أبعد من اليمين واليسار
لا أتكلم عن احتضار مفهوميّ اليمين واليسار لكي أوفق بينهما، ولا لكي اشدد على اختلافهما، وإنما أشير إلى أن هذا الاحتضار الذي نكاد نحن العرب المعاصرين نقتصر في رؤيته على الجانب السياسي فيه، ليس حدثاً جزافياً أو طارئاً.
وفي تقديري أن شبكة المفاهيم التي يثيرها جان فرانسوا ليوتار في كتابه: «الوضع ما بعد الحداثي» قد تصلح لإضاءة بعض تفاصيل هذا الاحتضار، وروزه وتفسيره.
يرى ليوتار أن العلم، الشكل المهيمن على المعرفة في فترة ما بعد الحداثة، بدأ يفقد مشروعيته على أرض الواقع مع اكتساب أشكال المعرفة الأخرى وعلى رأسها الدين، مشروعية خاصة بها كثيراً ما تبدو على الصعيد الشعبوي وكأنها بديل معرفي للعلم. لنقل إذن إن التفكير العلمي لم يعد يشغل المركز المسيطر كلياً. إزاحة التفكير عن المركز شكلت ما دعاه ليوتار بمجتمع ما بعد الحداثة. وقد كان أحد أهداف مفكري ما بعد الحداثة التشكيك بغائية التقدم وحتميته. بل إن بعض هؤلاء المفكرين لاحظ أن التغيير التاريخي الشامل صار يتجه إلى لامكان. فالماركسية، على سبيل المثال ترى أن التغير حتمي ويتجلى في انتقال المجتمع من الرأسمالية إلى الاشتراكية والشيوعية. ولكن هذا الضرب من التحول لم يعد مقنعاً لمفكري ما بعد الحداثة الذين رأوا فيه سردية عظمى تتناقض مع الواقع التاريخي الذي تمثل في عزوف الناس عن منح ثقتهم للعمل والسياسيين وحتمية التقدم بشكل عام.
وما يشهده العالم العربي من تدمير وتقسيم وتهجير وارتداد عصبوي معصوب العينين إلى الطائفة والقبيلة، يعزز هذه الرؤية السلبية إلى حد بعيد.
يصف ليوتار هذه التحولات بالقول إنها تمثل انهيار السرديات العظمى لتحل محلها سرديات صغرى. وتتمثل السرديات العظمى في قصص التحول الافتراضية المشبعة بأيديولوجيا التقدم والتي كانت توحي بثقة غير مشروطة للعلماء والاختصاصيين في مجال التطور الاجتماعي والحضاري والاقتصادي بشكل عام. وهكذا فإن العالم ما بعد الحداثي يدشن واقعا افتراضياً مغايراً للواقع الذي نعرف، واقعاً متشظياً تشغل فضاءه سرديات الصور المتداولة حول العالم في أفلام وبرامج تلفزيونية لا عد ولا حصر لها، وفي مواقع إلكترونية منتشرة على شاشات الانترنت. وفي هذا السياق المراوغ يطرح السؤال التالي: من يملك فكر التقدم وصناعته؟ اليسار المهزوم أو المنكفىء أم اليمين المسيطر على الأمر الواقع؟
الحال أن المثال السوري ربما يعزز صورة عن الأيديولوجيا التي تؤكد أسوأ ما في نظرية ما بعد الحداثة من أمشاج سلبية مهيمنة.
II
في تقدير جان بورديلار إن وسائط الاتصال الإلكتروني تمكنت فعلاً من خلق الفوضى واطلاقها ونشرها فقطعت بذلك العلاقة بقيم التقدم التي طرحتها الحداثة وأسهمت في موضعتها في موقع مركزي من الفكر. كما أن وسائط الاتصال الجماهيريMass Media دمرت الحدود القائمة بين الواقع وبين التمثيل عليه، مخلفة واقعاً افتراضياً واحداً نعيش فيه. وفي مثل هذا العالم يصير إدراكنا للأحداث وفهمنا للعالم الاجتماعي معتمداً على مشاهدة التلفزيون واستعمال وسائط الاتصال الجماهيري.
وهذا التوصيف المعبر عنه بلغة افتراضية ربما يفسر عنوان كل من دراستي بورديلار اللتين أثارتا قدرا كبيراً من الالتباس: «حرب الخليج لن تقع» و»حرب الخليج لم تقع».
