بعض من ألم
لم يخطر في بالي شيء يصلح للإجابة على سؤال وظيفة الشعر سوى مشهد الطفل السوري الذي يهدد القتلة قبل ذبحه بأنه سيقول لله كل شيء. لم أعد منذ لحظة اصطدامي بهذا المشهد قادراً أن أفترض الشعر ممكنا خارج ما كان هذا الطفل السوري يريد أن يدوّنه في دفتر الله. كان الطفل يؤمن إيمانا قاطعاً وحاسماً أن من شأن هذا الكلام⊇ ليس رفع الظلم عنه وحسب، بل أن يرد عنه وعن أحلامه وآماله الموت، كل الموت.
لا أرى الشعر خارج هذا الكلام وخارج الوظيفة التي نسبها الطفل المقدم على الذبح إليه، وهي وظيفة قتل الموت.
لحظة الكارثة المفتوحة التي نحياها والتي أفرزت ألما فائضا عن حدود الكلام من شأنها أن تجعلنا نفكر إذا كان الشعر إهانة للألم، أو مجرد تعليق بارد وسطحي عليه.
السؤال الذي لا أرى له إجابة هو السؤال حول وظيفة الشعر ودوره؟ هل يستطيع الشعر أن يحمل ألما فائضا عن قدرة الكلام على التعبير؟ هل يستطيع أن يحمل شحنة الكلام الأخير الذي لم يدوّن، وأن يكون سجلا للوصايا ورصدا أمينا لتحولات جسد يعذّب من أول سوط إلى آخر نظرة هاذية؟
كان الشعر يعتاش على المفارق والمدهش، ولكن السؤال الذي يطرح عليه الآن يتعلق بمدى قدرته على التقاط سيل متواصل من ألم مفتوح، يلامس المطلق في كل لحظة من وجوده.
هذا النوع الجديد من الألم يفجّر الشعر، فالشعر ليس المطلق بل الحنين إليه، ولكن الألم الذي نحيا زمانه قد عانق المطلق. هكذا صار الشعر بعضاً ممّا خلفه عبوره من شظايا ليس إلا.
ما الذي كان الشعر يستطيع أن يقوله لذلك الطفل السوري في لحظة الذبح. لا شيء.
ما هو مصدر الكلام الذي تلاه في وجه القتلة، وكيف نجح في تجاوز كل ألغام الرعب؟ لا نعلم، ولكنه ليس الشعر.
من هنا ربما يكون لزاما على الشعر حالياً أن يعي دوره وحدوده، وأن يعلم أنه لا يستطيع أن يكتب الألم، وأن جلّ ما يستطيعه هو الإشارة إليه فقط.
ربما يكون الشعر الآن قد بات بعضاً من بضاعة الألم غير القابلة للاستعمال.