النص العربي والآخر الغربي
أن يتكلم الباحث عن المواجهة بين أدبين متمايزين لا بد أن يقود إلى الكلام عن المثاقفة Acculturation، ذلك المصطلح الأثير لدى دارسي الأنثروبولوجيا الثقافية، والذي يشير إلى التأثير الذي تمارسه ثقافة أو (حضارة) معينة على ثقافة أخرى. غير ان «المثاقفة» ليست وحيدة الاتجاه دائماً. فهي حوار بين الذات والآخر، لا يتعين أن يكون من نتائجه أن تلتهم الثقافة أو (الحضارة) الأعظم ثقافة أو حضارة أقل شأناً منها.
ومع ذلك فالعلاقة بين الشرق والغرب أدت بدورها إلى نشوء ما يسمى بظاهرة الاستشراق التي إذا أهملنا جوانبها الإيجابية وأردنا الاقتصار على رصد تجلياتها المَرَضية، فلِا بد أن نجد أنفسنا إزاء ظاهرة النزعة المركزية الأوروبية أي دراسة الشرق باعتباره «الآخر» المغاير باستمرار. هذا الجانب من «المثاقفة»، المدجج بالسلاح، لا يهمني في هذا السياق، وإنما أود أن أستدعي بدلا من ذلك مصطلحاً عربياً من مصطلحات أبي حيان التوحيدي، هو «المقابسة»، أؤثره على سواه باعتباره يصلح للتعبير عن «المثاقفة» بما هي حوار حضاري بين الذات والآخر، ينطوي على مشروع للتبادل بين قبس من الثقافة العربية بقبس من ثقافة اخرى.
و»المقابسة» بهذا المعنى ربما كانت قريبة، بالهالة التي تحيط بها، من كلمةContraferentia التي صكها الاسباني يوحنا الشقوبي Jahn of Segobia في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، لتدشين فكرة «مؤتمر»،يكرس حواراً بين أوروبا والعرب، يستبدل السيف، بالقلم.
في إطار عملية «المقابسة»هذه، أود أن أسبر بعض جوانب المثاقفة بين جنسين أدبيين ينتميان إلى مفهومين متباينين في الأدب العربي والغربي.
أولا: هناك شكل قصصي ينتمي إلى سلالة الأدب العربي القديم، سأطلق عليه تجاوزاً مصطلح «الجنس الموسوعي »Encyclopedic Genre لأصف به كتباً من طراز كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني، وأخبار ابن دريد، و»نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة»للتنوخي، و»طوق الحمامة» لابن حزم الأندلسي، تشتمل على مزيج من الأجناس الأدبية كالأخبار والقصص المروية والقصائد. وهذا الشكل الموسوعي الذي يتطابق فيه مفهوم الأدب والتاريخ، ويكون فيه الأدب تاريخاً والتاريخ أدباً، يختلف جذرياً عن مفهوم القصةFiction كما تقدمه نظرية الأجناس الأدبية الكلاسيكية في الأدب الغربي، وهي النظرية التي تقوم على افتراضات اجتماعية وسيكولوجية اكتسبت صيغة القوانين المعيارية مع مرور الزمن.
ولهذا السبب فقد تعامل بعض النقاد العرب المحدثين كالدكتور طه حسين وجرجي زيدان مع هذا الشكل القصصي الموسوعي، ومثاله هنا كتاب «الأغاني» على انه مؤلف في التأريخ. بينما رأى فيه نقاد آخرون كالدكتور زكي مبارك كتابا في الأدب قبل أن يكون مؤلفاً في التاريخ.
ثانياً:هذا الشكل القصصي الموسوعي الذي يعتبر محوراً أساسياً في مفهوم الأدب العربي الكلاسيكي وجد طريقه إلى الأدب الغربي الحديث من خلال أعمال كاتبين قصصين هما الأميركي إرفينغ Washington Irvingوالأرجنتيني خورخي لويس بورخس .Jorge Luis Borgesفي عام 1832أصدر الكاتب الأميركي واشنطن إرفينغ كتابه «قصص الحمراء» ويعترف إرفينغ ان كتاب «نفح الطيب» لأحمد بن محمد المقري الذي ترجم إلى الانكليزية في عام1840 والذي يعتبر المصدر العربي الوحيد عن اسبانيا العربية الاسلامية، هو المصدر الذي استمد منه مادة كتاب «قصص الحمراء». وقد أشار إ .ل. رينلاغ E.L. Ranelaghفي كتابه «الماضي المشترك» إلى أن إرفينغ كان أول مؤلف أميركي يرحل بحثاً عن قصص واساطير يعتمدها اساسا لقصصه.لقد ذهب إلى غرناطة فوقع اسيرا لسحر الماضي هناك، وحصل على ترخيص من حاكمها، يسمح له بأن يقطن في قصر الحمراء لمدة ثلاثة شهور، بين أيار وتموز من عام.1829 وفي غرناطة استمع إرفينغ إلى مجموعة من رواة الحكايات ومنهم «ماتيو خيمينيز» الذي روى له أخباراً مصدرها جده الذي ولد قبل مائة عام، قال انه قرأها في كتاب عربي عن السحر، يشير إلى حكايات مغربية تتعلق بكنز مدفون.
