الرؤية النمطيّة لصورة المراهق في الثقافة العربية
المراهق في الثقافة العربية في معظم ما قرأناه وشاهدناه، في الرواية، والسينما والمسرح يُظلم مرتين. الظلم الأول يقع عليه حين يستبعده الأطفال من اللعب معهم، لأنَّه أكبر منهم، ويُظلم ثانية حين يطلب منه الأكثر رشدا الابتعاد عنهم، لأنه لا يزال صغيرا.
فهو ضائع بين الأطفال، والكبار في الوقت نفسه، فالمسكين يفكّر، ويحلم، ويرى الحياة كطفل، ولا يسمح له نضوج وضخامة جسده للبقاء في مستوى تفكيره. ولا يعينه مستوى تفكيره الولوج إلى عالم الراشدين، وتحمّل مسؤوليتاهم أو هكذا يسيء ظن الراشدين به.
أغلب علماء النفس ذكروا أنّ سن المراهقة يبدأ في العاشرة من العمر، وينتهي في الرابعة والعشرين، وبعضهم، وهم قلة، أشاروا إلى أنّ مرحلة المراهقة تنتهي في التاسعة عشرة.
مراهق نجيب محفوظ
هذه السن هي التي انطبقت دائماً في ذهني عن شخصية كمال السيد عبدالجواد في ثلاثية نجيب محفوظ. وكنّا في شبابنا، ونحن نقرأ بين القصرين وقصر الشوق والسكرية، ونتلمّس خطوات نجيب محفوظ في شخصية الطفل، والفتى المراهق كمال.
وكنا نضحك حين نقرأ أنَّ سي سيد يصرخ بكمال “يا ابن الكلب” قارئين تداعيات كمال، وتأثيرات المعاملة القاسية على نفسيته، التي كان يواجهها من والده الطاغية. وكنا نتأسّى ونتألم لنجيب محفوظ من أب مشابه لسي سيد.
وعندما كبرنا بما فيه الكفاية، وقرأنا عن حياة نجيب محفوظ، وعالمه الروائي والقصصي، بقلم رجاء النقاش، في كتابه “نجيب محفوظ صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه”.
عرفنا، أنّ والد نجيب كان مثالاً للأب الأريحي. كان ينام مبكرا، ولا يسهر مثل سي سيد أو له حياة ليلية فاحشة، وأخرى نهارية جادّة أو إنَّه كان يردد كلاما فاحشا أو بذيئا أو يشتم أولاده ومنهم ولده كمال، كما في الرواية.
وكان أبونجيب يصطحب ولده نجيب لأشهر المقاهي، التي فيها “كمنجي” يعزف مقطوعات موسيقية شرقية، وتُغنّى فيها أراجيز وموشَّحات تمجد سيدنا الرسول الكريم، أو فيها فونوغراف ليستمع الأب وفتاه لأغنيات ذلك العصر المشهورة.
وبطبيعة الحال كنّا نبحث عن الأثر في كل رواية وقصة، لأنّ قراءة الأدب ليست معزولة عن البحث عن حقيقة الواقعية في ما نقرأ، وهل هناك في الواقع ما يماثل ما نقرأه؟ وأكثر ما كنّا نبحث عنه، حياة الكاتب، لنفصّل عليها شخصيات أبطاله، لكي تكون أكثر وقعا في نفوسنا، فالنفس ميالة لما وقع فعلا في الحياة، وليس إلى ما يمكن تخيّله، وهو مجرد أوهام، بالرغم من تعارض ذلك مع المفهوم النقدي الذي يعرف عالم الرواية بـ”أنّه عالم خيالي يستمدُ من الواقع صوره، وشخوصه وحوادثه ويبني عليها”.
حنا مينه وإغواء المراهق
ما إن قرأنا أدب حنا مينه حتى تعاطفنا مع أبطاله، ورسّخت في الذهن الكثير من صور أبطاله في “بقايا صور” و”الشراع والعاصفة” و”الياطر” وغيرها. ولا تزال في ذاكرة من قرأ رواياته، صورة المومس ــ امرأة القبوــ وهي ترد للفتى الخنجر الذي جرح ركبته، أثناء رقصه به، لتسلية الحاضرين. وحرّك في أعماق القرّاء عشق “امرأة القبو” للفتى المراهق في الرواية المشهورة “الشمس في يوم غائم”، ونتعاطف كذلك مع أم الفتى لأنّ زيارة المومس له في سكنه جعلت الأم تنتفض خائفة على ابنها المراهق، معتبرة أنّ الزيارة فضيحة تضاف إلى فضائح فقر عائلتها. ويأتي تعاطفنا مع الأم هنا، لأنَّها تشبه أمهاتنا في خوفها علينا من تجارب من هم أكبر من أعمارنا.
