كأنني‭ ‬أبدأ‭ ‬اليوم

الثلاثاء 2016/03/01
دون كيخوتة بريشة نبيل المالح

في التاسعة‭ ‬خرجت‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬مظاهرة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬فلسطين،‭ ‬تبعتها‭ ‬مظاهرات‭ ‬عديدة‭ ‬وصفعات‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬شرطة‭ ‬وتوقيفات‭ ‬قصيرة‭. ‬في‭ ‬العاشرة‭ ‬بدأت‭ ‬أرسم‭ ‬وأكتب‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اقتنعت‭ ‬بأحاديث‭ ‬سمعتها‭ ‬عن‭ ‬نظام‭ ‬يحقق‭ ‬العدالة‭ ‬والكرامة‭ ‬والإنسانية،‭ ‬وبقيت‭ ‬وفياً‭ ‬منذ‭ ‬تلك‭ ‬اللحظات‭ ‬لتلك‭ ‬الأفكار‭. ‬في‭ ‬الرابعة‭ ‬عشرة‭ ‬نشرت‭ ‬قصيدتي‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬“الصرخة”،‭ ‬وفي‭ ‬الخامسة‭ ‬عشرة‭ ‬أصبحت‭ ‬من‭ ‬أوائل‭ ‬رسامي‭ ‬الكاريكاتير‭ ‬السياسي‭ ‬ومحرراً‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ ‬وصاحب‭ ‬زاوية‭ ‬شعرية‭ ‬أسبوعية‭. ‬وهكذا،‭ ‬وفي‭ ‬أيام‭ ‬البراءة‭ ‬والحلم‭ ‬تلك،‭ ‬بدأ‭ ‬الوهم‭ ‬بالتكامل،‭ ‬وارتبط‭ ‬وهمي‭ ‬الخاص‭ ‬بالوهم‭ ‬العام‭. ‬إننا‭ ‬مقبلون‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬العالم‭.‬

في‭ ‬السابعة‭ ‬عشرة،‭ ‬ذهبت‭ ‬لأدرس‭ ‬الإخراج‭ ‬السينمائي‭ ‬في‭ ‬تشيكوسلوفاكيا،‭ ‬وكانت‭ ‬مغامرة،‭ ‬إذ‭ ‬كنت‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬يدرس‭ ‬هذا‭ ‬الفرع‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬اشتراكية‭ ‬وعلى‭ ‬نفقته‭ ‬الخاصة،‭ ‬أدرس‭ ‬مادة‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬أيّ‭ ‬أصول‭ ‬أو‭ ‬أسس‭ ‬أو‭ ‬صناعة‭ ‬في‭ ‬بلادي‭. ‬وهنالك‭ ‬تعلمت‭ ‬أمرين،‭ ‬أولهما،‭ ‬كيف‭ ‬تملك‭ ‬الوسائل‭ ‬الحرفية‭ ‬الفنية‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬تفردك‭. ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬مجزياً‭ ‬للغاية،‭ ‬وثانيهما،‭ ‬كيف‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬متفرداً‭ ‬غير‭ ‬تابع‭ ‬لقطيع،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬دفعت‭ ‬ثمنه‭ ‬غالياً‭ ‬طوال‭ ‬عمري‭.‬

هذه‭ ‬الـ‭ ‬‭(‬لا‭)‬‭ ‬الأبدية،‭ ‬لم‭ ‬تدعني‭ ‬أنتظم‭ ‬في‭ ‬حزب‭ ‬أو‭ ‬تنظيم،‭ ‬ولم‭ ‬أضع‭ ‬نفسي‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬أن‭ ‬أقبل‭ ‬أمراً‭ ‬من‭ ‬أحد،‭ ‬لذا‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬موظفاً‭ ‬أبدا،‭ ‬وكانت‭ ‬علاقتي‭ ‬بالمفهوم‭ ‬الضمني‭ ‬للسلطة‭ ‬تنمو‭ ‬وتأخذ‭ ‬بعداً‭ ‬أثّر‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬مسيرتي،‭ ‬فلقد‭ ‬ترسّخت‭ ‬لديّ‭ ‬القناعة‭ ‬بأن‭ ‬الفن‭ ‬في‭ ‬ديناميته‭ ‬واكتشافه‭ ‬وثورته‭ ‬على‭ ‬السائد‭ ‬والمألوف‭ ‬سيكون‭ ‬دائماً‭ ‬على‭ ‬نقيض‭ ‬مع‭ ‬الفن‭ ‬الرسمي،‭ ‬ومع‭ ‬قيم‭ ‬ومفاهيم‭ ‬وأخلاق‭ ‬وجماليات‭ ‬السلطة‭ ‬أياً‭ ‬كانت،‭ ‬لأن‭ ‬السلطة‭ ‬محافظة‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬اكثر‭ ‬أشكالها‭ ‬تقدمية،‭ ‬وهذه‭ ‬القناعة‭ ‬جعلتني‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬فصام‭ ‬مع‭ ‬المسؤولين،‭ ‬وبقيت‭ ‬مداناً‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬السلطة‭ ‬على‭ ‬أنني‭ ‬يساري‭ ‬أدفع‭ ‬ثمن‭ ‬ذلك‭ ‬قتالاً‭ ‬يومياً‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الوجود،‭ ‬وكنت‭ ‬في‭ ‬الحين‭ ‬نفسه‭ ‬مداناً‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬اليساريين‭ ‬لأنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬منتمياً‭. ‬وهكذا‭ ‬استمرت‭ ‬هذه‭ ‬المسيرة‭ ‬المضحكة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬ترض‭ ‬أحداً‭.‬