إحدى قصص الحمراء هذه،عنوانها: المنجم العربي The Arabian Astrologer بل إن هناك إشارة محددة الى منارة مربعة في قادش، كان يعتليها فارس يتوكأ على عصا بيده اليمنى بينما تشير يده اليسرى إلى جبل طارق. وقد اعتقد السكان المسلمون العرب ان التمثال كان نذير شؤم ونحس وانه كان بمثابة الطلسم الذي يهتدي به القراصنة إلى الشاطئ، فيسارعون إلى غزوه. وعندما علم احد القادة البحريين المسلمين بأن التمثال مصنوع من الذهب الخالص، أمر بإنزاله وتحطيمه، فتبين له انه من النحاس المطلي بالذهب. والغريب في الأمر ان غزوات القراصنة توقفت بعد تحطيم التمثال.
بطل القصة هو الملك المغربي ابن حبوس Aben Habuz الذي حكم مملكة غرناطة والذي كان عليه التصدي لمنافسيه من الطامعين. ومما جعل الأمر أشد سوءاً ان غرناطة محاطة بجبال تحول دون رؤية العدو وهو يتقدم، فاضطر ابن حبوس إلى بناء البروج لمراقبة تحركات الأعداء. إلا انهم كانوا دائما يجدون المنفذ الذي ينفذون منه. وعندما زاره طبيب عربي اسمه ابراهيم بن أيوب جاء من مصر سيراً على الأقدام، بعد أن درس فيها «العلوم السوداء» ومنها «السحر» أصبح بمثابة الآمر الناهي في البلاط. فقد بنى له طلسماً سحرياً كان يشير بإصبعه إلى العدو عندما يراه من برج المراقبة الذي يعلو فوق الحواجز الطبيعية المحيطة بغرناطة، فيسارع قائده العسكري رضوان لإحباط أي هجوم على المدينة. يعلق الكاتب «على قصة «المنجم العربي» هذه بالقول ان العناصر الرئيسية فيها شرقية واضحة ولا تحتاج إلى التذكير بنفح الطيب أو بأي مؤلف آخر للمقري حتى تنكشف لنا مصادرها. إلا ان ما يشير إليه المصدر هو ان القصة، التي اعتمدت على عناصر إخبارية تسجيلية كأسماء الأماكن والأشخاص، تنتهج طريقة في الأداء هي أقرب إلى النص الذي اعتمدته الكتب التي تنتمي إلى سلالة الأدب العربي القديم كالأغاني ونفح الطيب. ولهذا فإن قارئ «واشنطن إرفنغ» لا بد أن يقع في الحيرة نفسها التي واجهها قراء الأصفهاني وابن خلدون والجاحظ والتوحيدي والمقري من النقاد المحدثين: هل يقرأ كتاباً في التاريخ أم قصة هدفها لا يتعدى حاجة حب الاستمتاع؟.
يرى الأنثروبولوجيون ان عملية المثاقفة التي تدخل في باب البحث في التاريخ الثقافي والعلاقة بين ثقافة غازية وأخرى مغزوة، يمكن أن تكون متبادلة. إذ لا حاجة دائماً للثقافة الأكبر حجماً أن تبتلع الثقافة الأصغر
من الواضح إن سبب الحيرة يعود إلى أمرين:
الأول: إن الناقد العربي الحديث ينطلق من نظرية كلاسيكية في الأجناس الأدبية هي بمثابة تنويع على الثيمة الرئيسية التي اعتمدها أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد.
