العولمة الأولى
أعترف أنني ما إن شرعت بالتفكير في كتابات الرحالة العرب وعلاقتها بالصين والبلاد الواقعة إلى الشمال الأوروبي القصيّ من الشرق العربي الإسلامي والتي كان يطلق عليها اسم بلاد الظلمة، وما إن بدأت أفكر في تفعيل عملية قراءة نقدية لبعض هذه الكتابات التي تدور حول العلاقة بالآخر، حتى شعرت أنني لا أخوض في أرضية القرن العاشر والحادي عشر والثاني عشر، بل أراوحُ في الزمن الحاضر مستدعياً ما سأدعوه بعولمة الماضي أو العولمة الأولى.
ولكن لماذا أستهل حديثي بالإشارة إلى اعتراف؟ الجواب هو أن العولمة مفهوم معرفي وتاريخي حديث، مفهوم يحيلنا إلى مطابقة افتراضية بين زمنين نفترض أن واحدهما مغاير للآخر. ولهذا أعترف أن نفي وجود مغايرة بين زمنين متباعدين ربما كان منافياً للمنطق أو حتى الفطرة السليمة. ما أود أن أقوله إن العولمة مفهوم حديث يعود إلى القرن التاسع عشر. ماركس يربط بين العولمة وبين نزوع الرأسمالية إلى التوسع، ودوركايم ينسبها إلى انتشار فكرة تقسيم العمل. وأما دخول مفهوم العولمة بمعناه الراهن إلى المعاجم والقواميس فيعود إلى العام 1961. ولم يصبح المصطلح رائجاً حتى ثمانينات القرن الماضي. وإذا أردنا العثور على تعريف عملي للعولمة بتأويلها الاقتصادي أمكن القول إنها حصيلة تطورات قرّبت الجماعات البشرية بعضها من البعض الآخر، من التباعد إلى التماس، فتكوّن بذلك مجتمعٌ موحد، مجتمع عولمي أو شبه عولمي.
فما الذي يحول دون الزعم بوجود ضرب من العولمة البدائية في الماضي؟
الحال أن السبب الذي يحفزني على التماس هذا الضرب من العولمة، العولمة الأولى، عند الكلام على الرحالة العرب، أن محورها هو طريق الحرير.
طريق الحرير هو أحد أقدم الطرق التجارية التي تربط بين الصين والشرق الأوسط والغرب. وهذا الطريق كانت تمرّ عبره البضائع والأفكار بين حضارات عظيمة هي الحضارة الصينية والرومانية أولاً ثم الحضارة الصينية والعربية الإسلامية وأوروبا. وهكذا كان ينتقل الحرير غرباً، والصوف والذهب والفضة شرقاً، ويكون هذا الانتقال مشفوعاً بتبادل في الأفكار.
يبدأ طريق الحرير من “سيان” في الصين ويبلغ دوله 6400 كيلومتر. وهو يمر بمحاذاة سور الصين العظيم ويتجه إلى الشمال الغربي ماراً بصحراء “تاكلاماكان” صعوداً إلى جبال “باميرز″ عبر أفغانستان، ووصولاً إلى بلاد الشمال حيث تنقل البضائع بحراً من هناك.
ومع بروز دولة الخلافة العربية صار الرحالة والتجار العرب في القرنين الثالث عشر والرابع عشر على رأس عملية التبادل التجاري والثقافي هذه. وقد كانت تجارة الإمبراطورية الإسلامية مع الصين كبيرة جداً. فمن موانئ البصرة على الخليج العربي وعدن على البحر الأحمر كان التجار والرحالة ينتقلون إلى الهند وسيلان وجزر الهند الغربية والصين حاملين الحرير والتوابل والأخشاب للاستهلاك المحلي أو لإعادة التصدير. وأما الطرق البديلة إلى الهند والصين وهي التي تحدث عنها الرحالة في كتاباتهم فهي تمر عبر آسيا الوسطى.
