قراءة في ملف \'الربيع الدامي\'
كلام الباحث على “الربيع العربي” من منظور ثقافي يعني بالنسبة إلى أكثر من كاتب أسهم في ملف “الجديد” استدعاء تفسير ثقافي صرف، أدواته التحليلية ممثلة من مصادر الكاتب الخاصة، أو لعلها بتعبير أدق، أدوات تحليل تحيل إلى محمول معرفي قد لا يعكس حقيقة التجربة وراهنيتها. وظني أن هذا ما يؤدّي إلى هيمنة نزعة ليست ثقافية بل “ثقافوية”، نزعة تكتفي في معاينتها للواقع واستعصائه على التغيير، بتغيّره بنوازع العصبية أو الدين أو الطائفة أو الأصل الإثني، مهملة دور العامل السياسي المباشر والمتمثل في استبداد الدولة الشمولية، الاستبداد الذي فجّر هذه النوازع عندما لجأ على نحو مبكّر جدا إلى ممارسة العنف والإرهاب.
النزعة “الثقافوية” تبرز في مستهل مقال "لماذا لم يزهر الربيع" للباحث الجزائري إبراهيم سعدي، وتدشن حركة تتجه من العام إلى الخاص، من إستراتيجية التسمية إلى المحاجات خلافية الطابع التي أعقبت إطلاق التسمية، أي أنها تحيل من الاسم إلى المسمى بدل العكس.
وهذه النقطة الخلافية تضعنا وجها لوجه أمام بحث في “المَوْضَعَة”، بحث في جدل سابق لأوانه “هل الحدث ثورة أم انتفاضة أم ربيع عربي أم مؤامرة خارجية؟”.
يجيب الباحث عن هذا التساؤل الذي يطرحه بالقول “الخلاف حول التسمية لا يزال قائما إلى اليوم، ومن الطبيعي في الحقيقة أن يوجد هذا الاختلاف في التوصيف. ليس بالضرورة لاعتبارات تتعلق بطبيعة الأحداث نفسها، أو بالسّعي إلى دقة التسمية وموضوعيتها، بل بالنظر إلى معنى هذه الأحداث بالنسبة إلى صاحب التوصيف، وكذلك بالنسبة إلى ما يرغب فيه”.
ثم يقول مشددا على ما يبدو من قبيل تحصيل الحاصل “لا يمكن فصل التسمية عن الموقف، أو فصل الموقف عن الرغبة الشعورية منها واللاشعورية، ولهذا فإنه من الصعوبة بمكان أن تكون التسمية تعبيرا عن مجرّد الحرص على الوصول إلى الحقيقة وحدها”.
هذا المدخل المحتفي بإستراتيجية التسمية يذكّر بالتحول اللافت الذي طرأ على اللغة الإنكليزية التي كانت قديما، مثلها مثل العربية، يتقدم فيها الموصوف على الصفة قبل أن تصبح الصفة فيها سابقة على الموصوف.
نقول بالعربية “وردة حمراء” فندرك على الفور أننا بصدد الحديث عن وردة قبل إلحاقها بالصفة التي تميزها من حيث اللون.
وأمّا الإنكليزية فإن الآية تنقلب بحيث تتقدم الصفة على الموصوف، فنقول (Red Rose). ولكنّ تحوّلات اللغة لها تحليلها الخاص على أيّ حال، إذ لا يمكن تطبيق قواعد النطق عليها كما هو معروف.
هذا الاستطراد البلاغي ربما يوضح بعض ما أريد قوله، وهو ضرورة عدم استباق البحث في إستراتيجية التسمية التي تطاول حدثا مازال ينزف دما وقيحا كالربيع العربي.
وفي تقديري إنه لو انطلق الباحث من المسمّى إلى الاسم، أي من الخاص إلى العام، لاتضح أن نقاط التشابه أو التماثل بين مختلف تجارب الحراك الجماهيري العربي ليست كثيرة كما يلوح للوهلة الأولى.
فالتحرك الشعبي السوري على سبيل المثال، يختلف اختلافا بيّنا عن التحرك في تونس ومصر وليبيا. وإذا كانت شرارة الحدث تتمثل في إحراق البوعزيزي نفسه، فهذا لا يعني أن محدداته ومآلاته متطابقة أو متماثلة بالضرورة.
وتحليل ذلك يكمن في استحالة إخضاع الحراك الشعبي لنموذج مسبق الصنع، وهذا ما يشير إليه الباحث بالاستناد إلى علماء الاجتماع المهتمة بسوسيولوجيا الثورات، ومفاده أنه من الصعوبة بمكان التوصل إلى “تعريف عام وجامع لمفهوم الثورة”.