والحال أن تقلقل التراتبية الطبقية وانحسار الفكرة المعتمدة للهوية وظهور جماعات متعددة الثقافات، هو الذي جعل مفكري ما بعد الحداثة يشيرون إلى أننا لم نعد نعيش في عالم حديث. فالحداثة في زعمهم باتت في حالة احتضار يعزز القول إننا دخلنا في فترة ما بعد الحداثة. صحيح أن الهوية الطبقية مازالت عنصراً مهماً يحدد الوضع الاجتماعي للناس، فضلاً عن الفرص المتاحة لهم في الحياة، إلا أن الهجرات، وأنا أتكلم هنا عن الهجرات العربية القسرية منها والطوعية، شرعت في صناعة توصيف جديد للهوية، مغاير ويختلف عما كان شائعاً قبل عقود. إدوارد سعيد يتحدث عن هوية قائمة على فكرة التبني Affiliation وهي هوية قائمة على الاختيار الشخصي بدلاً من الهوية الموروثة التي تفرض على المرء فرضاً بعملية التوريث. وفي قصيدة محمود درويش «طباق لإدوارد سعيد» صورة تصف هذا التحول الافتراضي بوضوح:
«والهوية؟ قلت
الهوية بنت الولادة لكنها
في النهاية إبداع صاحبها، لا
وراثة ماض. أنا المتعدد.. في
داخلي خارجي المتجدد، لكنني
أنتمي لسؤال الضحية، لو لم أكن
من هناك لدربت قلبي على أن
يربي هنا غزال الكناية».
هنا يتكلم محمود درويش الشاعر، رافع لواء غزال الكناية، لواء «البيان» الفردي، ليعيد موضعته مكان «التبيين» الجماعي. وهذه الصورة التي تنتصر لفكرة التبني القائم على الاختيار بدلاً من فكرة البنوة البايلوجية الموروثة ربما تجد قرينها التحليلي في كتاب أمين معلوف الذائع الصيت حول مشكلية الهوية.
ترى هل يفسر هذا التحول ما نشهده على صعيد العالم العربي من إشادة جزافية من قبل اليسار بالطبقة الوسطى؟
III
أخلص إلى القول إنه ليس من المستغرب أن مفاهيم ما بعد الحداثة مازالت خلافية المنزع. إلا أننا إذا أردنا اختزال عملية احتضار مفهومي اليمين واليسار فسنجد أن لا مفر من الإلماع إلى أن نزوعها الخلافي يعززه قول أنتوني غيدينز باستحالة تفسير الواقع الاجتماعي طالما أنه قائم على فكر الحداثة.
والحال أن فكرة اليمين واليسار ذات جذر أيديولوجي جلي. وهي تعود في أصولها إلى أواخر القرن الثامن عشر. وأما الآن فإن الأيديولوجيا ينظر إليها على أنها محايدة، أي ليست منحازة أو مضَلّلة. فهناك العديد من الأفكار في المجتمع التي يمكن روزها ودراستها ومقارنة كل منها بالآخر. وفي ثلاثينات القرن الماضي حاول كارل مانهايم إحياء هذه الفكرة في تصوره لتأسيس سوسيولوجيا المعرفة التي تربط بين بعض أنماط الفكر وبين قواعدها الاجتماعية. وقد رأى أن المعرفة يمكن انتاجها في سياقات طبقات اجتماعية مختلفة. ولهذا فهي لابد أن تكون جزئية، وبالتالي فإنه يتعين على سوسيولوجيا المعرفة التي يقترحها أن تجمع بين مختلف التمثيلات التي تتعلق بهذه الطبقات الاجتماعية لكي تقدم فهما أفضل للمجتمع ككل. ولكن القول بمفهوم محايد للأيديولوجيا لم يلق رواجاً آنذاك. واليوم من المتوقع أن يكون الاهتمام بقوة الأفكار وهيمنتها مستمداً من فكرة ميشال فوكو الخاصة بالخطاب، ومن علاقة المركز المسيطر بالهامش المسيطر عليه. وربما كان انفجار الشعبوية المنفلت العقال رد الفعل الفوضوي الذي يتصل مباشرة بانفجارات السرديات الصغرى.