والثاني:إن الناقد نفسه لا ينطلق من نظرية الأجناس الأدبية الحديثة التي تتسم بأنها وصفية بحتة، أي تحاول تجنب إعطاء تحديدات مفروضة مسبقاً، وبالتالي فإنها تسمح لنا بأن نصنف «المقامة» باعتبارها مقامة وليس باعتبارها قصة ناقصة أو غير مكتملة. وتسمح لنا أيضا بأن نقرأ كتبا على غرار «الأغاني» و «نفح الطيب» في ضوء طبيعتها الخاصة. لنقل إذن إن قصص الحمراء لواشنطن إرفنغ، أراد صاحبها ربما عن وعي منه لما يفعل، قد نسجت على منوال الأخبار التاريخية المبثوثة في الشكل القصصي الموسوعي لدى المقري، فما حصيلة ذلك؟
تبرز رداً على هذا التساؤل ملاحظتان:
الملاحظة الأولى هي أن النقاد العرب القدامى لم يكترثوا بالقصص التي لم تكن موثقة بأسماء المكان والزمان والرواة. فالتاريخ خبر، والخبر ينبغي أن يكون مسنداً وموثقاً، وهو باعتباره تاريخاً وأدباً، مصدر من مصادر المعرفة.الملاحظة الثانية هي أن هؤلاء النقاد أنفسهم لم يكترثوا كثيراً بالحكايات المخترعة على غرار ألف ليلة وليلة، باعتبارها لا تعتمد على سند تاريخي موثق، أو لأنها لا تتطابق مع حقيقة تاريخية موثقة.
ما هي في هذا المنظور، علاقة واشنطن إرفنغ بالتراث الغربي الأوروبي والأميركي، بعد أن تكشفت لنا علاقته بالتراث العربي.؟
لقد اعتبر واشنطن إرفنغ الذي ولد بنيويورك في عام1783وتوفي في عام 1859وكان رحالة مفتوناً بالشرق شأن كل الكتاب الرومانسيين الأوروبيين في تلك المرحلة، بمثابة أول كاتب أميركي يحوز على الاعتراف والتقدير الأوروبي في تاريخ الأدب الأميركي. فما هي علاقة إرفنغ بأوروبا.؟
إن قصة «المنجم العربي».التي استمدها إرفنغ من التراث العربي، لم تلبث ان تسللت إلى التراث الروسي عن طريق «بوشكين»1799-1837 الذي نظمها شعراً في حكاية الديك الذهبي The Tale of the golden cockerel إلا إنه على الرغم من أن بوشكين يذكر أن المنجم العربي كان يعتمر قبعات على غرار قبعات المغاربة المسلمين Saracen فإنه يقدم القصة دون خلفيتها الأندلسية. فهناك القيصر دودونDodonالذي يحكم بلداً لا يسميه بوشكين بالاسم. وهناك أيضا تمثال الفارس الذي ينتصب على مرتفع بغرناطة ليراقب الأعداء وليستحيل فيما بعد إلى ديك ذهبي لا يلبث أن يفتك بالقيصر. وقد قام ريمسكي كورساكوف بتلحين الثيمة نفسها في أوبرا «الديك الذهبي». وهكذا صرنا بعملية مثاقفة بين الأدب العربي والأميركي، وأخرى بين الأدب الأميركي والروسي، نقف «أمام سخرية مزدوجة»: فقد أصبح إرفنغ الأميركي ممثلاً للثقافة الشرقية، وبوشكين الروسي الذي يرفض النقاد السوفيات الاعتراف بالمصدر العربي لحكايته التي وصلته عن طريق الوسيط الأميركي: «ممثلاً للثقافة الغربية!».
دعونا ننتقل الآن إلى مستوى آخر من التفاعل أو المواجهة بين أدبين: عربي كلاسيكي وأميركي لاتيني حديث. بل لعلها بتعبير أدق، مواجهة بين أدب قديم يمثله فن الخبر عند العرب، وبين كاتب حداثي (نسبة إلى حركة الحداثة Modernism) أرجنتيني هو خورخي لويس بورخيس .Borges
والمفارقة في تجربة بورخيس الأميركي الجنوبي هذه انها بمثابة تنويع طليعي على تجربة واشنطن إرفنغ الاميركي الشمالي. إلا ان هذا لا يعود بطبيعة الحال، إلى وجود علاقة تأثر وتأثير بين الكاتبين وإنما يتأتى من أن مصادرهما في التراث العربي الكلاسيكي متشابهة، إن لم نقل مشتركة.
ولد الكاتب الأرجنتيني بورخيس في عام 1899 بمدينة بونس آيرس، وتلقى علومه في أوروبا حيث تعلم العربية، ونشرت كتاباته الأولى في المجلات الاسبانية الطليعية بعد الحرب العالمية الاولى. وفي عام1921أصدر بياناً أدبياً أعلن فيه تكريس تجربته الفنية للتجريب. اضطهد خلال حكم بيرون ثم شغل منصب مدير المكتبة الوطنية وقام بتدريس اللغة الانكليزية. وعلى الرغم من أنه أصبح مصاباً بالعمى الكامل تقريباً قبل وفاته، فإنه ظل أبرز علم في أدب أميركا اللاتينية.
