الفكر النهضوي بوجهه الشعبوي
لا يمكن أن نفهم جدلية التقدم والتخلف في مثال النهضة العربية فهماً صحيحا إلا إذا نظرنا إليها في مسارها التاريخي الاجتماعي والسياسي والثقافي. وهذا يعني استدعاء جدلية المماثلة والمغايرة، الخلاف والاختلاف، الكينونة والصيرورة، الهامش العربي والمركز الغربي. فكلام الباحث على تجربة النهضة يعني الذات والآخر في الوقت نفسه. يعني بتعبير أدق قدرة العربي على أن يكون نفسه، وأن يكون ما ستفضي إليه صيرورته المتمثلة بالآخر في آن.
جدلية المماثلة والمغايرة هذه، ربما تلخص سيرورة النهضة في تمثيلاتها المختلفة التي اعتمدت مفهوما عابرا للأنظمة المعرفية (Interdisciplinary). وسأكتفي هنا بروز وفحص مفهوم تعددي اعتمد مناهج جُزافية وأشباه مناهج ومقتربات واستيهامات رغبية دون أن تفضي إلى غلقة (Closure) أو نتيجة حاسمة.
وما أعنيه في هذا السياق هو فكر النهضة الآخر، الفكر الشعبوي، فكر الفضاء الاجتماعي الذي أنجب، طائعا أم غير طائع، الفكر الذي أنجب في فضاء وسائل الاتصال الجماهيري، فتاوى الفقهاء والمتفقّهين والدعاة الذين أباح أحدهم، مؤخراً، دونما اعتراض من فقيه آخر معتمد، ما دعاه بالممارسة الوداعية للنيكروفيليا. ونحن هنا لا نتحدث بطبيعة الحال عن فكر عصر النهضة الليبرالي، الفكر المتحرر الذي لم يفقد بريقه، وإن فقد بعض تأثيره، الفكر الذي احتفى به ألبرت حوراني وآخرون، بل نتحدث عن فكر النهضة الآخر الذي أنجب عقمه في زماننا فكراً شعبوياً مؤثراً ومسلحاً بقوة الفتوى.
أستهل هذه التأملات بالإشارة إلى أن ما نتعلمه من قراءة سيرورة النهضة بوجهها المار عبر برزخ فقهي، هو أنها شهدت مراحل صعود وهبوط خلافية المنزع. وبدون أن نزعم أن هذه المراحل هي السبب الوحيد لاحتضار هذه التجربة التي تعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، يمكن القول إنها استنفدت عنفوانها في دوران معصوب العينين لسببين رئيسيين:
الأول هو أن تيارها كان معقوداً للفقهاء والمتفقّهين على وجه التحديد. والثاني هو أن فكر النهضة اتسم بانقطاعات ونقاط نكوص وارتداد شهدت إبان القرن العشرين صعود الأصولية الإسلامية على حساب فكر النهضة التحرري.
وتكمن المفارقة هنا في أن غالبية تمثيلات تجربة النهضة كانت تدور في مدار عبثي. فقد كانت مقيدة بالعلوم الشرعية النقلية وإعادة إنتاجها وفقا لقراءات لا تحتكم إلى العقل النقدي. كما أنها بفعل ذهنية التحريم لم تكن قادرة حتى على الاستئناس بعلم الكلام الذي يعرفه ابن خلدون بأنه “علم الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية”.
وهكذا قام فكر النهضة المار عبر برزخ يحرسه فقهاء غير متنورين بعملية إعادة إنتاج لأصولية ماضوية دشنت استقالة العقل الذي بات نموذجا لوعي أيديولوجي زائف.
ولأن تاريخ الفلسفة الحديثة تاريخ احتفاء بالعقل فإن الحضارة الأوروبية الغربية كانت، بدءا من القرن التاسع عشر، تقرأ نفسها قراءة نرجسية باعتبارها حضارة عقل مطلق منفتح على الفلسفة. ولا شك أن هذه القراءة المعقلنة عززت صورة علاقة ملتبسة لهامش عربي إسلامي اعتذاري بمركز غربي أوروبي حديث.
ندرك في ضوء ما تقدم أن حركية النهضة طرحت على نحو تجزيئي عابر للأنظمة المعرفية لم يبلور منهجا أو مناهج معينة في البحث وإن خاض كيفما اتفق في أكثر من نظام معرفي.
ما أقوله هنا لا يشمل -كما أسلفت- كل فكر النهضة، وإنما يرصد بروز نزعة تجزيئية متشظية يمكن وصفها بأنها نزعة مطلبية وليست إصلاحية شاملة، وأرجو أن ينظر إلى هذا الرأي بوصفه يهدف إلى إثارة النقاش، أو ربما إطلاق سجال أودّ أن يكون خلاقا، أكثر ممّا يرمي للوصول إلى يقين.