وتشير المصادر إلى أن البضائع المنقولة من الصين كانت تشمل التوابل والحرير وأدوات الطعام والورق والحبر والطواويس والجياد والسروج. بل إن الأصقاع النائية التي طرقها الرحالة والتجار العرب ربما تفسّر حقيقة العثور على نقود سويدية اعتمدت الدرهم العربي من حيث الوزن، فضلاً عن وجود كلمات عربية في مكان غير متوقع هو الأدب الأيسلندي. وربما كانت عبارة “القرية الكونية” التي صكها ماكلوهان في خمسينات القرن الماضي للدلالة على نشوء عصر عولمي حديث ذات جذور يمكن إحالتها بشيء من إعمال المخيلة إلى القرن العاشر الميلادي وما قبله.
ويمكن القول إن جغرافية طريق الحرير في تلك الفترة شملت دولاً ومجتمعات وأقواماً متداخلة، وأنها لا تشير إلى حدود مرسومة وثابتة. فالكلام على حق القوة بلغة الواقع ربما كان أدق آنذاك من الكلام على قوة الحق بلغتنا الافتراضية.
آية ذلك أنه لا بد لدى الحديث عن رحلات الرحالة العرب إلى الصين شرقاً من التوقف عند بعضهم في سفره إلى الشمال. ولا شك عندي أن أحد أهم هذه الرحلات رحلة ابن فضلان الذي أرسله الخليفة العباسي المقتدر بمهمة دبلوماسية إلى بلاد البلغار. كان ذلك في العام 922 الميلادي. وقدم ابن فضلان في تقريره عن الرحلة وصفاً موضوعياً دقيقاً لعادات الفايكنغ ولباسهم وأخلاقهم عند الطعام، وديانتهم وممارساتهم الجنسية. وكان هذا الوصف الأول من نوعه.
وهكذا تحقق اللقاء بين ممثلي عالمين شديدي الاختلاف وذلك تبعاً لتطورات دينية وسياسية واقتصادية أعقبت تشكل الإمبراطورية الإسلامية التي كانت في العام 711 وتمتد من إسبانيا إلى حدود الهند. ومع تسنّم العباسيين السلطة في العام 751 تشكلت شبكة من الطرق البحرية والبرية التي ربطت بين أوروبا والصين لأول مرة منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية. وفي العام 800 تقلد شارلمان مقاليد الحكم في الإمبراطورية الرومانية المقدسة وتسلم من هارون الرشيد ساعة حائط وفيل على سبيل الهدية والتي شحنت إلى بيزا بإيطاليا من ميناء في شمال أفريقيا.
لا شك أن الطرق البحرية والبرية بين الشرق والغرب صارت سالكة في هذا التاريخ المبكر. كما أن بغداد التي أنشئت في العام 763 وانطلق ابن فضلان منها في رحلته صارت عاصمة الإمبراطورية العباسية. وكانت هي المدينة الأكبر والأغنى إلى الغرب من الصين. ولم تكن تنافسها من حيث الثروة والحجم سوى قرطبة عاصمة الأندلس.
ونظراً لأن بغداد هي العاصمة الإمبراطورية متعددة الثقافات واللغات فقد صارت مركزاً تجارياً وثقافياً فضلاً عن كونها مركزاً إعلامياً يحتوي على خزين معرفي وإخباري عن الشركاء التجاريين البعيدين كالهند والصين والأرخبيل الإندونيسي. وقد عزز ذلك عمل الجغرافيين العرب المتمركزين في بغداد والمدن العربية الأخرى.
وتذكر المصادر أن أقدم وصف للطرق التي تربط بين مقاطعات الدولة العباسية وبغداد العاصمة أنجزه ابن خرادبه وذلك في مؤلفه “كتاب المسالك والممالك” الصادر في العام 885. كما تضمن الكتاب مادة تعود إلى القرن التاسع وتشير إلى رحلات بين أراضي الفرنجة إلى الصين وبالعكس.
وفي مصدر آخر لإبراهيم بن يعقوب صدر في القرن العاشر تفاصيل موثقة عن التجارة بين أوروبا العصور الوسطى والشرق.