والحال أنه ليس ثمة من تعريف جامع مانع لها، وإنّ “كل ما يمكن القيام به هو إجراء مقارنات بين مختلف تجليات هذه الظاهرة تاريخيا”.
إذن لماذا نُنمذج الحراك الجماهيري؟ لماذا نطرح نمذجة مسبقة الصنع، نمذجة يتطلبها الوصول إلى حكم قيمة تفترضه المقارنات؟
الجواب عن هذا التساؤل يتصل بالدور التمويهي الذي تلعبه المقارنات جزافية الطابع في إبراز بعض جوانب الحقيقة وإخفاء بعضها الآخر.
ما أعنيه بذلك هو أن النتائج التي يخلص إليها الباحث بالنسبة إلى الحالة السورية، هي للأسف الشديد نتائج شيدت على معطيات ناقصة، واعتمدت نظرة اختزالية للأحداث. إنها ليست خلافية المنزع كما يوحي السياق، بل هي معطيات مغلوطة تفضل كيفية حدوث التحول الشعبي من أسلوب التظاهرات السلمية إلى المجابهة بالسلاح من طرف واحد. لقد مثّل المثقفون السوريون لحمة المجتمع المدني وسَداتهُ، وكانوا في طليعة نضال سلمي مطلبي امتد زهاء تسعة أشهر وتخلّلته حملات قمع واعتقال وتنكيل قبل أن يعمد النظام رافعا شعار “أسد.. أو نحرق البلد” إلى فرض مجابهة غير متكافئة، مجابهة دموية استهلّت بإطلاق النار على المتظاهرين العزّل واعتقال المئات من المواطنين.
وقد قام النظام عامدا متعمدا بتطييف الصراع وتحويله من حراك شعبي مطلبي إلى حرب ضروس عنوانها استثارة النوازع المضادة لهوية النظام الطائفية المتلطية وراء “ممانعة” زائفة لا تحمي ولا تمنع.
ولأن بنية النظام ذات محمول طائفي وفئوي وعائلي يمتد تاريخه إلى نصف قرن من القمع والإرهاب فقد تحوّل بفعل الضرورة من استبداد “الأب” صديق إيران وحليفها إلى استبداد “الابن” زبونها وعميلها.
ولأول مرة في التاريخ الحديث نشهد ظهور نظام جمهوري وملكي وراثي في آن، نظام “جملوكي” يجمع بين نقيضين وتنطبق عليه صفة (OXYMORON) المصطلح البلاغي، بامتياز.
يقول الباحث “إن انخراط حزب الله في المعمعة إلى جانب الحكم، وهو الحزب الذي كان رمز المقاومة في ما يعرف بتسمية معسكر ‘الممانعة’ الذي يشار به إلى سوريا وإيران، والذي يقدّم كقوة معادية للهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط. فقد أدّى ذلك إلى مفارقة مأساوية، إذ جعل الحراك الشعبي المطالب بالتغيير والتحرك، في نوع من التضارب والتناقض الاستراتيجي مع المقاومة، أي مع التحرر من الهيمنة الأميركية والاحتلال الإسرائيلي”.
لا يمكن وصف هذه الصورة من الأحداث بأقل من القول إنها تمثل رؤية أكل الدهر عليها وشرب، رؤية مضللة وموغلة في حسن النية. وإلا ما المقصود من الكلام عن “الممانعة” في وقت يُجهز فيه النظام بالسلاح الكيميائي والبراميل المتفجرة على زهاء ربع مليون سوري ليسوا مواطنين ولا رعايا، يقابلهم ربع مليون معتقل ومفقود، ويهجّر نصف السكان من مدنهم وقراهم المدمرة بالسلاح الروسي والتواطؤ الأميركي والميليشيات الإيرانية (والداعشية في وقت لاحق).
وهل صحيح أن “الثورة المضادة” هي التي نجحت في “شيطنة الربيع العربي في الحالة السورية بعدما حدث تحويله إلى ساحة اقتتال دموي وإلى صراع دموي وإلى صراع طائفي وإرهابي؟”.
إن تعبير “الثورة المضادة” هو بلا شك الغطاء الأيديولوجي المناسب للتقييم على حقيقة اختطاف الثورة من قبل “الداعشية” التي صنّفها النظام. وبعبارة أخرى فإن مصداقية الحديث عن نجاح الشيطنة لا يمكن أن تتحقق دون توجيه أصابع الاتهام إلى النظام الذي سبق دوره الدموي ظهور الإرهاب الداعشي على مسرح الأحداث.