وأما تمثيلات هذه الحركية الدالة على نزعة تجزيئية ربما كان لها تسويغها التاريخي، فيمكن إجمالها بعناوين كل منها منفصل عن الآخر. وأعني بذلك أن العنوان لم يكن يشكل استئنافا لعنوان آخر ينطلق منه الباحث بهدف الإسهام في بلورة صورة إجمالية. وهنا تكمن خصيصة النزعة المطلبية المشار إليها. وبشيء من التبسيط غير المخل، يمكن القول إن الأفغاني كتب عن المواجهة بين الإسلام والعلم، بينما زاوج محمد عبده بين ضرورتين: الإصلاح واستنباط قوانين سوسيولوجية من القرآن، ودرس علي عبدالرازق مشكلة الخلافة، ورفاعة الطهطاوي مطلب الحقوق المدنية، وقاسم أمين تحرر المرأة، والكواكبي طبائع الاستبداد.
هذه التمثيلات ذات النزوع النهضوي المتشظي، والتي ندرجها على سبيل تعداد القلة لا الحصر، أسفرت عن موقف ملتبس عبر عنه دومنيك أورفوا في كتابه “المفكرون الأحرار في الإسلام”. هذا الالتباس يفضي في الواقع إلى إشكالية معلقة ذات طابع خلافي. يقول الباحث الفرنسي إن مصدر الالتباس يعود إلى الجمع بين المطالبة بالأصالة وبحق تقليد الحضارة الغربية في آن. وهو ينقل عن جاك بيرك قوله “إن العرب يريدون ألا يشابهوا الآخرين، وألا يختلفوا عنهم”.
ويضيف “فلو ذكرت أمامهم خصوصيتهم يشعرون بالمهانة ويطالبون بأن يكونوا كمثل قائل هذه الملاحظة، وإن طبقت عليهم نفس المعايير التي تطبق على الآخرين يجفلون. هذا التوهم بأن التكنولوجيا الغربية قابلة للفصل عن خلفيتها النفسية، وللنقل إلى شرق بقي على حاله، إنما هو ناجم عن رؤية مادية اختزالية للتاريخ”.
في تقديري إن ما نشهده في الوقت الراهن من نكوص أصولي إنما يرجع إلى حد كبير إلى أن الفكر النهضوي الذي مارسه فقهاء عبر برزخ من صنعهم، فقهاء يتمتعون بسلطة الفقهاء، هو أن مرجعيته اختزلت باعتبارها “حضارة فقه” بينما أهملت الاستفادة من حقيقتها الدنيوية المغايرة في مثال بعض المتكلمين الذين احتكموا للعقل.
وكما يقول جورج طرابيشي في نقده لتعريف محمد عابد الجابري للحضارة الإسلامية فإن من أهم ما يميز السلطة المرجعية الدينية في إسلام القرون الوسطى هو ازدواجها إلى سلطة فقهاء معادين لـ”علوم الأوائل” وإلى سلطة متكلمين كان لهم سبق حتى على لاهوتيي مسيحية العصور الوسطى اللاتينية في توظيف الفلسفة في خدمة اللاهوت. وهنا تكمن أهمية علم الكلام منظورا إليها من منظور عقلاني.
آية ذلك أن فكر النهضة في جذاذاته المتشظية ليس متماثلا بطبيعة الحال. فالكواكبي وقاسم أمين ليسا مثل الطهطاوي ومحمد عبده. أرجو ألا يوحي كلامي بالاختزال أو التعميم. ما أودّ قوله هو أن قراءات فكر النهضة كانت عن وعي أو لاوعي صادرة عن مرجعية مارة عبر برزخ من صنع الفقهاء.
ولهذا فإن سلطة النقد فيها كانت مقيدة، وعندما ظهرت في سبعينات القرن الماضي قراءات عربية جديدة للثقافة كما هو الشأن في أفكار إدوارد سعيد فإنها كانت تقدم على أسئلة النهضة أجوبة فردية النزوع، أجوبة لم تكتب بالاستجابة للجماعة أو الأمة. رأى إدوارد سعيد أن الثقافة تكتسب اكتسابا ولا تورث توريثا. فثمة قطبان يربطان بين حركية الثبات والتغيير. القطب الأول (Filiation) أي “البنوة” يعكس حتمية بيولوجية، حقيقة انتماء الابن للأب، حقيقة كون الكائن نتاج أبوين. وأما الثاني (Affiliation) أي التبني فهو يعكس، بدلا من ذلك، الاختيار الحر الذي يتيح للفرد فرصة الانتماء إلى أب ثقافي مجازي من اختياره. هذا الأب المجازي ربما كان في بعضه، هو الآخر المغاير.