وربما كان أبو حامد الأندلسي الغرناطي (1130-1155) هو الرحالة الوحيد الذي يمكن القول، كما يرى الباحث البريطاني بول لند، إن رسالته “تحفة الألباب” تنطوي على أهمية مماثلة لرسالة ابن فضلان. وأعتقد أن كتابات الجغرافيين والمؤرخين والرحالة العرب والمسلمين يمكن أن نتقرّى فيها مادة علمية ترقى إلى مستوى “الأنثروبولوجيا”. وهي تمثل نتاجاً بالغ الضخامة وما زال بحاجة إلى الاكتشاف والرّوز والدراسة من قبل باحثين مكرسين للبحث في أدب الرحلات واستخراج ما يصلح منه للدرس الأنثروبولوجي والفيلولوجي والأسطوري. فهناك على سبيل المثال “كتاب الخراج وصنعة الكتابة” لقدامة بن جعفر الذي أُلف بين عامي 928-932 وفيه فصل عن الإسكندر ذي القرنين يمكن اعتباره نموذجاً لما يدعى بـ”أدب الرومانس″ المكرس لأساطيره. ومن المعروف أن الرومانس هو ضرب من الأدب القصصي الخاص بالقرون الوسطى، قوامه الأسطورة والبطولة والحب.
ولكن الإسكندر التاريخي كما يرى بعض الباحثين هو غير الإسكندر ذي القرنين. فقد وجد بين 365-323 قبل الميلاد. وكان معاصراً لفترة تعرف في تاريخ الصين بفترة الدول المتحاربة التي بدأت عام 475 ولم تنته حتى عام 221 قبل الميلاد. هذا الإسكندر التاريخي لم يصل إلى الصين.
ومن المصادر الأخرى التي سبق أن أشرنا إليها “كتاب المسالك والممالك” لابن خرادبه الذي عمل لسنوات مديراً للبريد، وكان صديقاً للخليفة المعتمد الذي حكم خلال الأعوام 870-982، وقد كتب ابن خرادبه عن النظرية الموسيقية والأدب والجغرافيا. ويعتبر كتابه أحد أبكر الأعمال التي عثر عليها والتي تضمنت جغرافيا وصفية باللغة العربية. وقد قام الجغرافيون ومنهم الاصطخري وابن حوقل والمقدسي بتطوير هذا الضرب من البحث الجغرافي مستفيدين من كتابات الرحالة الذين زاروا الهند والصين وبلدان الشمال الأوروبي القصيّ.
ويشير كل من بول لند و كارولين ستون في كتابهما المكرس لرحلة ابن فضلان ورحلات أبي حامد الأندلسي الغرناطي، إلى أبي عبدالله محمد ابن أبي بكر الزهري وهو جغرافي أندلسي آخر له مؤلف بعنوان “كتاب الجغرافيا” اعتمد فيه على مصادر لم تعد متوفرة الآن ويقدم فيه وصفاً دقيقاً لسفن الفايكنغ.
كما يشير المصدر نفسه إلى كتاب “مروج الذهب ومعادن الجواهر” للمسعودي، وما ذكره عن الصين و خاقان الخزر وعاصمتهم، فضلاً عن المادة المخصصة للبلغار وبلاد شمس منتصف الليل والصقالبة والروس والفايكنغ.
وفي كتاب تجارب الأمم لابن مسكويه الفيلسوف والمؤرخ الشهير وصف مفصل لمشاهد عيانية للعلاقة بالآخر، ترقى إلى مستوى كتابة تاريخ للعالم.
كما يكتب الجغرافي الاصطخري الذي لا يُعرف الكثير عنه، عن مملكة الخزر وما حولها بلغة تتسم بالحيدة والوصف الموضوعي.