لقد‭ ‬ارتبط‭ ‬مشروعي‭ ‬السينمائي‭ ‬‭(‬كما‭ ‬هو‭ ‬فيما‭ ‬أكتب‭ ‬وأرسم‭)‬‭ ‬بمشروع‭ ‬الوطن‭ ‬الذي‭ ‬أحلم‭ ‬به،‭ ‬دون‭ ‬ادعاء‭ ‬أو‭ ‬استعراض،‭ ‬فلقد‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬قدري،‭ ‬وأعتز‭ ‬بأن‭ ‬هذا‭ ‬الارتباط‭ ‬لم‭ ‬يتعرض‭ ‬أبدا‭ ‬لأيّ‭ ‬تنازلات‭ ‬أو‭ ‬مساومات،‭ ‬ولكن‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬يقودني‭ ‬للإصابة‭ ‬بنفس‭ ‬الخيبات‭ ‬التي‭ ‬يتعرض‭ ‬لها‭ ‬هذا‭ ‬الوطن‭.. ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬الرعب‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬متزامناً‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬عمل‭ ‬أنجزه‭.. ‬فلقد‭ ‬كنت‭ ‬أحرث‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬بور،‭ ‬وعندما‭ ‬انضم‭ ‬سينمائيون‭ ‬آخرون‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬السبعينات،‭ ‬كان‭ ‬عليهم‭ ‬أن‭ ‬يعيشوا‭ ‬نفس‭ ‬الأحاسيس‭ ‬والتجارب‭. ‬لقد‭ ‬بدأت‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬ثم‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭ ‬سينما‭ ‬سورية‭ ‬أصيلة‭ ‬من‭ ‬نقطة‭ ‬الصفر‭.‬

بدأت‭ ‬مشاكلي‭ ‬عندما‭ ‬فاز‭ ‬فيلم‭ ‬التخرج‭ ‬‭(‬مشكلة‭ ‬عائلية‭)‬‭ ‬بجائزة‭ ‬هامة‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬المهرجانات‭ ‬عام‭ ‬1964م،‭ ‬وفجأة‭ ‬وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬عضواً‭ ‬في‭ ‬لجنة‭ ‬تحكيم‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬آخر‭. ‬وهكذا‭ ‬بدأت‭ ‬من‭ ‬نقطة‭ ‬يصعب‭ ‬التراجع‭ ‬عنها‭.‬

في‭ ‬سوريا،‭ ‬بدأت‭ ‬بفيلم‭ ‬‭(‬إكليل‭ ‬الشوك‭ ‬couronne d`epine‭)‬‭ ‬عام‭ ‬1968م‭ ‬‭(‬روائي‭ ‬35د‭)‬‭ ‬عن‭ ‬نكبة‭ ‬‭(‬67‭)‬‭ ‬كان‭ ‬أول‭ ‬عمل‭ ‬عربي‭ ‬جاد،‭ ‬بتعبير‭ ‬سينمائي‭ ‬مبتكر‭ ‬عن‭ ‬فلسطين،‭ ‬وتساءل‭ ‬آنذاك‭ ‬الأديب‭ ‬المصري‭ ‬مجيد‭ ‬طوبيا‭: ‬أليس‭ ‬‭(‬إكليل‭ ‬الشوك‭)‬‭ ‬هو‭ ‬نموذج‭ ‬السينما‭ ‬العربية‭ ‬البديلة‭ ‬التي‭ ‬نطلبها؟‭ ‬ومنذ‭ ‬ذلك‭ ‬الحين‭ ‬مضى‭ ‬شعار‭ ‬‭(‬السينما‭ ‬العربية‭ ‬البديلة‭)‬‭ ‬ليصبح‭ ‬مطلباً‭ ‬وشعاراً‭ ‬للسينمائيين‭ ‬العرب‭.‬

كما‭ ‬كان‭ ‬‭(‬إكليل‭ ‬الشوك‭)‬‭ ‬التجربة‭ ‬اللغوية‭ ‬السينمائية‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬نوعها‭ ‬في‭ ‬السينما‭ ‬العربية،‭ ‬فإنه‭ ‬كان‭ ‬أيضا‭ ‬اللقاء‭ ‬الأول‭ ‬بحرفة‭ ‬‭(‬الصلب‭)‬‭ ‬التي‭ ‬يتعرض‭ ‬لها‭ ‬الفيلم‭ ‬والسينمائي‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬بيروقراطية‭ ‬تافهة‭ ‬ونقد‭ ‬بدائي‭ ‬ورقابة‭ ‬مذعورة،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬سيبقى‭ ‬قدر‭ ‬السينمائيين‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬ربع‭ ‬قرن،‭ ‬وبقي‭ ‬الفيلم‭ ‬في‭ ‬العلب‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬عامين،‭ ‬ثم‭ ‬وبعد‭ ‬سنوات‭ ‬بدأ‭ ‬بعض‭ ‬الزملاء‭ ‬بتذوق‭ ‬نفس‭ ‬التجربة،‭ ‬فمنع‭ ‬فيلم‭ ‬‭(‬اليازرلي‭)‬‭ ‬لقيس‭ ‬الزبيدي،‭ ‬و‭(‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬سورية‭)‬‭ ‬لعمر‭ ‬أميرالاي‭ ‬دون‭ ‬أيّ‭ ‬سبب‭ ‬شرعي‭ ‬أو‭ ‬معقول‭.‬