كنت أتمنى لو عٌدّل عنوان بحث إبراهيم الجبين "ماذا لو كان مثقفو الاستبداد على حق" على النحو التالي: ماذا لو انتصر الجناح الذي ينتمي إليه مثقفو الاستبداد
مثقفو الاستبداد
كنت أتمنى لو عُدّل عنوان بحث إبراهيم الجبين “ماذا لو كان مثقفو الاستبداد على حق” على النحو التالي “ماذا لو انتصر الجناح الذي ينتمي إليه مثقفو الاستبداد؟”.
فالقول إن انتصار الجناح الذي ينتمي إليه هؤلاء، يعني أنهم على حق، هو “حكم قيمة” دلالته تتناقض كليا مع المنحى العام لهذا البحث الممتع والمتميز بسلاسة العرض والسخرية المريرة التي يمكن التمثيل عليها في المقطع التالي على وجه الخصوص «لنتخيل حوارا هكذا يدور في محفل ثقافي بحيث يقدم أحد مثقفي الاستبداد ورقته المعنونة “دفاعا عن استخدام الكيميائي ضد الغوطة الدمشقية” على سبيل المثال، أو ورقة عمل أخرى تحت عنوان “لماذا يجب أن يستمر رئيس الجمهورية إلى الأبد؟” أو ثالثة تحت عنوان “الطائفية كمستقبل مشرق للشعوب” أو “معايير سحق المتظاهرين على يد الجيش” أو “ضرورة التخلص من حاضنة الإرهاب الشعبية حتى لو كانت بالملايين” أو “الحفاظ على أمن إسرائيل السبيل الوحيد لتحرير القدس″.
هذا الحوار الخيالي ليس ساخرا لوجه السخرية المفضية إلى الدعابة، صنيع بعض كتّاب السخرية البلاغية، وإنما هو حوار كاشف، فاضح، هاتك، بقلم باحث عارف ومحيط كل الإحاطة بالسردية الخاصة بما حدث للسوريين وثورتهم المغدورة، حوار مكتوب من منظور ثقافي متخفف من المحمول المعرفي الثقيل لمصطلحي الثقافة والمثقفين.
والتساؤل التالي الذي يختتم به الكاتب بحثه، ينقل سرديّته من أفق السخرية إلى أفق التهكم على ثقافة الاستبداد “على ماذا سيبني الاستبداد حامله الثقافي الجديد الذي سيكفل له الاستمرار؟ ما هي المفردات التي ستكون قطع اللوحة الثقافية التي سيبرزها الاستبداد بعد انتهاء الحرب؟ اليوم يعيش على مادّة الحرب ذاتها وعلى مقاومته للإرهاب والمؤامرة الكونية، ولكن بعد حين لن يجد صفيحا صلبا يستند إليه ثقافيا وفكريا وإعلاميا مهما ابتكرت بقية العقول المحيطة به والتي لم يكن لديها أساسا مشروع خلاّق في ما مضى أكثر من براعة التأقلم مع الاستبداد ذاته والاستفادة من بنيته».
الداعش والدامس
“الداعش والدامس: أهو ربيع لا تينع فيه غير الرؤوس″ للباحثة التونسية أم الزين بن شيخة المسكيني، مرثية مؤداة بأداء متوهج بارع الفكر، أداء ذي محوّل معرفي بالغ الثراء، مرثية تستهل توصيفها المأساوي لمعاناة الشعوب العربية بتساؤل غاضب الإيقاع “وأيّ ربيع هذا الذي لا تينع فيه غير الرؤوس، رؤوس البشر، وقد صاروا أقل من بشر، فترى الجزارين المحترفين والمدربين في مخابر عالية المستوى يتسابقون نحو حلبة سفك الدماء، تلك الحلبة صار لها اسم جديد هو “الشعوب العربية” نحن في ضرب من الطقس الوثني دواعش ودوامس وذبح للبشر وتكبير باسم الدماء. هل صار البشر في ديارنا أو ما تبقّى من ديارنا قربانا لآلهة جبارين؟ أم لا شيء يكبر في ديارنا غير أوهامنا وتعاويذنا وعدد القتلى؟
وفي الجهة الناعمة من المسرح ضجيج ديمقراطي ولغط إعلامي وأعراس كرتونية تنادي بكل طاقة الأبواق التي لا تصل أصواتها إلى الفقراء، إن هبّوا، هذا هو العرس الديمقراطي، سنكثر من الصناديق وستقفون ثانية في الطوابير، وسيأتيكم رؤساء جدد، وبإزار من الدساتير. أبشروا أيها الحداثيون والتقدميون والحقوقيون، فلا يزال ثمة إنسان في ديارنا..”.
