي، بعد أن صارت خطابا معرفيا اختزاليا معتمدا يدور حول المغايرة والاختلاف، بين عقلانية غربية ولا عقلانية شرقية.
في هذا الفضاء الذي تمثله علاقات القوة المهيمنة بمحمولها المعرفي، يُطرح السجال الدائر حول التراث العربي الإسلامي .وهو سجال يفكك إدوارد سعيد فيه “المركزية الأوروبية” كممثل للهامش العربي.
وفقا لهذه القراءة-الرؤية، يتبلور شعار “الحقيقة تخاطب القوة” الذي يختزل خطاب إدوارد سعيد الموجه للمركز الغربي المهيمن والممثل لسلطة القوة التي تحتاج إلى تفنيد.
***
المقال الذي نحن بصدده يحل مفهوم “المركزية المصرية” محل “المركزية الأوروبية” ويقدم جملة من التعليلات ذات الأفق الجغرافي الذي يفتقر إلى العقلانية، لتبرير عملية الاستبدال هذه .كما أنه يحوم حول اللغة الاصطلاحية في النقد، ولكنه يظل بعيدا كل البعد عن استخدام هذه اللغة .والأدلة المستلة من هنا وهناك لدعم دعواه التي يلخّصها عنوان المقال تؤكد باستمرار استقالة العقل النقدي لدى كاتبه واستعاضته عن العقل بالذوق جزافي النزعة.
والأغرب من ذلك أن الباحث يتمسك بعدم تذوقه لكتاب “الشوقيات” للشاعر أحمد شوقي (وهو الكتاب الذي قرأه كما يخبرنا حين كان تلميذا في الدراسات الأولية في الأدب العربي) ليصدر عليه حكما مبرما تلخصه العبارة التالية “هذا الشاعر ليس مقلدا فقط وإنما لا يعرف كيف يكتب قصيدة فنية تخاطب وجدان القارئ أو عقله”.
***
أكتب هذه السطور بدافع الاستجابة لرغبة “الجديد” بالحصول على رأيي النقدي في مقال بدا لي كما لو أنه يجنح إلى الإثارة ولا يخلو من العنف، مستنفرا انطباعات كاتبه الخالية من أيّ تعليل نقدي.
ولكن على رسلك أيها (الناقد المقيم في فرجينيا/أميركا) لقد ضيقت واسعا يا صاح .فأنت لا تنكر على شوقي إمارة الشعر فحسب بل تنكر وجود أيّ علاقة له بالشعر .لستُ ناقدا اعتذاريا معجبا بشوقي بلا قيد أو شرط، ولكني أتساءل: هل قرأت شعر شوقي المسرحي الذي لا أعتقد أن ثمة ما يضاهيه في شعر النهضة العربية وما بعدها؟ هل قرأت قصائد شوقي الموجهة للأطفال؟ ثم هل قرأت نقد أدونيس الاعتراضي لشعر شوقي على سبيل المثال وليس الحصر؟ هل قرأت مقدمة الكتاب الأول من “ديوان النهضة” الذي خصصه أدونيس لمختاراته من شعر شوقي؟ أعتقد أنه ليس من حق الناقد أن يكتب نقدا يتضمن أحكاما جزافية مبرمة المقدمات والنتائج من دون أن يمرّ حتى مرور الكرام على ما كُتب عن شعر شوقي من نقد عقلاني متميز كنقد أدونيس، الذي ينطلق من شعرية مغايرة.
هذا النقد الذي أسهم في تحجيم شعر شوقي، النقد الاعتراضي الصادر عن شعرية مغايرة والذي كتبه أدونيس منطلقا من موقع حداثي، يختتم مقدمته لمختاراته من شعر شوقي قائلا: “… شوقي هنا، شأنه في ذلك شأن الشعراء الذين يصدرون عن النظرة الإسلامية-العربية، نظرة المعنى/الأصل، يصدر في كتابته الشعرية عن اللغة في ذاتها ولذاتها، في ماديتها وروحيتها في آن: أي عن وجودها الأصلي الذي لا يفقره مرور الزمن، بل على العكس يغنيه، وعن قيمها الإيقاعية، الصوتية-الموسيقية”.
ويضيف “اللغة في هذه النظرة، لا تأخذ إيقاعها من الواقع، بل إن الواقع، على العكس، هو الذي يأخذ إيقاعه من اللغة .الواقع، سواء كان تاريخيا أو اجتماعيا أو سياسيا، هو، دائما ضيف في بيت اللغة”.