لم‭ ‬نكن‭ ‬آنذاك‭ ‬نتعلم‭ ‬كيفية‭ ‬صنع‭ ‬سينما‭ ‬جديدة‭ ‬وخاصة،‭ ‬وإنما‭ ‬كنا‭ ‬نتعلم‭ ‬الدروس‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬كيفية‭ ‬المرور‭ ‬عبر‭ ‬حقول‭ ‬الألغام‭.‬

عام‭ ‬1969م‭ ‬كتبت‭ ‬سيناريو‭ ‬‭(‬الفهد‭ ‬le‭ ‬leopard‭)‬‭ ‬عن‭ ‬رواية‭ ‬لحيدر‭ ‬حيدر،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬مشروع‭ ‬الفيلم‭ ‬الروائي‭ ‬السوري‭ ‬الطويل‭ ‬الأول،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يسبقه‭ ‬سوى‭ ‬فيلم‭ ‬‭(‬سائق‭ ‬الشاحنة‭)‬‭ ‬لمخرج‭ ‬يوغسلافي‭. ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬اعتبار‭ ‬هذا‭ ‬الفيلم‭ ‬سورياً‭ ‬حقاً‭.‬

قبل‭ ‬أسبوع‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬موعد‭ ‬انطلاقنا‭ ‬للتصوير،‭ ‬جاء‭ ‬الأمر‭ ‬من‭ ‬وزارة‭ ‬الداخلية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬من‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬بمنع‭ ‬تصوير‭ ‬الفيلم،‭ ‬ولم‭ ‬تنفع‭ ‬الاحتجاجات،‭ ‬فالفيلم‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬ثائر‭ ‬فرد‭ ‬في‭ ‬مجابهة‭ ‬السلطة،‭ ‬وهذا‭ ‬ممنوع‭.‬

عدت‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬إلى‭ ‬الجرح‭ ‬القديم‭ ‬والنازف‭ ‬أبدا،‭ ‬فلسطين،‭ ‬واقترحت‭ ‬إنجاز‭ ‬ثلاثية‭ ‬‭(‬رجال‭ ‬تحت‭ ‬الشمس‭)‬‭ ‬التي‭ ‬أخرجت‭ ‬أول‭ ‬قصة‭ ‬فيها‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬الفيلم‭ ‬وبمنظور‭ ‬اليوم‭ ‬يمكن‭ ‬اعتباره‭ ‬ساذجاً،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬حدثاً‭ ‬هاماً،‭ ‬إذ‭ ‬منح‭ ‬السينما‭ ‬السورية‭ ‬الوليدة‭ ‬شرعية‭ ‬وحضوراً،‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬نيل‭ ‬الفيلم‭ ‬التانيت‭ ‬الفضي‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬قرطاج‭.‬

بعد‭ ‬الحركة‭ ‬التصحيحية،‭ ‬توفر‭ ‬مناخ‭ ‬أكثر‭ ‬انفتاحا‭ ‬وديمقراطية‭ ‬من‭ ‬السابق،‭ ‬فعدت‭ ‬وحصلت‭ ‬على‭ ‬الموافقة‭ ‬لإنجاز‭ ‬‭(‬الفهد‭)‬‭.‬

أعتقد‭ ‬أن‭ ‬‭(‬الفهد‭)‬‭ ‬كان‭ ‬الفيلم‭ ‬الذي‭ ‬حقق‭ ‬عددا‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد،‭ ‬فلقد‭ ‬كان‭ ‬بحق‭ ‬الفيلم‭ ‬الروائي‭ ‬الطويل‭ ‬الأول‭ ‬السوري‭ ‬بالكامل‭ ‬لمؤسسة‭ ‬السينما،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬الفيلم‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬حقق‭ ‬هذا‭ ‬الحضور‭ ‬والتوزيع‭ ‬العالمي،‭ ‬وإلى‭ ‬جانب‭ ‬الجوائز‭ ‬العديدة‭ ‬التي‭ ‬حازها‭ ‬من‭ ‬مهرجانات‭ ‬مختلفة،‭ ‬فلقد‭ ‬كانت‭ ‬جائزته‭ ‬الحقيقية‭ ‬هي‭ ‬أنه‭ ‬شكّل‭ ‬ظاهرة‭ ‬ليست‭ ‬لها‭ ‬سابقة‭ ‬في‭ ‬السينما‭ ‬العربية،‭ ‬إذ‭ ‬بقي‭ ‬يعرض‭ ‬في‭ ‬الصالات‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1972م‭ ‬وحتى‭ ‬الآن،‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬السينما‭ ‬السورية‭ ‬أن‭ ‬تنتظر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬عاما‭ ‬لتصادف‭ ‬نجاحا‭ ‬جماهيريا‭ ‬مماثلا‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬‭(‬رسائل‭ ‬شفهية‭)‬‭.‬