هذه المرثية هي في حقيقتها دعوة نيتشوية المنزع، مفرغة من الطاقة الحجاجية والسجالية، إلى ممارسة ما تدعوه الباحثة بـ”التشاؤم الخلاق” إن كل من لا يزال يعتقد أن المثقف مطالب بزرع التفاؤل والأمل في نصوصه إنما ينتمي إلى شكل رخو من سياسة الحقيقة. نيتشه قال ذات مرة على لسان زرادشت “غير عابئين، مستهزئين، جبارين. هكذا تريدنا الحكمة أن نكون. فهي امرأة وهي لا تحب على الدوام إلا رجلا مقاتلا”.
هذا الضرب من الحكمة معصوبة العينين، ليس مجديا، فهو ليس سوى شكل رخو من سياسة الحقيقة “وأيّ امرأة قادرة على الوقوف في وجه من يعتبرها قاصرا لا تصلح لغير الوأد أو النكاح؟”.
ما العمل إذن؟ تتساءل الباحثة بعد أن تستعرض سلسلة لافتة من الأفكار المستلّة من التراث الفكري المعاصر “خطوتان إلى الوراء، خطوة إلى الأمام؟ وماذا لو كنا نسكن شكلا هندسيا غير الخط المستقيم الذي نعتقد أنه الطريق؟ يبدو أننا في دائرة مربعة تستوي فيها كل الجهات. بعض الأصوات من أصحاب النوايا الحسنة تنادينا أن تمسكوا بالديمقراطية كشكل وحيد لمقاومة الإرهاب”. لكن أيّ شكل من الديمقراطية؟ الديمقراطية الليبرالية، أي ديمقراطية السلع التي حوّلت البشر إلى انفعالات استهلاكية. ربما علينا أن نستفيد من كل النقد الذي أنجزه المفكرون المعاصرون للديمقراطية الغربية التي حولتها أميركا إلى سلاح مضاد للشعوب العربية، تسوقها على أراضيهم على ظهور الدبابات.
نحتاج إلى شكل مغاير من الديمقراطية كطلب نضالي حيوي من أجل عالم مشترك في ما تبقى لنا نحن المحاصرين بالهلاك من كل صوب، من التيارات القليلة التي اسمها الحياة في عالم “لم تعد فيه الحياة تحيا” وفق عبارة كارثية لتيودور أدرنو.
آمل أن تؤدي هذه الإلماعة للنصّ إلى تحريض القارئ على العودة إلى قراءة المرثية مرة أخرى.
لا شك عندي أن بحث فتحي المسكيني متميز. وقد قدم المفكر تحليلاً مجهرياً مبتكراً وبالغ العمق لسردية منع باي تونس الاتجار بالرقيق وإبطال الرق
التحول العنفي
يبدأ الباحث الجزائري “ربوح البشير” مقاله “عقابيل التحول النمطي في الفكر العربي” بالإشارة إلى ضرورة “تعبيد درب فلسفي ومعرفي من خلاله إلى تحليل البنية الثقافية التي تحكّمت ومازالت تتحكم في مسارات الفعل ومداراة الفكر وجملة التخوم التي تُسَيّج مخيالنا العام، وهو مسعى نجتهد في التأسيس له اعتمادا على نصوص مختلفة ومتنوعة، تتوزع بين الفلسفي والأنثروبولوجي، السوسيولوجي والسيكولوجي، وغيرها من النصوص القادرة على تسييرنا في هذا الدرب الوعر”.
مطلب بالغ الطموح، يطرح التساؤلات التالية: هل صحيح أن البنية الثقافية العربية تتحكم في مسارات الفعل. وهل تشغل الثقافة العربية موقع البنية (الفوقية) المؤثرة على الفعل الذي يحتل بنية (تحتية)؟ وما مدى صدقيّة هذه الفرضية إذا ما اختبرت على محك الانتفاضات العربية؟
أعتقد أن هذا الطّرح الذي أصفه بأنه “ثقافوي” المنزع يضعنا وجها لوجه أمام قضايا خلافية مازالت مستعصية على الحل في الفكر الغربي نفسه. فهل حقا حدثت الانتفاضات العربية بتأثير من الفكر العربي؟
من المعروف أن فكرة العلاقة بين البنيتين الفوقية والتحتية وتأثير الأولى على الأخيرة مستوردة من الخطاب الماركسي المتداول. ولكن التبسيط المخلّ الذي كان سائدا في فحص العلاقة بين البنيتين، وفحوى كل منهما لم يعد مقبولا. بل إن المسائل التي توضح مسارات هذه العلاقة وطبيعة دينامياتها الداخلية، لم تعد تناقش أصلا خارج مفهومي “الهيمنة” و”الخطاب”.