وفي مسرحية النخلة والجيران، من تأليف غائب طعمة فرمان، وإخراج قاسم محمد عرضت العام 1969 تماهينا ــ كجيل من الشباب ــ مع شخصية “حسين ابن سليمة الخبازة” المراهق، بنزقه، وتمرّده على أمه وزوجها، وبحثه عن ضمان لمستقبله. وتابعنا بشغف محاولاته للوقوف بوجه الانتهازيّ مصطفى زوج أمه، الذي كان يريد سلب سليمة الخبازة كل ما ترك لها زوجها السابق، وهو يبني لها قصورا من الأوهام والمشاريع الوهمية.
القراءات والمشاهدات للمراهق، في العمل الأدبي والفني العربي إلا في ما ندر تُحيل إلى صورة نمطيّة واقعية، لما يفعله المراهق في محيط العائلة العربية. ودائماً يأتي حكم الروائي أو المؤلف المسرحي قاسيا على المراهق فيها. نجد ذلك في عشرات بل في المئات من الأعمال الأدبية والفنية، التي حاول فيها الكُتَّاب والمؤلفون المسرحيون نقل تجارب سلبية عاشوها مع المراهقين أو قرأوها عنهم
وفي “مالك الحزين” رواية إبراهيم أصلان، والفيلم المأخوذ عنها بعنوان “الكيت كات” من إخراج داوود عبدالسيد. كانت شخصية “يوسف” الشاب المراهق المُحبط. أدى دوره الفنان شريف منير الذي يحلم بمستقبل أفضل له بعيداً عن وطنه، لكنه يواجه بتسويفات ووعود أبيه “الشيخ حسني” الضَّرير الكاذبة.
مثّل دور الشيخ حسني الفنان محمود عبدالعزيز، الذي كان يعدُّ يوسف ببيع البيت ليوفر له المال اللازم للسفر، وهو في حقيقة الأمر باع البيت وأنفق ثمنه على المخدرات. وعَلَمَ يوسف ببيع أبيه البيت، وأنفاق ثمنه، وعندها احتدمت الأمور بين الأب الضَّرير وابنه الشاب، فيصفع الشيخ حسني ولده يوسف صفعة مدوّية تجعل الابن يفقد إيمانه بعالم الكبار تماماً.
الصورة النمطيّة للمراهق
جميع القراءات والمشاهدات للمراهق، في العمل الأدبي والفني العربي إلا في ما ندر تُحيل إلى صورة نمطيّة واقعية، لما يفعله المراهق في محيط العائلة العربية.
ودائماً يأتي حكم الروائي أو المؤلف المسرحي قاسيا على المراهق فيها. نجد ذلك في عشرات بل في المئات من الأعمال الأدبية والفنية، التي حاول فيها الكُتَّاب والمؤلفون المسرحيون نقل تجارب سلبية عاشوها مع المراهقين أو قرأوها عنهم. وللأسف لم تدرس شخصية المراهق دراسة نفسية علمية عندنا بشكل معمق، ليكتب الروائي أو الكاتب المسرحي عن المراهق العربي، وفق رؤية علمية، مما توصل إليه علم النفس التربوي من نتائج في هذا الشأن.
فالمراهق في معظم الأعمال الثقافية العربية، مجرد متمرِّد على الأعراف والقيم، ومسيء لمن هم أكبر منه سناً، وهو في العادة من يرتكب الحماقات، ويمارس العدوان على من هم أصغر منه سنّا.