مائية بريشة نبيل المالح

في‭ ‬‭(‬الفهد‭)‬‭ ‬تمكّنت‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬ملامح‭ ‬صياغات‭ ‬لغوية‭ ‬سينمائية‭ ‬ودرامية‭ ‬كانت‭ ‬مبتكرة‭ ‬بالنسبة‭ ‬للسينما‭ ‬العربية،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬التناقضية‭ ‬المتكاملة‭ ‬بين‭ ‬العام‭ ‬والخاص،‭ ‬بين‭ ‬الـ‭(‬لا‭)‬‭ ‬الفردية‭ ‬والـ‭ ‬‭(‬لا‭)‬‭ ‬الجماعية‭.‬

في‭ ‬‭(‬الفهد‭)‬‭ ‬خسر‭ ‬بطلي‭ ‬معركته‭ ‬مع‭ ‬التخلف‭ ‬والغباء‭ ‬وفقدان‭ ‬الحس‭ ‬الجماعي‭ ‬والتمزق‭ ‬والأنانية‭ ‬النفعية‭ ‬الفردية‭ ‬قصيرة‭ ‬النظر،‭ ‬خسر‭ ‬معركته‭ ‬أمام‭ ‬كل‭ ‬ذلك،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬الفائز‭ ‬أخلاقيا‭ ‬وإنسانيا،‭ ‬وها‭ ‬أنذا‭ ‬أكتشف‭ ‬أن‭ ‬مصير‭ ‬جميع‭ ‬أبطالي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أفلامي‭ ‬كان‭ ‬متماثلا،‭ ‬في‭ ‬‭(‬بقايا‭ ‬صور‭ ‬fragments‭)‬‭ ‬و‭(‬السيد‭ ‬التقدمي‭ ‬le‭ ‬progressist‭)‬‭ ‬و‭(‬الكومبارس‭ ‬comparses‭)‬‭ ‬و‭(‬الصخر‭)‬،‭ ‬ترى‭ ‬هل‭ ‬كنت‭ ‬أتنبأ‭ ‬باحتمالات‭ ‬خسارتي‭ ‬الشخصية‭ ‬المماثلة‭ ‬أنا‭ ‬أيضا؟

بداية‭ ‬السبعينات‭ ‬كانت‭ ‬متخمة‭ ‬بالوعود‭ ‬والأحلام،‭ ‬فلقد‭ ‬نشطنا‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬صنع‭ ‬ثقافة‭ ‬سينمائية،‭ ‬وخلقنا‭ ‬بعض‭ ‬الأسس‭ ‬لنقد‭ ‬سينمائي‭ ‬تحليلي‭ ‬مختص،‭ ‬وأعدنا‭ ‬الحياة‭ ‬إلى‭ ‬النادي‭ ‬السينمائي‭ ‬الذي‭ ‬غدا‭ ‬منبرا‭ ‬لأفكار‭ ‬جريئة‭ ‬وتحليل‭ ‬واع،‭ ‬كما‭ ‬أصدرنا‭ ‬نشرة‭ ‬‭(‬فيلم‭)‬‭ ‬الصغيرة‭ ‬المتواضعة‭ ‬الحافلة‭ ‬بالأفكار،‭ ‬والأهم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أننا‭ ‬استطعنا‭ ‬فرض‭ ‬تقاليد‭ ‬الإنتاج‭ ‬السينمائي‭ ‬وبناه‭ ‬الحرفية‭ ‬والإدارية‭ ‬على‭ ‬المؤسسة‭ ‬العامة‭ ‬للسينما‭.‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬السينما‭ ‬آنذاك‭ ‬إنجاز‭ ‬فيلم‭ ‬وحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬الأسس‭ ‬لسينما‭ ‬وطنية‭ ‬ذات‭ ‬خصوصية‭. ‬وجاء‭ ‬تنظيم‭ ‬مهرجان‭ ‬دمشق‭ ‬السينمائي‭ ‬الأول‭ ‬‭(‬1972‭)‬‭ ‬الذي‭ ‬حمل‭ ‬شعار‭ ‬‭(‬سينما‭ ‬عربية‭ ‬بديلة‭)‬‭ ‬كمنطلق‭ ‬لتحقيق‭ ‬حلم‭ ‬دفين‭ ‬لدى‭ ‬السينمائيين‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬متكاملة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬سينما‭ ‬عربية‭ ‬مختلفة،‭ ‬فلقد‭ ‬تواجد‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬السينمائيين‭ ‬العرب‭ ‬الواعدين،‭ ‬مع‭ ‬أفلام‭ ‬لافتة‭ ‬للأنظار‭. ‬وبدت‭ ‬مؤسسة‭ ‬السينما‭ ‬السورية‭ ‬آنذاك‭ ‬بمجملها‭ ‬كصيغة‭ ‬متقدمة‭ ‬عن‭ ‬أيّ‭ ‬مؤسسة‭ ‬عربية‭ ‬مماثلة،‭ ‬ولكن،‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬للوهم‭ ‬من‭ ‬نهاية،‭ ‬واكتشفنا‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬الآمال‭ ‬كان‭ ‬بالإمكان‭ ‬خنقها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬إدارة‭ ‬عاجزة‭ ‬قاصرة‭ ‬واحدة،‭ ‬أما‭ ‬السينمائيون‭ ‬الواعدون‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬دمشق‭ ‬من‭ ‬أقطار‭ ‬عربية‭ ‬مختلفة،‭ ‬فلقد‭ ‬اختفت‭ ‬أسماؤهم‭ ‬في‭ ‬الغالب،‭ ‬ولم‭ ‬يبق‭ ‬منهم‭ ‬سوى‭ ‬ذكريات‭ ‬عن‭ ‬أفلام‭ ‬يتيمة‭. ‬وفي‭ ‬منتصف‭ ‬السبعينات‭ ‬اقتصر‭ ‬دور‭ ‬المؤسسة‭ ‬على‭ ‬إرسال‭ ‬البيروقراطيين‭ ‬إلى‭ ‬مهرجانات‭ ‬دولية،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬هنالك‭ ‬أفلام‭ ‬سورية‭ ‬مشاركة‭. ‬لقد‭ ‬تمكن‭ ‬البيروقراطيون‭ ‬والمتسلقون‭ ‬المهرة‭ ‬من‭ ‬شلّ‭ ‬المؤسسة‭ ‬تماما‭.‬

