نزار قباني: الحديث لا الحداثي
المشهد الشعري الآن يبدو لي مغايرا إلى حد كبير: ثمة ثلاثة مؤشرات نقدية أحرصُ على إبرازها في استعادتي لتجربة نزار قباني. يتصل الأول بضرورة التمييز الإجرائي بين الحداثة والحداثية باعتبارهما تطويرين يناقض كل منهما الآخر. والثاني بالعلاقة بين ما أدعوه بشعبية شعر نزار الجارفة التي تقف وجهاً لوجه أمام شعبوية الاستقبال التي جوبه بها من قبل النظام المعرفي والسلطوي المهيمن. أما الثالث فيتصل بالمغايرة بين أصالته وبين أصولية الاستقبال الشعبوي.
أولا، أرى أن الشعر العربي الكلاسيكي كنموذج ومثال مقوّمٌ للشعر العربي عموماً، من حيث الشكل والأداء، قد وصل إلى ذروة ما سأدعوه بـ»الإرهاق الجمالي».
هذه الذروة استدعت التحول إلى حداثة طبيعية لا شك أن نزار هو أحد أقطابها المميزين. والملاحظ أن حداثة نزار قباني كانت تحرص، باستمرار، على اعتماد بثٍّ في الأداء لا يُخل بالاستقبال. ولا شك أن توزيع مائة ألف نسخة من ديوان لنزار، في فضاء عربي محدود القراءة، إنما يؤكد قدرته على أن يكون انقلابه الشعري محقِّقاً لما يشبه التوازن بين خاصتي البثّ والاستقبال. وفوق هذه التجربة، التي تُذَكِّر بحرص الشاعر الفرنسي مالارميه على تحقيق مثل هذا الهدف، تحوم حداثة نزار بملابساتها المعرفية. يقول نزار إنه عندما فكر بالتجديد الذي وصفه بأنه خطير، أدرك أن عليه التريث أو «العد إلى العشرة أولا» كما يقول.
والقصيدة التالية، ربما تمثل نموذجاً للحداثة الطبيعية المنزع، الحداثة غير المجلوبة، والمعبرة عن هذا التريث:
«ذبحتنا الفسيفساءُ عصوراً
والدمى الزخارف البلهاءُ
نرفضُ الشِّعْرَ كيمياءً وسحراً
قتلتنا القصيدةُ الكيمياءُ
نرفضُ الشِّعْرَ مسرحاً ملكياً
من كراسيه يُحْرَمُ البسطاءُ
نرفضُ الشِّعْرَ أنْ يكونَ حصاناً
يمتطيه الطغاةُ والأقوياءُ
نرفضُ الشِّعْرَ عَتْمَةً ورموزاً
كيف تستطيعُ أنْ ترى الظلماءُ».
هذه الحداثة صادرة عن محمول معرفي لا يرى في الشعر إنشاداً فحسب، بل مستودعاً للتحول والتغيير. ولا شك أنها تقومُ على افتراضٍ بوجودِ فاصلٍ حادٍّ بين ما قبلَ الحداثةِ وما بعدها. لكن هذا الافتراض يرى في الحداثة تحرُّكاً شاملاً للتغير الشعري والمجتمعي، تحركاً أرضيته اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية.
ولهذا يمكن القول إن قصيدة «خبز وحشيش وقمر» على وجه التحديد، ليست قصيدة حديثة فحسب، بل قصيدة شعبية بامتياز، قصيدة استنفرت رداً شعبوياً كاد ينقلب على أيدي صانعي القرار السياسي على اختلاف انتماءاتهم إلى تراجيديا مفضية إلى إسقاط الجنسية عن الشاعر، فضلا عن عقوبات أخرى.
II
ثانيا: أدى ما دعوته بـ»الإرهاق الجمالي» إلى ظهور نوعين من التغيير: الحداثة الشعرية ذات الأمشاج الاقتصادية والاجتماعية، الحداثة النزارية، والحداثية (المودرنزم) التي يَفْصِلُها عن الحداثة برزخٌ معرفيٌّ لا يمكن إغفاله.
هذه الحداثية كانت بمثابة رد فعل مقصود حيناً وغير مقصود حيناً آخر، على أيديولوجيات الأدب، كالواقعية الاشتراكية، وواقعية الأدب الإسلامي التي حذت حذوها.
ربما كان أثر المصادر الغربية أشد بروزاً لدى الحداثيين من حداثة نزار الطبيعية. ثمة نموذجان باهران لشعرية الحداثية: نموذج أدونيس ومجلة شعر، ونموذج خليل حاوي والتجربة التموزية.
لا شك أن هذين النموذجين هما الأكثر انفتاحا على التجارب الشعرية الغربية. وفي المقطع التالي من قصيدة لخليل حاوي تعبير عن حذر ربما كان مبالَغا فيه إزاء المؤثر الخارجي:
«نحن من بيروت، مأساةً» ولدنا
بوجوه وعقول مستعارهْ
تولد الفكرة في السوق بغياً
ثم تُمضي العمرَ في لفق البكارهْ».
III
ثالثا: إذا قارنا هذا «الحذر» مع «التريث» النزاري المشار إليه، أمكن القول إن الحداثي خليل حاوي يرى التجربة الشعرية العربية جزءاً من التجربة الثقافية الفلسفية والفكرية بشكل عام. هذا فضلا عن أنه ينتقد «الدُّرجة» أي «الموضة» لا الاستفادة من الانفتاح المتسم بالخفة، على مؤثرات خارجية.
ولهذا فالأصالة عنده، بنماذجها الحداثية قد تنقلب إلى «أصولية» لا تقبل بوجود مؤثرات خارجية. وهذا ضرب من المحال. في تقديري إن خليل حاوي كان يتحدث عن أزمة شخصية مروِّعة، أزمة كينونة يصدر فيها عن «غلواء» أكثر مما يصدر عن «مغالاة».
والحال أن خليل حاوي المنفتح بتمكن وتحكم على الشعرية في العالم، شأنه في ذلك شأن أدونيس، كان يعني بـ»الأصالة» النزوع إلى الابتكار، معناها الحقيقي. حداثة نزار كانت طبيعية؛ حداثة الفطرة السليمة Common sense. المديني بامتياز.