صلاة أندريه تاركوفسكي
لاحقتنا نظرات سيرغي أيزنشتاين المنبعثة من لوحته الجدارية في بهو دار رواد السينما السوفييتية ونحن نصعد الدرج إلى الطابق الثاني حيث كانت تعيش والدة أندريه تاركوفسكي التي احتضنته بحب كبير دون أن تنهض من على سريرها وقد غطت نصفها السفلي ببطانية صوف سميكة داكنة اللون.
ـ ماما ـ قال أندريه ـ وهو يشير إلى والدته التي انحنت برأسها قليلا مرحبة بقدومنا. وأشارت لنا أن نجلس على أريكتين باهتتين تحيطان بطاولة خشبية عتيقة.
كانت الغرفة نظيفة وأنيقة وتطل على الحديقة الخلفية لدار رواد السينما السوفييتية (الروسية حاليا) التي تقع في ضاحية ماتفييف القريبة من موسكو. كانت الدار أشبه بمنزل أشباح في هذا الطقس البارد، إذ لم يكن يقطنها سوى العجائز من معلّمي وصناع الفن السابع الذين ضاقت بهم سبل الحياة.
لا شيء يميز الغرفة سوى مرآة كبيرة أُلصقت على زجاجها صور تلك السيدة مع زوجها الشاعر أرسيني تاركوفسكي وابنه أندريه وقد رصّفتهم على شكل صليب.
ـ أندريوشا، ـ قالت السيدةـ لا تقلق، دقائق معدودة وتصل حمقاؤك الرائعة.. لو تعرف كم أحبها!
وتناهى إلى سمعنا صوت صرير جزمتها وهي تقترب من الباب، الذي فُتح بهدوء وأطلت منه الممثلة إيرما راوش ذات الأصول الألمانية.
دخلت إيرما وهي تخاطب أم أندريه: لقد سبقاني بالوصول إليك، اعذريني يا أماه.. تأخرت في السوبر ماركت، كان الازدحام فظيعا.
ثم وضعت على الطاولة ما أحضرته من طعام وشراب، وصنعت لنا الشطائر وطلبت منا أن نأكلها فورا ولم تنس أن تقدم شطيرتين لمن لم تفارق سريرها، ثم خاطبت أندريه متسائلة: أنت لم تعرفني على صديقك بعد! ثم نظرت نحوي وقدمت نفسها قائلة: إيرما.
بعد أن عرّفتها بنفسي، نظرت إلي بعينين فاحصتين وقالت: إذن أنت مسلم، ـ وأضافت ـ أتعلم أن أندريه أراد أن يعتنق الإسلام؟
ـ لا. لا أعلم. أجبتها مندهشا.
ـ أراد أن يعود إلى ديانة أجداده، لكنه لم يفعل.
ـ لم أستطع الصلاة بوجدان خمس مرات في اليوم، قال أندريه.
- وأضاف: كانت الصلاة تستنزف كل طاقتي الروحية والجسدية. كنت معذبا للغاية، وأردت أن أهدّئ من روحي قليلا، فازدادت اضطرابا واحتراقا، الصلاة معاناة روحية كبيرة، لا أستطيع القيام بها خمس مرات في اليوم.
جلست إيرما على طرف السرير تأكل من شطيرتها، وتذكرتُ ذلك المشهد من فيلم أندريه روبليف وهي تقضم ما قدمه لها التتار.. لم تكن تمثل.
ـ كيف يجري التصوير؟ سألها أندريه.
ـ ليس مهما. أجابت.
ـ هل تمثلين دورا جديدا. سألتُها.
ـ لا، أنا درست الإخراج مع أندريه، و الآن أخرج عملا طلائعيا أحمقا. يا إلهي كم هو سخيف!
ابتسم أندريه وقال لي ساخرا: لهذا السبب اخترتها لدور البلهاء في فيلم روبليف.
ـ أندريه ـخرج صوت إيرما محذراـ لا تسخر مني. أنت لا تهتم بشيء سوى النجاح في عملك، أما أنا فلديّ مسؤوليات أخرى.
ـ إيرما ـ قال أندريه ـ طلبت منك كثيرا أن لا تفعلي ذلك. لماذا تصرّين على تشويه سمعتك؟
ـ لأقدم لابنك النقود، لينهي دراسته كطبيب جراح. أجابت إيرما بصوت حازم، ثم توجهت بالحديث إليّ و قالت: ابننا أرسيني يعاني كثيرا، فهو يحمل كنية مجلجلة كجرس الكنيسة، هل شاهدت جرس الكنيسة في فيلم أندريه روبليف؟
ـ نعم، شاهدته.
ـ يحمل ابني أرسيني كنية “تاركوفسكي” المدويّة، لكنه لا يحمل في جيبه كوبيكا واحدا، أيّ معاناة يعيشها! فماذا أفعل؟ درست الإخراج وعليّ أن أعمل كمخرجة.. أنت لا تتصور كم تعبت لأحصل على هذه الفرصة الدنيئة.
وساد صمت ثقيل.
غطت السيدة الوالدة في سبات عميق. أخرجت إيرما علبة سجائر وخرجت من الباب وهي تقول: سأدخن سيجارة وأعود.
شعر أندريه بحرج شديد.. لم أرغب أن أطرح عليه سؤالا قد يبدو ساذجا في تلك اللحظة، لماذا انفصلا عن بعضهما..
نهض أندريه ومرّ من قرب والدته النائمة، ثم وقف قريبا من النافذة وبدا لي كم هو قصير القامة قرب الستائر.
عادت إيرما وجلست على الأريكة مكان أندريه وقالت: أعذرني من فضلك، ونكّست من رأسها.
أخذ أندريه نفسا عميقا ثم أزفر ما في صدره مقتربا بفمه من زجاج النافذة، أعاد ما فعله عدة مرات ثم أشار إليّ أن اقترب منه.
مد إصبعه و خط به على الضباب من اليسار إلى اليمين شيئا ما، لم أستجل فحواه. ثم طلب مني أن اقرأ. لم أستطع. فسألني مستغربا: ألا تجيد قراءة العربية؟
أعدت النظر إلى ما خطه، وتبعت الأحرف من اليمين إلى اليسار، أي عكس مسار إصبعه و قرأت اسم “الله” مكتوبا باللغة العربية.
ـ هذا ما نبحث عنه ويبحث عنا. قال أندريه.
ـ لكن لماذا كتبت اسم الله بأحرف عربية من اليسار إلى اليمين، الحروف العربية تكتب من اليمين إلى اليسار؟
سألته، فأجاب: لهذا السبب انسحبت من معهد الاستشراق. لقد درست العربية لمدة عام كامل، حاولت فيها أن أتعلم الكتابة من اليمين الى اليسار كما تفعلون وفشلت، فأعلنت انسحابي.
ملاحظة: فيما بعد علمت أن السيدة صاحبة الغرفة لم تكن أم أندريه الحقيقية، بل زوجة أبيه.