في‭ ‬السبعينات،‭ ‬أوقفت‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬لحوالي‭ ‬أربع‭ ‬سنوات،‭ ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬تمكنت‭ ‬من‭ ‬إنجاز‭ ‬ثلاثة‭ ‬أفلام‭ ‬روائية‭ ‬طويلة،‭ ‬هي‭ ‬‭(‬الفهد‭ ‬72‭)‬‭ ‬و‭(‬السيد‭ ‬التقدمي‭ ‬75‭)‬‭ ‬و‭(‬بقايا‭ ‬صور‭ ‬80‭)‬‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأفلام‭ ‬القصيرة‭ ‬التي‭ ‬اعتبرها‭ ‬ويعتبرها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬فريدة‭ ‬من‭ ‬نوعها‭ ‬في‭ ‬مجمل‭ ‬إنتاج‭ ‬الفيلم‭ ‬القصير‭ ‬العربي‭.‬

أعتقد‭ ‬أن‭ ‬لكل‭ ‬فيلم‭ ‬أنجزته‭ ‬مذاقه‭ ‬الخاص،‭ ‬فلقد‭ ‬كنت‭ ‬أبحث‭ ‬دائماً‭ ‬عن‭ ‬وسائل‭ ‬جديدة‭ ‬للتعبير‭ ‬السينمائي،‭ ‬ولا‭ ‬أملك‭ ‬فيلمين‭ ‬متشابهين،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬صرامتي‭ ‬وإصراري‭ ‬على‭ ‬وحدة‭ ‬الأسلوب‭ ‬الفني‭ ‬داخل‭ ‬كل‭ ‬فيلم‭ ‬على‭ ‬حدة،‭ ‬وهكذا‭ ‬قدمت‭ ‬أفلاما‭ ‬قصيرة‭ ‬أعتز‭ ‬بها،‭ ‬وحاز‭ ‬العديد‭ ‬منها‭ ‬جوائز‭ ‬دولية‭ ‬مثل‭:‬‭ ‬إكليل‭ ‬الشوك‭ ‬،‭ ‬نابالم‭ ‬–‭ ‬إيقاع‭ ‬–‭ ‬النافذة‭ ‬–‭ ‬لعبة‭ ‬الأبدية‭ ‬–‭ ‬الصخر‭ ‬–‭ ‬الدائرة‭ ‬–‭ ‬المدرسة‭. ‬ولكنّ‭ ‬عدداً‭ ‬منها‭ ‬لم‭ ‬ينج‭ ‬من‭ ‬الصلب‭ ‬أيضا،‭ ‬فإلى‭ ‬جانب‭ ‬منع‭ ‬الفيلم‭ ‬الطويل‭ ‬‭(‬السيد‭ ‬التقدمي‭)‬‭ ‬منع‭ ‬‭(‬المدرسة‭)‬‭ ‬و‭(‬الدائرة‭)‬‭.‬

في‭ ‬منتصف‭ ‬السبعينات‭ ‬بدأت‭ ‬معالم‭ ‬سقوط‭ ‬هرم‭ ‬الأحلام‭ ‬الذي‭ ‬بناه‭ ‬السينمائيون،‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬البيروقراطيين،‭ ‬وتبعثر‭ ‬المثقفون‭ ‬في‭ ‬صراعات‭ ‬أيديولوجية‭ ‬صغيرة،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬كانوا‭ ‬دعاة‭ ‬منهجية‭ ‬ديمقراطية،‭ ‬غدوا‭ ‬يمارسون‭ ‬حيال‭ ‬بعضهم‭ ‬أشرس‭ ‬أنواع‭ ‬الإرهاب‭ ‬الفكري،‭ ‬وغفلوا‭ ‬عن‭ ‬تلاحم‭ ‬الرجعية‭ ‬والسلفية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تستعد‭ ‬لممارسة‭ ‬إرهابها‭ ‬الحقيقي‭ ‬القاتل‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الثمانينات‭. ‬وقد‭ ‬استطاعت‭ ‬السلطة‭ ‬إيقاف‭ ‬هذا‭ ‬المد‭ ‬الرجعي‭ ‬في‭ ‬حينه،‭ ‬منقذة‭ ‬البلاد‭ ‬مما‭ ‬تعاني‭ ‬منه‭ ‬الآن‭ ‬أقطار‭ ‬عربية‭ ‬أخرى،‭ ‬ولكن‭ ‬المثقفين‭ ‬كانوا‭ ‬قد‭ ‬خسروا‭ ‬مصداقيتهم‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬طويل‭ ‬لانهم‭ ‬لم‭ ‬يستطيعوا،‭ ‬لسبب‭ ‬أو‭ ‬لآخر،‭ ‬أن‭ ‬يشكلوا‭ ‬كتلة‭ ‬متراصة‭ ‬متفقة‭ ‬على‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المبدئيات‭.‬