وهو نموذج للسوء والعدوان، وعدم الانضباط، وفي أغلب الروايات والأفلام والمسرحيات يظهر المراهق ضحية للإدمان على المخدرات أو ترويجها، أو نراه في الأفلام سارقا أو قاتلا من دون الغور في الأسباب التي أدَّت إلى هذه النتيجة أو توضيح الجواب لسؤال لماذا يصير المراهق بهذا الوضع الشاذّ المعارض لما تم التعارف عليه اجتماعيا؟
ولم يتابع العمل الأدبي في معظم الروايات والقصص القصيرة العربية ما يواجهه الفتى في مرحلة المراهقة من صراعات داخلية، بسبب التغييرات في جسده ومداركه الحسية والعقلية.
ولم يتناول الكُتّاب إلا في ما ندر المشاعر التي أخذت تتبلور داخله، وهي تشعره بوضوح بميوله الجنسية الجديدة، ورغباته، وإحساساته بالنضج.
وبحثه عن قضايا يتبنّاها، ليدفع عنه طفولته، وليثبت للآخرين رجولته ونضجه. ويساعد على عدم تبنّي الكتاب لهذا الجانب التحليلي المهم في أعمالهم الإبداعية، حالة الجهل الاجتماعي في المجتمع، فالكاتب العربي يغرف من هذه المادة الخام، التي يراها أمامه، ويلتقط شخصية المراهق منها. ويفعل في الكتابة كما يفعل أي رجل ثقافته محدودة وهو ينظر إلى مراهق يصادفه في الشارع.
مراهق في الصحراء
توجد نماذج قليلة في الرواية العربية الحديثة ناقشت قضية المراهقة كفترة حرجة من فترات عمر أيّ شاب عربي، ورواية “مراهق في الصحراء” للجزائري حسن الجيلاني من هذا اللون. طبعت الرواية العام 2012، والكاتب الجيلاني من جيل السبعينات من القرن الماضي في الجزائر، وهو باحث وأستاذ جامعي.
تدور أحداث الرواية في مدينة الوادي بالصحراء الجزائرية، وتحكي عن حياة شابين مراهقين هما خليفة والهاشمي لا يزالان طالبين في الإعدادية، لكنهما يعيشان أحلام الشباب الوردية.
ويتطلعان إلى تغيير واقعهما الصحراوي المحافظ. كانا من النادر أن يلمحا وجه امرأة بين البيوت أو نساء تتبضع في الحوانيت القليلة. فالنساء في هذه المدينة الصحراوية ممنوعات من الخروج من دورهن دون أخ أو أب أو رقيب.
ولا شيء في المدينة يمكن التطلع إليه غير تلال الرمال، ومياه الواحة، التي تستقي منها مزارع النخيل القليلة حول الواحة. وبساتين أشجار الغرب التي تمنع عن مدينتهما الصغيرة إن تُطمر بسفّ الرمال. فمدينة الوادي تقع في منطقة رمال متحركة شديدة الحرارة صيفا وباردة شتاء.
وتبقى حياة الشابين محاطة بجو صحراوي مقيت، وعادات محافظة، وكآبة لا حد لها. لكنهما تنبّها إلى أمر فيه القليل من الأمل ألا وهو الحلم بفتيات أكثر تفتحا، قادمات من تونس أو من مدن جزائرية أكثر مدنيّة وتفتحا كمدينة عنابة.
ويتحقق حلمهما يوماً بوصول شابتين جميلتين من عنابة، فيسرعان إليهما، ويحاولان أن يمدا جسر المودة معهما، لكنهما يواجهان بعنف من قبل أقرباء الفتاتين، مما أعادهما إلى رشدهما الصحراوي.
فيقرّر الشابان، وهما في أتم حالات الإحباط، إكمال تعليمهما في المدرسة وأداء الامتحانات، وذلك أفضل لهما، ولمستقبلهما حتى يأتي يوم آخر أفضل من أيامهما الغاسِقة الحالية.
والجيلاني لم يجعلنا في مواجهة شابين مراهقين أخرقين في حياتهما بكاملها فقط بل وحتى حين تحين الفرصة بفتح نافذة لهما في حياة أكثر إنسانية بالتعرف على فتاتين جميلتين قادمتين من مدينة جزائرية أكبر، وأكثر مدنيّة من مدينتهما سوف الصحراوية.