وأخيرا هل يعقل أن نتحدث ببساطة، عن “عقل عربي معاصر”؟
سردية جلد الذات هذه تنتهي بالباحث إلى القول بلا تردد أو تأتأة أو ثأثأة “لقد اكتشفنا أن الفكر العربي يحتوي في جوفه على عواضل كثيرة منعت الفكر العربي من تحقيق الوثبة لكي يغدو عقلا فنحن لم نصل بعد إلى مستوى العقل في صورته النقية وفي شكله الثوري وبالتالي فنحن أمام فكر عربي يجتهد في أن يؤول عقلا..”.
لا أعتقد أن هذه الداروينية الثقافية أو ربما الداروينية الإبستمولوجية بحاجة إلى تفنيد أو تعليق.
ثورة العبيد
"ثورة العبيد التي لم تقع" بحث للكاتب التونسي فتحي المسكيني دراسة شائعة مركزة تدور حول أمر أصدره أحمد باي الأول في تونس (سبتمبر 1841) يقضي بمنع الاتجار في الرقيق وبيعهم، أعقبه في (23 جانفي 1846) بأمر آخر يبطل الرق ضمن رسالة شهيرة وجهها إلى مشايخ تونس ومفتييها.
ويحاول كاتب البحث كما يشير “إثبات جملة من التعليقات على تلك الرسالة من ‘ولي الأمر’ إلى ‘العلماء’ تعلمهم بمنع الرق وعزم الدولة على فرضه بالقانون”. وأما هدفه فيتمثل في الافتراض التالي “إن إرادة الثورة “ما بعد الأيديولوجية” التي حرّكت الشعوب العربية “ما بعد الديكتاتورية” منذ مطلع 2011 لم تحظ ثورات العبيد بـ”باراديغم” راسخ الجذور في تاريخ الشأن السياسي في دولة الملّة إلا بشكل عرضي، ولا سيما في “حالة استثنائية إلى حد الآن، هي الحالة التونسية الراهنة”. وتتميز ثورة العبيد بكونها فوقية وخارجية وأقليّة ومن ثمة لا يملك برنامجا أخلاقيا ومدنيا صارما عن ذاتها المستقبلية على الرغم من كلّ كمية الصدق التي تحرّكها.
ومغزى الرجوع التأويلي إلى رسالة منع الرقّ التونسية التي صدرت في أربعينات القرن التاسع عشر ما قبل الكولونيالي أنها “يمكن أن تؤدي دور خيط إشكالي مناسب للاستفهام حول معنى تجارب الثورة ما بعد الكولونيالية وبخاصة فيما يتعلق بالحالة الاستثنائية التونسية”.
لا شك عندي أن هذا البحث متميز. وقد قدم الباحث فيه تحليلا مجهريا مبتكرا وبالغ العمق لسردية منع باي تونس الاتجار بالرقيق وإبطال الرق. كما أن عملية الربط الخيطي التي قام بها الباحث بين الوضع الراهن في تونس والنتائج الخطيرة التي توصّل إليها في نقد الاستبداد الديني تبدو عملية لافتة وربما تتطلب إخضاع الفرضية لنظرة فاحصة تعلل صوابية فرض مقاييس القرن الحادي والعشرين على نص من القرن التاسع عشر.
هذه الإضاءات السريعة التي لا تخلو من الاختزال المخلّ والتي تمثل بعض نقاط الحركة والثبات في محاور ملف "الربيع العربي" أردت منها إثارة نقاط خلافية تنبض بها تجربة الحراك العربي، وهي نقاط تطرح بدورها أسئلة أقترح أن تعالج في عدد قادم، أذكر منها على سبيل المثال:
1- “الاستبداد الشرقي” ودوره في صناعة الاستبداد الديني.
2- الدور الإيراني (القومي المنزع) في استدعاء الصدام الطائفي.
3- الإسلام والديمقراطية.