في‭ ‬بداية‭ ‬الثمانينات،‭ ‬هاجرت‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬أولا‭ ‬كأستاذ‭ ‬زائر‭ ‬في‭ ‬جامعتي‭ ‬‭(‬أوستن‭ ‬–‭ ‬تكساس‭ ‬ولوس‭ ‬أنجلوس‭)‬‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬محاضرات‭ ‬في‭ ‬جامعات‭ ‬أميركية‭ ‬مختلفة‭ ‬وعرض‭ ‬لعدد‭ ‬من‭ ‬أفلامي،‭ ‬ثم‭ ‬عدت‭ ‬لأقيم‭ ‬في‭ ‬جنيف،‭ ‬وبعد‭ ‬عام‭ ‬هناك،‭ ‬وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬مع‭ ‬عائلتي‭ ‬الصغيرة‭ ‬مهاجراً‭ ‬مع‭ ‬أمتعتي‭ ‬في‭ ‬سيارة‭ ‬كغجري‭ ‬أجوب‭ ‬أوروبا‭ ‬باحثاً‭ ‬عن‭ ‬وطن‭ ‬مؤقت،‭ ‬حتى‭ ‬وصلت‭ ‬أثينا،‭ ‬والإقامة‭ ‬المؤقتة‭ ‬المقررة‭ ‬استمرت‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬تسع‭ ‬سنوات‭.‬

في‭ ‬فترة‭ ‬الهجرة‭ ‬الجديدة‭ ‬هذه،‭ ‬أنجزت‭ ‬برامج‭ ‬تلفزيونية،‭ ‬وفيلماً‭ ‬روائياً‭ ‬–‭ ‬تسجيلياً‭ ‬طويلاً‭ ‬باسم‭ ‬‭(‬تاريخ‭ ‬حلم‭)‬‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬أقرأ‭ ‬فيه‭ ‬تطور‭ ‬مفهوم‭ ‬الحرية‭ ‬عبر‭ ‬المجتمعات‭ ‬الإنسانية‭ ‬منذ‭ ‬القديم‭ ‬وحتى‭ ‬عصرنا‭ ‬هذا‭.‬

في‭ ‬السنوات‭ ‬الثلاث‭ ‬الأخيرة،‭ ‬حاولت‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬إنشاء‭ ‬محطة‭ ‬فضائية‭ ‬عربية‭ ‬مركزها‭ ‬أثينا،‭ ‬وكان‭ ‬حلمي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مركزاً‭ ‬للطاقات‭ ‬الإبداعية‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬تيار‭ ‬التخلف‭ ‬والسلفية‭ ‬والأصولية‭ ‬والتمزق‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬بدأ‭ ‬يغزو‭ ‬المنطقة‭ ‬بشكل‭ ‬حثيث‭ ‬مدروس‭ ‬ومبرمج،‭ ‬ولكنّ‭ ‬مشروعي‭ ‬الذي‭ ‬استهلك‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬والعمر،‭ ‬كان‭ ‬محكوماً‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬شهداء‭ ‬كثيرين‭ ‬في‭ ‬المعركة‭ ‬مع‭ ‬البترودولار‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يمثله‭ ‬من‭ ‬تخلف‭ ‬وتمزق‭ ‬وانكفاء‭.‬

في‭ ‬مطلع‭ ‬1992م،‭ ‬أنهيت‭ ‬هجرتي‭ ‬القسرية،‭ ‬وعدت‭ ‬إلى‭ ‬الوطن،‭ ‬لأخرج‭ ‬فيلم‭ ‬‭(‬الكومبارس‭)‬‭ ‬الطويل‭ ‬الذي‭ ‬كتبته‭.‬