وفي كتابه “صورة الأرض” تحدث ابن حوقل عن تجارة الفراء والخصيان وهجوم الروس على البلغار في عام 965، بينما قدم البيروني في كتابه “تحديد نهايات الأماكن لتصحيح المسافات بين المدن” مناقشة لنظام الأقاليم السبعة الذي قسم بعض الجغرافيين العرب بموجبه العالم المأهول. وكتب زكريا بن محمد بن محمود القزويني في “عجائب المخلوقات” عن يأجوج ومأجوج بسرد يختلط فيه الواقعي بالغرائبي. ويشير أحد دارسي أدب الرحلة إلى أن رحلات ابن بطوطة، خلافاً لذلك، يتجاوز فيها السردُ الواقعي القصَّ الغرائبي.
ويعلق شاكر لعيبي في تحقيقه لكتاب “رحلات أبي دلف الينبعي” إلى الصين والهند، على هذا الاختلاط بين الواقعي والغرائبي بقوله “لم يستطع السياق الذي اشتغلت فيه الحضارة الإسلامية أن ينجو بشكل عام من الخرافة. أما على الصعيد الأدبي ثم السردي في أنواع محددة كأدب الرحلة فقد كان هناك على الدوام خلطٌ بين الواقعي والغرائبي. يستجلبُ الأخير استجلاباً بناء على شرط ثقافي عام راغب بالتصديق، ومن قبل الأطراف جميعاً، منتجي النصوص ومتلقيها، وبطريقة مفرطة أحياناً، مقبولة عرفياً”.
ونعتقد أن هذا الكتاب الذي تتخلله أمشاجٌ نقدية ذات أبعاد تاريخية وفيلولوجية متميزة يستحق دراسة منفصلة تستخلص منه العناصر التي ترقى إلى مستوى الأنثروبولوجيا في صورتها الراهنة.
ويعترف الروائي الأميركي مايكل كرايتون أنه أصيب بالذهول عندما قرأ مقاطع من رحلة ابن فضلان مدرجةً في المنهج الجامعي حين كان طالباً يدرس الأنثروبولوجيا، فكان أن بادر إلى كتابة رواية صدرت في العام 1976 بعنوان “أكلة الموتى”، أدخل عليها أفكاراً جديدة زعم فيها أنه عُثر على نسخة من مخطوطة ابن فضلان في ديرٍ باليونان. كما طَعَّمَ النص بشخصيات مستمدة من ملحمة بيولف الأنغلوساكسونية، ولكنه نقل نص ابن فضلان مترجماً إلى الإنكليزية في الفصول الأولى من الرواية إلى أن وصل إلى مرحلةٍ من السرد يقدم الرحالة العربي فيها وصفاً مرعباً لجنازة الفايكنغ.
وأما بقية الرواية فإنها تروى بأسلوب ابن فضلان نفسه، وهي مشفوعة بمقدمة لبروفسور مزعوم يعمل في جامعة أوسلو، يشيد فيها بقدرة الرحالة العربي على التزام الموضوعية الكاملة في السرد.
ويعلق بول لند أحد مترجمي نص ابن فضلان إلى الإنكليزية، بقوله “صحيح أن البروفسور قد يكون زائفاً ولكن حكمه على نص ابن فضلان دقيق لا يمكن أن يُروى على نحوٍ أفضل”.
من الجلي أن رواية كرايتون تستفيد من أسلوب الكولاج الذي يمثل نموذجاً في الأداء بلوره كتّاب رواية ما بعد الحداثة، وهو نموذجٌ يفنِّدُ مفهوم الأصالة وما يحفّ به من نزوعٍ واحديٍ أصولي، ليُحِلَّ محلَّهُ مفهوم التعددية بديلاً له.
وفي هذا يقول ابن عربي في ترجمان الأشواق:
رأى البرق شرقياً فَحَنَّ إلى الشرق
ولو لاح غربياً لَحَنَّ إلى الغرب
فإن غرامي بالبروق ولمحها
وليس غرامي بالأماكن والترب.
هذا الشرح قد يجلو بعض الملابسات التقنية التي تتصل بأدب ما بعد الحداثة. ولكن ما يهمّني من هذا الاستطراد هو دعوة دارسي أدب الرحلة إلى الإسهام، بقدر أو بآخر، في استخراج عناصر الأنثروبولوجيا من مئات المخطوطات العربية المُحتفيةِ بعلاقات الذات بالآخر.