نال في عام 1961جائزة الناشرين الدولية بالاشتراك مع الكاتب الايرلندي صمويل بيكيت. كما منحته مؤسسة «إنغرام» البريطانية جائزتها السنوية عن عام 1966تقديراً لإسهامه:»المتميز في الأدب الحديث» وقبل سنوات منح الدكتوراه الفخرية من جامعتي أوكسفورد وكولومبيا ووصفته صحيفة التايمز بأنه: «أعظم كاتب في اللغة الاسبانية اليوم».
ويمكن رصد العلاقة بين فن القصة لدى بورخيس وبين فن الخبر لدى العرب من ضمن منظور نقدي تحدده الاعتبارات التالية:
أولاً: ابتكر بورخيس جنساً طليعياً أطلق عليه اسم Ficcion وهو يجمع بين القصة والمقالة أو بالأحرى يقوم بعملية دمج بين القصة والخبر، أو بين الأدب والتاريخ.
وأحب أن أزعم بأن أسس الآداء الفني في هذا الجنس الأدبي قد استفادت من تجربة التراث القصصي العربي. وتشتمل هذه التجربة التراثية على عدد من العناصر التي تميز ابتكار بورخيس لجنسه الأدبي الطليعي، سواء من حيث علاقة الأدب بالتار يخ على صعيد الثيمة Theme أو من حيث علاقة القصة بالخبر على صعيد نمط الأداء.
ثانياً: يطرح بورخيس نفسه كاتباً عالميا ً «كوزموبوليتياً» أو هو يعتبر أن الجمهور الذي يخاطبه جمهور عال غير محلي وغير زمني (أي غير محدد بفترة تاريخية معينة).
ولهذا فمادة الكتاب كثيراً ما تعتمد على مصادر عربية وإسلامية. وقد كانت ألف ليلة وليلة وكتب الأخبار العربية وكتب التاريخ الإسلامي من المصادر الأثيرة لديه، كما تدل على ذلك:
ا - بعض قصصه.
ب - بعض تصريحاته المباشرة بهذا المعنى.
جـ - بعض التقويمات النقدية التي تشير إلى مكوناته الفكرية والثقافية.
ثالثاً: في منتصف القرن الثامن عشر بدأ ظهور تأثير ألف ليلة وليلة على الأدب والنقد في أوروبا، فلم تعد المقاييس الفنية للعصر الأوغسطي هي المقاييس السائدة في التقييم النقدي. وهذا أدى بدوره إلى تزايد الاهتمام بالدراسات الشرقية والفولكلورية وطرق السرد القصصي العربية والإسلامية من سيرة وتأريخ وخبر.
ويشكل أدب بورخيس كما يتمثل في ابتكاره للجنس الطليعي، الذي مزج فيه بين الخبر والقصة، مثالاً بارزاً على الأثر الذي أحدثه تجدد الاهتمام بالرومانسية وتناقص الاهتمام بمقاييس العصر الأوغسطي الفنية من قبل النقد والأدب الأوروبيين، والالتفات الواعي للآداب الشرقية.
رابعاً: يرى الأنثروبولوجيون ان عملية المثاقفة التي تدخل في باب البحث في التاريخ الثقافي والعلاقة بين ثقافة غازية وأخرى مغزوة، يمكن أن تكون متبادلة. إذ لا حاجة دائماً للثقافة الأكبر حجماً أن تبتلع الثقافة الأصغر. وهذا يوضح بجلاء ان علاقة التأثير والتأثر ليست علاقة قوة بضعف دائماً .ومن البديهي ان المؤثرات العربية الإسلامية في فن بورخيس القصصي تُخرج مفهوم المثاقفة في صورته السلبية كتعبير عن السيطرة السياسية لثقافة قوية على ثقافة أضعف منها. ذلك أن عنصر الاختيار الشخصي لدى بورخيس يلعب دوراً هاماً في تحديد أسس علاقته بالثقافة العربية الإسلامية.
وعلى أية حال لا أرى ان مجالنا الآن البحث في التاريخ الثقافي، وإنما سنعمد إلى النقد الأدبي المقارن سبيلا لإستقصاء العلاقة بين فن بورخيس القصصي وبين فن الخبر العربي.
ومن هذا المنطلق ينبغي أن نميز بين ثلاثة مستويات من علاقة المواجهة بين بورخيس وبين الثقافة العربية والإسلامية.
المستوى الأول: ويتعلق بأضعف أنواع العلاقة بين ثقافتين أدبيتين وهو الانعكاس Reflection والمقصود بالانعكاس ظهور أسماء وموضوعات عربية وإسلامية أو مستمدة من التاريخ العربي والإسلامي في أدب بورخيس .