في‭ ‬الثمانينات‭ ‬تم‭ ‬ظهور‭ ‬عدد‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬الأفلام‭ ‬السورية‭ ‬الهامة،‭ ‬ولكنّ‭ ‬عددها‭ ‬يبدو‭ ‬مضحكاً،‭ ‬أربعة‭ ‬أو‭ ‬خمسة‭ ‬أفلام‭ ‬في‭ ‬عشر‭ ‬سنوات،‭ ‬ولكن‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يمنع‭ ‬أصحابها‭ ‬من‭ ‬تجيير‭ ‬السينما‭ ‬السورية‭ ‬بتاريخها‭ ‬كله‭ ‬لصالحهم،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬قناعتي‭ ‬بأنه‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هنالك‭ ‬إضافة‭ ‬بارزة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬تأسيسه‭ ‬في‭ ‬السبعينيات،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬السبعينات‭ ‬كان‭ ‬أكثر‭ ‬جرأة‭ ‬وشجاعة،‭ ‬ولكن‭ ‬ذلك‭ ‬متروك‭ ‬حتماً‭ ‬لناقد‭ ‬أو‭ ‬مؤرخ‭ ‬محايد‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬الأمور‭ ‬بموضوعية‭ ‬تتجاوز‭ ‬التزييف‭ ‬المبرمج‭.‬

نظرة‭ ‬سريعة‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الطريق‭ ‬الذي‭ ‬امتد‭ ‬لحوالي‭ ‬ثلاثين‭ ‬عاماً‭.‬

أتذكر‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬براغ‭ ‬وصفا‭ ‬للفنان‭ ‬كتبه‭ ‬أديب‭ ‬تشيكي‭ ‬‭(‬لا‭ ‬أتذكر‭ ‬اسمه‭ ‬حالياً‭)‬‭ ‬يشبّه‭ ‬فيه‭ ‬الفنان‭ ‬بالطائر‭ ‬الذي‭ ‬يحمله‭ ‬معهم‭ ‬عمال‭ ‬المناجم‭ ‬إلى‭ ‬أعماق‭ ‬المنجم‭. ‬وهذا‭ ‬الطائر‭ ‬هو‭ ‬جهاز‭ ‬الإنذار‭ ‬الحي،‭ ‬فهو‭ ‬إذ‭ ‬يختنق‭ ‬أولا،‭ ‬فإنّه‭ ‬ينبه‭ ‬العمال‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬غاز‭ ‬سام‭.‬

لقد‭ ‬آمنت‭ ‬دائماً‭ ‬بأن‭ ‬السينمائي‭ ‬هو‭ ‬نبيّ‭ ‬مجتمعه‭ ‬وعصره،‭ ‬وفي‭ ‬بلاد‭ ‬مثل‭ ‬بلادنا،‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬ينصّب‭ ‬نفسه‭ ‬مسؤولاً‭ ‬في‭ ‬وطنه‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬الظروف،‭ ‬ولكنني‭ ‬نسيت‭ ‬حقيقة‭ ‬أساسية،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬التبرع‭ ‬بمهمة‭ ‬طائر‭ ‬المنجم‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يحمل‭ ‬معه‭ ‬واقع‭ ‬أنه‭ ‬سيكون‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬يدفع‭ ‬آخر‭ ‬أنفاسه‭.‬

أتساءل‭ ‬اليوم،‭ ‬ماذا‭ ‬كان‭ ‬مشروعي‭ ‬السينمائي،‭ ‬وأين‭ ‬أصبح؟

إن‭ ‬أيّ‭ ‬مراقب‭ ‬لأيّ‭ ‬عمل‭ ‬أنجزته‭ ‬يعلم‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬أبحث‭ ‬دون‭ ‬توقف‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬السينمائية‭ ‬التي‭ ‬مازلنا،‭ ‬في‭ ‬أيّ‭ ‬مكان‭ ‬من‭ ‬العالم،‭ ‬في‭ ‬أبجدياتها‭ ‬الأولى،‭ ‬فأنا‭ ‬لا‭ ‬أملك‭ ‬فيلمين‭ ‬متشابهين‭ ‬كلغة‭ ‬سينمائية‭ ‬وكتعبير‭ ‬عام،‭ ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬لديّ‭ ‬القناعة‭ ‬بأنني‭ ‬لم‭ ‬أبدأ‭ ‬الحديث‭ ‬بعد،‭ ‬فهنالك‭ ‬الكثير‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬نكتشفه‭ ‬بعد‭. ‬وهنالك‭ ‬الرغبة‭ ‬الحقيقية‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬هوية‭ ‬سينمائية‭ ‬عربية‭ ‬ذات‭ ‬خصوصية‭.‬

ثلاثون‭ ‬عاماً‭ ‬من‭ ‬تجربة‭ ‬السينما‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬ومازال‭ ‬السينمائي‭ ‬يقاتل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬بكرامته‭ ‬‭(‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬موظفاً‭)‬‭. ‬ثلاثون‭ ‬عاماً‭ ‬ولا‭ ‬يدري‭ ‬الإنسان‭ ‬فيما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬ستتاح‭ ‬له‭ ‬فرصة‭ ‬عمل‭ ‬تالية‭. ‬ثلاثون‭ ‬عاماً‭ ‬ومازال‭ ‬البيروقراطيون‭ ‬وعباقرة‭ ‬التسلق‭ ‬يملكون‭ ‬القرار‭ ‬ومفاتيح‭ ‬الأمور‭.‬