ثم يستطرد “لعل في هذا ما يخيل لأمثال هؤلاء النقاد الذين يصدرون عن رؤية نقدية، غربية الأسس، أن لغة شوقي هي لغة الماضي لا لغة الحاضر .والحق أن هذه اللغة كما يفهمها شوقي، وتعلِّمها النظرة الإسلامية-العربية، لا ماضي لها، أي ليس لها، في ذاتها كلغة، ماض ينقضي ويزول، وإنما ماضيها مجرد ماض تأريخي، اصطلاحي .فاللغة وجوديا، حاضر مستمر، بل هي المستقبل: إنها الأزمنة الثلاثة موحدة في جذر انبثاقها المتعالي…”.
***
هذه القراءة لشوقي تظل مبتسرة، باعتبارها ممثلة بمقاطع من النص الأصلي .ما أردته من إيرادها التأكيد على أن مقال ناقدنا الشاب الثائر على النزعة المركزية المصرية قد اكتفى بإعمال الذوق غير المكتمل، وغير المدرّب، وغير المشفوع بتعليل نقدي، للتوصل إلى نتائج خطيرة يضعها مكان الفرضيات التي تحتاج إلى براهين، الفرضيات التي تفضي إلى نتائج معللة .وأعني بالبراهين تلك التي تتجاوز ذوق دارس للشعر على مقاعد الدراسة.
لا أنكر هنا قيمة الذوق والتذوق، ولكن من اللافت أن كاتب المقال يبدي إعجابه (الشديد) بشعر الشريف الرضي بينما يجرّد شوقي من الشعر والشاعرية .بل إن هذا الإعجاب يصل حد القول بعنف أليق بحلبة للملاكمة أو المصارعة منه بالحديث عن الشعر، وذلك في معرض مفاضلته بين الشريف الرضي ومحمود سامي البارودي: “فالبارودي شاعر جزل جيد السبك يحسن اختيار العبارة ولا سيما إذا قارناه بجيله وأجيال كثيرة قبله سادت فيها المحسنات البديعية الفارغة والخواء الجمالي في القصائد .بيد أن من يدقق جيدا في شعر البارودي يدرك أنه ما هو إلا سطو مسلّح على شعر الشريف الرضي .البارودي لم يكن يستلهم الرضي بل يستنسخه بطريقة لا حياء فيها…”.
ويضيف: “وهو لم يقدم، بعد كل شيء سوى شعر تقليدي لا نشعر فيه بخواصه النفسية والاجتماعية بل هو شاعر عمودي مقلّد يكتب الشعر كما كان يكتبه أسلافه قبل قرون طويلة غابرة .أين البارودي؟… البارودي غير موجود! الموجود هو صدى للأقدمين لا أكثر ولا أقل..”.
***
تطرقت في مطلع قراءة النص إلى وجود أصولية طاغية تسيطر عليه، أصولية ذات منزع أيديولوجي .وأحسب أن المقاطع المستلة أعلاه تصلح للتدليل على حضور تلك الأصولية الصادرة عن أيديولوجيا جُزافية لا تطابق أيّ واقع تاريخي أو حقيقة نقدية أو معرفية يُعتدّ بها، أصولية تسعى لاستبدال “مركزية مصرية” آفلة بـ”مركزية عراقية” صاعدة تحل محلها.
وهذا لعمري منتهى العبث غير المسؤول .ففي هذا الفضاء البائس الذي نشهد فيه تدميرا منهجيا للوجود العربي والثقافة العربية، ويُدفع فيه بالطغيان الطائفي والجهوي والفئوي والقبلي إلى الصدارة، لم يعد من المقبول الكلام على مركزية تحتل مواقع مركزية أخرى .صحيح أن “المركزية المصرية” لم تعد مركزية فاعلة .ولكن هذا لا يعني تفضيل مركزية أخرى تحل محلها.
المطلوب بدلا من ذلك كله الحديث المعلل عن مدارس عراقية وشامية ومصرية ومغربية على نحو لا يتناقض مع دعاوى الحداثة التي مازلنا نتشدق بها .وإذا أردنا أن نكون حداثيين فإن علينا الاحتفاء بالتعددية والمغايرة والاختلاف.