المستوى الثاني: ويتعلق بالتفاعلInteraction بين ثقافتين أدبيتين. والمقصود من تلك العلاقة السمات الاسلوبية المتعلقة بالنسيج الفني Texture والتي يمكن أن نشير إلى ان أبرزها بلورة بورخيس، متفاعلاً مع فن الخبر عند العرب،لأسلوب رياضي (نسبة إلى رياضيات) يعتبر القص طريقة إبلاغية الخبر الصحفي المعاصر .
المستوى الثالث: ويتعلق بالتأثير Influence وعلاقة التأثير هي من أشد المستويات بروزاً وتألقاً بالمعنى النقدي للبحث المقارن.
ولن أعمد إلى الاقتراب من هذا المستوى من العلاقة نظراً لأنه يتطلب أدوات في السبر والبحث ليست متوفرة في هذا السياق، وتتعلق بالتاريخ الثقافي والأنثروبولوجيا قدر ما تتعلق بالنقد الأدبي.
لوحة: بكري الدوغري
الأدب والتاريخ
يرى النقد الأدبي منذ أرسطو ان الأحداث تحدث جزافاً، أي على نحو غير قابل للحدوث. وقد بين في كتابه «فن الشعر» ان من الأفضل ان تعتمد المأساة على التاريخ أو الأسطورة. ذلك ان الجمهور على استعداد للقبول بما يعلم أنه حدث فعلاً أ كثر مما هو مستعد للقبول بقصة من الجلي انها من نسج الخيال. وتقوم نظرية أرسطو على افتراض مفاده ان عواطف جمهور المأساة من خوف وشفقة لا يمكن إثارتها عن طريق عقدة من حوادث لا يعتقد الجمهور بإمكان حدوثها. ولهذا فقد رأى أرسطو ان من الأهم أن تكون الحوادث قابلة للحدوث أو التصديق من أن تكون قد حدثت فعلاً.
وبعبارة أخرى فإن أرسطو يرى ما معناه انه عندما يكون على الكاتب أن يختار بين الدقة التاريخية الحرفية وبين تأثير مقطع ما أو قيمته المضمونية أو الأدائية، فان عليه أن يكون على استعداد لأن يضحي بالدقة التاريخية. غير ان تجربة بورخيس لا تعتمد على وجود مثل هذا التعارض المفترض بين الحرفية التاريخية وبين الفنية القصصية القائمة على إمكانية الحدوث. فهو: «لا يستخدم الماضي لإبعادنا عن الحاضر وإنما لإبعادنا عن المنظورات الوهمية التي تجعلنا نميز بين الماضي والحاضر». ولكنه يلجأ من أجل تحقيق ذلك إلى الاعتماد على التاريخ، فيبحث عن الأبطال غير المعروفين والأبطال الثانويين محاولاً إيجاد أقنعة وصور للحداثة.
وهكذا يصبح التعارض المفترض بين الأدب والتاريخ شيئاً وهمياً. بل إنه يستحيل لدى بورخيس إلى مزيج يكرر بأداء طليعي تجربة الخبر في التراث العربي.
إن أخبار ابن دريد الذي يرجع الفضل في الكشف عن محاولاته في النثر الفني إلى زكي مباركلا تضع حاجزاً بين الأدب وبين التاريخ. ولهذا فهي ترى القصة خبراً وتعتمد في صياغة الخبر على الأبطال المعروفين وغير المعروفين، تماماً كما فعل بورخيس.
كما ان كتاب الأغاني لأبي الفرج الاصفهاني المتوفىفي عام 356)هـ) يمثل أفضل نموذج للكتاب الذي يصعب فيه الجزم ما إذا كان أدباً أم تاريخاً أم الأثنين معاً .
يرى زكي مبارك ان كتاب الأغاني كتاب أدب لا كتاب تاريخ. ويرى أيضاً ان الاعتماد على كتاب الأغاني ككتاب في التاريخ قد أدى بجرجي زيدان في كتابه «تاريخ آداب اللغة العربية» وطه حسين في «حديث الأربعاء» إلى الحط من أخلاق الجماهير في عصر الدولة العباسية، وحملها على الحكم بأن ذلك العصر كان عصر شك وفسق ومجون.
ولكن ألا يشير الاختلاف بين زكي مبارك وطه حسين وجرجي زيدان في تصنيف الكتاب إلى انعدام وجود حد فاصل بين الأدب والتاريخ في تجربة «الأغاني» وسواه من كتب الأخبار في التراث العربي؟
وإذا كانت أهمية ابتكار بورخيس لجنسه الأدبي تكمن في المزج بين الخبر والقصة وبين الأدب والتاريخ، فإن الأغاني يمكن أن ينظر إليه من منظور نقدي معاصر على انه يقدم نموذجاً مبكراً لما فعله بورخيس، سواء تأثر بالأغاني أو تفاعل معه، أو مع سواه من المؤلفات العربية، مما يتوجب على البحث المقارن أن يثبته أو ينفيه.