إنني‭ ‬أبحث‭ ‬الآن‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬وكأنني‭ ‬أبدا‭ ‬اليوم،‭ ‬ولكنني‭ ‬أعلم‭ ‬أن‭ ‬المحيط‭ ‬قد‭ ‬غدا‭ ‬أصغر‭ ‬وأضيق‭ ‬بكثير،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬كنا‭ ‬نبحث‭ ‬عن‭ ‬صنع‭ ‬قارّة‭ ‬نضع‭ ‬فيها‭ ‬أحلام‭ ‬منطقتنا،‭ ‬غدونا‭ ‬كسينمائيين‭ ‬جزراً‭ ‬مبعثرة‭ ‬بدون‭ ‬تاريخ،‭ ‬وحتماً‭ ‬بدون‭ ‬همّ‭ ‬جماعي‭.‬

لقد‭ ‬نجح‭ ‬العفن‭ ‬الخارجي‭ ‬الذي‭ ‬يهيمن‭ ‬على‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬بيننا‭.‬

إنني‭ ‬أشك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬أيّ‭ ‬سينمائي‭ ‬قد‭ ‬اقترب‭ ‬ولو‭ ‬قليلاً‭ ‬من‭ ‬تحقيق‭ ‬معالم‭ ‬مشروعه‭ ‬السينمائي‭ ‬فلقد‭ ‬تداخل‭ ‬الآن‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬هوية‭ ‬أو‭ ‬شخصية‭ ‬أو‭ ‬لغة‭ ‬أو‭ ‬حلم‭ ‬مع‭ ‬البحث‭ ‬باستجداء‭ ‬عن‭ ‬تمويل‭ ‬من‭ ‬الخارج‭ ‬أو‭ ‬اقتناص‭ ‬فرصة‭ ‬من‭ ‬الداخل‭.‬

تاريخي‭ ‬يحمل‭ ‬تسعة‭ ‬أفلام‭ ‬طويلة،‭ ‬عشرات‭ ‬الأفلام‭ ‬القصيرة،‭ ‬برامج‭ ‬تلفزيونية،‭ ‬كتابات‭ ‬على‭ ‬الرفوف،‭ ‬عشرات‭ ‬الجوائز‭ ‬وأكداس‭ ‬من‭ ‬المقالات‭ ‬النقدية،‭ ‬والمرآة‭ ‬تقول‭ ‬إنني‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬الإبداع‭ ‬لأربعين‭ ‬سنة‭ ‬أخرى،‭ ‬ولكن‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬يبدو‭ ‬وكأنه‭ ‬ورد‭ ‬على‭ ‬نعش‭ ‬حلم‭ ‬فلقد‭ ‬فاز‭ ‬الآخرون‭. ‬فاز‭ ‬التخلف‭ ‬الذي‭ ‬يستشري‭ ‬عبر‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي‭. ‬سقطت‭ ‬أفكار‭ ‬العدالة‭ ‬والمساواة‭ ‬وأصبح‭ ‬قانون‭ ‬الغاب‭ ‬أكثر‭ ‬شرعية‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬وقت‭ ‬مضى،‭ ‬سقط‭ ‬الجمال‭ ‬الذي‭ ‬كنا‭ ‬نحاول‭ ‬تكريسه‭ ‬وظهر‭ ‬إلى‭ ‬السطح‭ ‬جمال‭ ‬السلع‭. ‬سقط‭ ‬عمودنا‭ ‬الفقري‭ ‬فغدونا‭ ‬كالحيوانات‭ ‬الهلامية‭ ‬التي‭ ‬تتقولب‭ ‬حول‭ ‬أيّ‭ ‬شيء‭. ‬سقطت‭ ‬عظمة‭ ‬البحث‭ ‬والجدل‭ ‬والاكتشاف‭ ‬وسادت‭ ‬ثقافة‭ ‬التبعية،‭ ‬فازت‭ ‬النصب‭ ‬المحنطة‭ ‬والأفكار‭ ‬السلفية‭ ‬وخسرت‭ ‬الأرواح‭.‬

صحيح‭ ‬أنني‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬كثيرين‭ ‬سيتابعون،‭ ‬وأنا‭ ‬متفائل،‭ ‬ولكنه‭ ‬تفاؤل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إنقاذ‭ ‬روحي‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تغيير‭ ‬العالم‭. ‬لقد‭ ‬عملت‭ ‬في‭ ‬السابق‭ ‬مقاتلاً‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬وهم‭. ‬أما‭ ‬الآن،‭ ‬فأنا‭ ‬أعلم‭ ‬أنه‭ ‬وهم‭ ‬ولكنني‭ ‬لن‭ ‬أتراجع‭.‬

ويحضرني‭ ‬هنا‭ ‬بابلو‭ ‬نيرودا‭:‬

‭ ‬مثل‭ ‬كلّ‭ ‬حياة‭ ‬عابرة

‭ ‬لعل‭ ‬حياتي‭ ‬قد‭ ‬اختلطت‭ ‬بوهم

‭ ‬سفاكو‭ ‬الدماء‭ ‬قتلوا‭ ‬حلمي

‭ ‬وبمثابة‭ ‬ميراث‭ ‬أخلف‭ ‬جراحي‭.‬

كتب‭ ‬نبيل‭ ‬المالح‭ ‬هذه‭ ‬الشهادة‭ ‬في‭ ‬تجربته‭ ‬السينمائية‭ ‬بطلب‭ ‬من‭ ‬الكاتب‭ ‬السوري‭ ‬تيسير‭ ‬خلف،‭ ‬وتنشر‭ ‬هنا‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.