فهما لا يحسنان التعامل مع الفرصة، ولم يتعاملا مع الفتاتين بالرفق المطلوب، وعدم استعجال علاقة غرامية مستحيلة معهما. وهنا أدان الكاتب المراهقين أكثر من إدانته لتقاليد ومحرَّمات المجتمع الصحراوي. لكنه نجح أيما نجاح في نقل مشاعر مراهقين من الصحراء، وشعورهما بالعجز من تخطي طفولتهما إلى عالم الكبار كغيرهم من الرجال.
المراهقة الصغيرة
في قصة قصيرة لرمضان سلمى برقى، وهو قاص شاب مصري، عنوانها “المراهقة الصغيرة”. نشرها في مدوّنته، حكى فيها قصة المراهقة الجميلة شاهندة التي عشقها جميع طلاب الفصل، لجمالها، ولحركاتها الإغوائية التي لا يصمد أمامها أحد.
تستغل شاهندة جمالها مع أساتذة فصلها، لكي تمارس كسلها، وتغيّبها عن ساعات الدروس، وتأخرها عن الحضور في الطابور الصباحي، لكن محاولات الإغواء التي تفتعلها مع أستاذ جديد تصطدم بإرادة حديدية لا تقهر من قبل الأستاذ فهمي سكرتير المدير الجديد.
الذي يطلب منها الحضور إلى غرفته لعقابها لتأخرها عن الطابور الصباحي. وفي غرفة أستاذ فهمي تحاول شاهندة فتح أزرار قميصها، لتظهر أكبر جزء من صدرها لتغويه، كما كانت تفعل مع الآخرين، لكن لم تهتز شعرة في رأس الأستاذ فهمي سوى إنَّه تعرّق عرقا باردا بدأ يتفصّد من جبينه بغزارة.
وبقي مصرّا على توقيع أمر عقوبتها بالطرد المؤقت من المدرسة، صامدا أمام جمالها، وتحاول مجددا احتضان الأستاذ في محاولة أخيرة لاستدرار عطفه، ولكن كانت نيّتها الحقيقة أن تلتصق به جسديّاً لكي تجعله تحت تأثيرها الأنثوي، لكنه ينتفض مبتعدا عنها، ويوقّع أمر فصلها.
حملت القصة حرارة الواقع وصدقه، لكنها لم تُشر من قريب أو من بعيد لجواب سؤال، لماذا تفعل شاهندة بمراهقتها تلك كل هذه الأفعال؟
وقد رأى القاص، وهو يكتب قصته ما يراه الجميع في مجتمعنا العربي “الصورة النمطيَّة للمراهق والمراهقة” بأنَّ ظاهرة المراهقة لدى شاهندة مجرد تحلل خلقي لا غير. وأنّ الفتاة مستهترة ومدللة، وأنّ عائلتها لم تربّها وفق القيم والعادات المتعارف عليها في المجتمع. والعيب الواقع في شخصيتها يكمن في أنّ الله تعالى وهبها جمالا أنثويا أخاذا، جعلته ــ بسبب انحدارها الأخلاقيّ ــ وسيلتها لتحقيق مأربها لتبرير كسلها وفشلها الدراسي.
لو درس مبدعونا العرب كيف تعامل الكاتب الروسي فيدور دوستيوفسكي في روايته “المراهق” مع شخصية الفتى أرغادي دلغوروكي على سبيل المثال، لتغيّر طرحهم النمطيّ لشخصية المراهق، فيما كتبوا من أعمال إبداعية، ولأطلعوا كيف حلل شخصيته، وكأنه تعامل مع سيرة ذاتية له شخصياً، فأرغادي، الكاتب ذاته في مراهقته، لكنه ليس كذلك في دناءاته وخبثه، وطيبته، وتمرده، ومحاولاته المتكررة دخول عالم الكبار، حتى لو اضطرَّه ذلك إلى اختلاق المؤامرات واقتراف الكذب والخداع للآخرين.
وقد اختار أنموذجه الفريد أرغادي الطفل غير الشرعي لخادمة من أحد ملاكي الأرض الأغنياء. وبنى عليها من خلال ذلك شخصية مركبة، شديدة التعقيد، لكنها صفحة أدبية باهرة أيضا من الإبداع، وخلق الأنموذج للمراهق، الذي سيبقى حيّا في ذاكرة القرّاء ماداموا يقرأون روايات وقصصا.