ومن المفيد أن نذكر هنا بما يراه المفكر الاسباني المعاصر أونامونو (1936-1864) من ان التاريخ Historia يعالج السجل السطحي للأحداث العظيمة، وان علينا الاهتمام بما يسميه Intrahistoria أي التاريخ الذي يشكل نسيج الثقافة الذي يحدده التأريخ اليومي للناس.إن رأي أونامونو هذا، يكاد يشكل صياغة نظرية لما فعله تراث الخبر عند العرب، ذلك التراث الذي تنعدم فيه الحدود بين الأدب وبين التاريخ.
ومهما يكن من أمر فإن بورخيس يعود في مصادره إلى المفهوم الواسع للأدب العربي بما فيه من تراث في ميداني التاريخ والفلسفة، كما سنرى في بحثنا لمصادر بعض قصصه. وقد سبق للدكتور شكري فيصل في كتابه «مناهج الدراسة الأدبية:عرض ونقد واقتراح» ان دعا للعودة إلى هذا المفهوم الواسع للأدب العربي بقوله: «في النظرية التي نريد ان تقوم عليها الدراسة الأدبية يجب أن ننتقل بالأدب من دائرته الضيقة إلى أوسع دوائره، أعني من معناه الخاص إلى معناه العام، فلا نفهم منه هذه النماذج النثرية وهذه القصائد الشعرية وهذه التوقيعات والخطب، وهذه الرسائل والكتب، ولكننا نتجاوز ذلك إلى آفاق أخرى هي من الأدب أيضاً.. غير ان سير التاريخ الأدبي أشاح عنها مهملا لها وتركها غير ملتفت إليها.وكان من أقرب نتائج هذا الاهمال اننا أفقرنا الأدب لأننا اقتصرنا فيه على هذا القصيد والنثر الفني فلم نصل بينه وبين الآفاق الفكرية الواسعة في التاريخ أو الفلسفة أو التصوف إلا نادراً.»
بعض مصادر بورخيس
أ - في مقالته المسماة «مقالة سيرة ذاتية» يشير بورخيس» إلى انه كان يقرأ ويكتب لمدة خمس ساعات في اليوم طوال تسع سنوات،وذلك في أحد فروع المكتبة الوطنية حيث يعمل. ولم يلبث أن أعد في الجامعة محاضراته عن سويدنبرغ وبليك والصوفيين الصينيين والبوذية والليالي العربية (الف ليلة وليلة.)
ب - ويستــرجع ويليــس بارنستــون ذكــرياته مع بــورخيس في الأعوام (1965-1967) فيشير إلى ان الكاتب والشاعر الكبير، بعد قراءة لبعض أعماله في «المركز الشعري بنيويورك»، «تحدث على نحو مسهب عن العالمين اليوناني والإسلامي في منطقة آسيا الصغرى».
جـ - ويشير بارنستون إلى ان بورخيس: «يشحن اللغة الاسبانية باستمرار بالخصائص الأسلوبية والموضوعية للكتاب الانكليز ولألف ليلة وليلة».
د - إذا لم يكن كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الاصفهاني دقيقاً كمصدر تاريخي، فإن السبب في ذلك يعود إلى ان المؤلف يستخدم أسلوب الخبر لا ليشحن النص بإمكانية الحدوث كما هو الشأن في القصة الأوروبية و إنما ليجعل القارئ مجابهاً بحدث وقع وأصبح تاريخاً.
ويلجأ بورخيس إلى اللعبة ذاتها.. بل إنه كثيراً ما يخلق شخصيات لا وجود لها أو هي موجودة ولكنها غير معروفة أو غير مشهورة كما جاء في شخصية «ابن حقان البخاري» الملك العظيم سابقاً والذي طوقت جيوشه ولم يبق أمامه إلا أن ينهزم إلى البحر.
وفي كتابه «محادثات مع بورخيس» يورد المؤلف ريتشارد بورغين قول «بورخيس»:
«الحق إنني أفضل الشخصيات الثانوية. أو إذا لم أفعل ذلك فإنني أكتب عن سبينوزا أو إمرسون أو شكسبير أو ثرفانتس. هذه الشخصيات رئيسية ولكنني أعالجها بطريقة تجعلها كالشخصيات الخارجة من الكتب بدلاً من أن تكون شخصيات رجال مشهورين».
وهكذا يفعل بورخيس بشخصيات عربية كشخصية الفيلسوف العربي الشهير ابن رشد في قصة «بحث ابن رشد» أو شخصية الخليفة المعتصم في قصة:»الاقتراب من المعتصم».
بل إنه يقرر في الأمثولة أو الصورة التي وضع لها عنوان «مشكلة» أن شخصية «دون كيشوت» ذات أصل عربي.
ولا ندري ما إذا كان اسم سيد حامد بنغيلي الذي يقول ان مؤلف دون كيشوته قد استمد شخصيته منه، له وجود في التاريخ الأندلسي أو المغربي، أم ان بورخيس يخترع ما يجعله يبدو حقائق تاريخية، لكي يستمر في لعبة تحطيم الحاجز بين الأدب والتاريخ. يقول بورخيس في حكايته التي أطلق عليها اسم «مشكلة»:
«دعونا نتخيل انه اكتشف في طليطلة رقعة من الورق تتضمن نصاً بالعربية أعلن دارسو الخطوط القديمة انه مكتوب بخط يد «سيد حامد بنغيلي» الذي استمد منه ثرفانتس «دون كيشوته». في ذلك النص نقرأ ان البطل (كما هو شائع، تجول في طرقات اسبانيا مسلحا بسيف ورمح وتحدى الجميع لغير ما سبب)،يكتشف بعد عدد من المعارك، انه قتل رجلاً. عند هذه النقطة تنتهي الجذاذة. والمشكلة هي أن نحزر أو نحدس كيف سيكون رد فعل دون كيشوته».
وفي القصة التي يسميها بورخيس: «بحث ابن رشد» يستعير طريقة «الاسناد» التاريخي التي تميزت بها كتب التراث العربي، فيقول في مطلعها:
«كان أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد (استغرق الأمر قرناً لكي يصبح هذا الاسم الطويل أفيروس وافزيز وحتى ابن رشاد وفيليس/ وساديس) يكتب الفصل الحادي عشر من كتابه «تهافت التهافت» الذي أعلن فيه، خلافاً للناسك الغزالي، مؤلف (تهافت الفلاسفة)،ان الألوهية لا تعرف إلا النواميس العامة للكون، تلك التي تتعلق بالأنواع ولا تتعلق بالفرد.
كان ابن رشد يكتب بوثوقية بطيئة من اليمين إلى اليسار». «كان ثمة فضاء غير مرئي يتصاعد منه صوت خرير نبع كان ابن رشد الذي جاء أجداده من الجزيرة العربية، ممتناً لاستمرار مياهه»!
الأغسطية والشرقية
الأغسطية كما هو معروف، هي النزعة الفنية التي تنتسب إلى العصر الأغسطي الذي يمثل الفترة الكلاسيكية في الحياة الأدبية لأمة ما. وينسب الاصطلاح إلى الامبراطور الروماني أغسطس27)ق. م-41ب. م) الذي اشتهر في عهده كل من فرجيل وهوراس وأوفيد. وفي انكلترا يغطي هذا الاصطلاح فترة كل من بوب وإديسون حتى يصل إلى درايدن.
ومقابل الأغسطية التي تحتفي بطرق الأداء الكلاسيكي،تبرز النزعة الشرقية التي تتجلى في «ألف ليلة وليلة». وقد كان لترجمة «ألف ليلة وليلة» أو «الليالي العربية» إلى الآداب الغربية الأثر الواضح على اكتشاف الأدب الأوروبي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر لطرق مختلفة في الاداء الفني ولمقاييس مغايرة في النقد الأدبي. بل إن محرر موسوعة كاسل للأدب العالمي يشير إلى ان الإلفة مع (الليالي العربية) ساعدت على بروز اتجاه عام في الأدب الأوروبي نحو الاهتمام باكتمال البنية في القصة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وهكذا تبلور لدى بورخيس نوع من الأداء الفني الذي يعتمد على الأسلوب الرياضي المختزل، ويتصل اتصالاً وثيقاً بفن الخبر في التراث العربي. ومن خصائص هذا الأسلوب الرياضي، الاقتصار على رواية الحدث كما هو الشأن في كتابة التاريخ. ومن خصائصه أيضاً، عدم وجود أوصاف زائدة تعرقل أو تعيق عنصر التشويق في القصة، وذلك خلافاً للمنحى الذي تبلور في اتجاهه جزء كبير من الفن القصصي لدى الأوروبيين.
لقد ذكرت أن ثمة ثلاثة مستويات من العلاقة بين بورخيس وبين مصادر الثقافة العربية الإسلامية في آسيا الصغرى، هي الانعكاس والتفاعل والتأثير.
ولدى الحديث عن بعض مصادر بورخيس العربية والإسلامية تعرضت لمستوى التفاعل بشكل خاص. غير ان المستوى الأول المتعلق بتجربة الانعكاس لا يقتصر على ظهور الأسماء والموضوعات العربية والإسلامية في أدبه، وإنما يتعدى ذلك إلى ظهور مواد تاريخية وميثولوجية مأخوذة مباشرة من التراث العربي الإسلامي دون تحوير قصصي. ولعل كتاب »الكائنات الخيالية» هو من أبرز الكتب التي تسنى لنا الإطلاع عليها. وكان لإنعكاس المادة التراثية العربية الإسلامية فيه، سواء على صعيد التاريخ أو على صعيد الخرافة او على صعيد الاسطورة، وضوحه الشديد بحيث يستطيع الباحث أن يجزم بسعة اطلاع بورخيس على التراث العربي الإسلامي وبدقة هذا الاطلاع.
إن كتاب »الكائنات الخيالية» هو مجموعة من الأخبار والقصص والحوادث المقتطفة من كتب التراث العربي الإسلامي والأوروبي الوسيط والمعاصر، نختار منها الأمثلة التالية التي تكشف عن بعض مصادر بورخيس:
-1 خبر «الحمار ذي الأرجل الثلاث» ويعود فيه بورخيس إلى الطبري.
-2 خبر الكائن الخرافي المسمى «البهموت» وهو يعتمد على مصادر في الميثولوجيا العربية الإسلامية وألف ليلة وليلة.
-3 الخبر المتعلق بالجن، ويعود فيه الكاتب الأميركي اللاتيني إلى القرآن الكريم ومصادر إسلامية أخرى.
-4 الخبر المتعلق بالنسناس، ويعتمد فيه المؤلف على مصادر عربية تراثية ومنها ألف ليلة وليلة.
-5 الخبر المتعلق بطائري الرخ والعنقاء الخرافيين، الذي يستمد الكاتب مادته من الأدب والتأريخ العربي.
-6 يظهر إطلاع بورخيس على تراث المتصوفة المسلمين في الخبر المتعلق بطائر «السيمرغ» الخرافي الذي قرأ عنه المؤلف في كتاب «منطق الطير» للشيخ فريد الدين العطار.
هذه الأخبار التي تشكل جزءاً ملموساً من المادة التاريخية والأسطورية والتراثية العربية الإسلامية التي اعتمدها بورخيس هي من التنوع والتعدد بحيث تذكرنا برأي الناقد الإنكليزي جيمس آربي في مسألة مصادر بورخيس. يقول آربي:
«إن بورخيس سريع دائماً في الاعتراف بمصادره. ذلك انه لا يوجد أحد يستطيع ادعاء الأصالة في الأدب. فكل الكتّاب هم الى حد بعيد أو قريب نُساخ أمناء للروح، مترجمون وشراح لأنماط أسطورية عليا كانت قائمة من قبل».
مسألة الأصالة والأصيل
هكذا تصبح قضية المثاقفة، أو المواجهة بين أدبين متمايزين، أو العلاقة بين تراث عربي يعود إلى العصر الوسيط وبين أدب أميركي شمالي حديث ممثلاً بإرفنغ وأدب أميركي جنوبي حداثي Modernist ممثلاً ببورخيس، بحثاً يتجاوز في أطره علم الأدب المقارن ومفهوم الأدب العالمي والآداب القومية، ليرتد إلى التشكيك في الأصول.. إلى صميم مسألة الأصالة والأصيل.
المصادر:
الشمعة خلدون، «النقد والحرية» دمشق 1977 (ص130-131)
Ranelagh E. L. «The Past we share» London 1979
المصدر السابق
أنظر تفصيل هذه النقطة في كتابي «الشمس والعنقاء: دراسة نقدية في المنهج والنظرية والتطبيق». ص61
وذلك في معرض مناقشة كتاب حسين مروة: «دراسات في ضوء المنهج الواقعي»، دمشق 1974.
white. j. E. Manchip, «Anthropology», London 1967
ربما كان كتاب «نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة» لأبي علي التنوخي ٣٨٤ هـأدل كتاب في فن الخبر عن العرب.
من المحاولات الشبيهة بمحاولة بورخيس في مجال المزج بين الخبر والقصة، ما أسماه الناقد المعروف جورجشتاينر في كتابه «اللغة والصمت» بـالجنس الفيثاغورثي. أنظر: Language& Silence, London, 1969
انظر: Lemon, Lee «Approaches to Literature», New York, 1968
أنظر: مجلة الادب المقارن عدد شتاء 1977 منشورات جامعة اوريغون Barnstone, Willis,»Real& Imaginary History in Borges»
أنظر: «النثر الفني في القرن الرابع الهجري ـ الجزء الأول» ص246
المرجع السابق
أنظر كتابه بالإنكليزية: The Aleph & Other stories
Burgin, Richard, «Conversations with Borges» New York, 1970
«The Book of Imaginary Beings»