طفولة الزفت

الخميس 2016/09/01
لوحة: حسين جمعان

كان المرحوم والدي مجرد أجير بسيط بيد مثقوبة، دُفن جميع أخوته العشرة إلى جانب قبر جدنا في تربة الريف، قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية. ومن هناك، قررت والدته أن تحمله، وهو طفل ما يزال، على كتفيها وتسيح به في أرض الله الواسعة، هروبا من مجاعة كانت قد أكلت الأخضر واليابس من مغرب الأربعينات.

من ضواحي مدينة الحسيمة في أقصى ريف الشمال، مرورا بطنجة، كانت وجهة الجدة قد وقعت على مدينة الدار البيضاء، التي تعرف بها والدي على والدتي، قبل أن يتزوجا ويقررا معا إغراق العالم بضجيج الأطفال، فيما كانت تعتبره جدتي، المكلومة في صغارها الأموات، تعويضا لها عن خساراتها الإنجابية السابقة.

وفي هذه المدينة الغول، كانت الإقامة الأولى عبارة عن غرفة مكتراة مع الجيران بحي درب ميلان، وتحت سقفها جئنا، أنا وإخوتي الثلاثة، إلى العالم، قبل أن تقرر الأسرة الانتقال بعدها إلى حي بن امسيك الصفيحي، الذي كانت له سمعة طيبة، جراء مقاومة ساكنته التاريخية الشرسة للمستعمر الفرنسي، طمعا في الاستفادة من أكثر من غرفة، مع فناء داخلي يتوسط ما كنا نعتبره بيتنا الجميل الواسع، الذي لا يكلف والدي أقساطا كرائية مؤرقة.

ما بين سنة 1965 تاريخ ميلادي وسنة 1978، تاريخ إنهائي لمرحلة طفولتي المتأخرة، التي صادفت عملية محو حي بن امسيك من الخريطة المجالية المغربية،عشت كما لم أعش. بالمعنى الذي يحيل على الشيء ونقيضه. في هذه المرحلة تعلمت كيف أكون «رجلا «، أو بالأحرى، كيف أستطيع أن أحرق المراحل من أجل أن أمسك النضج من قرنيه، وأسخره لاقتناء حاجياتي الضرورية، التي لم تكن إمكانات الأسرة قادرة على توفيرها لي كاملة، خاصة كتبي ودفاتري وبعض ملبسي، الذي كان أغلبه مستعملا.

وعلى الرغم من ذلك، لم أكن أحس بسطوة هذا الفقر المستشري، ولا بجلال ضيمه الذي يجرح الروح، ما دامت ساكنة الحي كلها من الفقراء المعوزين (إذا عمت هانت)، ثم لأن أسرتي كانت توجد في وضعية «أفضل» قليلا من باقي الأسر الأخرى المجاورة، ممن كان أفرادها يكملون، في أغلب الليالي، عشاءاتهم في الأحلام.

على أن ما هالني حقا، وأنا في هذه السن المبكرة، وفي هذا الحي الصفيحي بالذات، الذي نضجت فيه قبل الأوان، هو ذلك الإحساس القاسي بالاجتثاث، جراء اتخاذ المصالح الرسمية قرارا بترحيل ساكنته إلى منطقة صفيحية أخرى نائية، من أجل فسح المجال أمام أول مقطع من الطريق السيار في المغرب، شاءت «المصلحة العامة» أن يمر فوق موطن صباي.

هكذا، بين عشية وضحاها، اختفى حي بن امسيك طيب الذكر، أو بالأحرى اختفى جزء أساس من طفولتي. أكثر من ذلك، لم يكن مقدرا تجميع المرحلين بما يضمن استمرار علاقات جواراتهم السابقة؛ فذاب بذلك ملح كل حياتنا الماضية. تفرق الجيران، واختفى أصدقاء الطفولة.

شخصيا، لم أكن مستعدا لضرب صفح عن جزء من تاريخي الشخصي، بما يمثله هذا التاريخ، على بؤسه وقذارته، من أفضية متواضعة وأحداث بسيطة وصداقات حميمة. أتذكر الآن تلك الأزقة الضيقة الحارة حديثة التبليط. أتذكر أبواب البيوت المفتوحة على الدوام. أتذكر منظر الأمهات وهن يقلبن زرعهن المغسول، المفروش فوق الأرض، في انتظار أن يجف.

أتذكر اصطفافنا نحن الأطفال أمام السقايات العمومية لجلب نصيبنا من الماء. أتذكر تحلقنا حول مذياع الحي الوحيد للاستمتاع بقصص ألف ليلة وليلة والأزلية وسيف بن ذي يزن. أتذكر متعة الذهاب مع الأصدقاء إلى سوق الجمعة الأسبوعي (وكان يسمى شْطَيْبَ) لارتياد حلقات مروضي الثعابين والقردة وشاربي الماء الساخن والموسيقيين الجوالين.
أتذكر ذلك السفر المرهق، الذي كان يقودنا، مثل أيّ عصابة صغيرة، إلى قطع أكثر من عشرين كيلومترا، مشيا على الأقدام، كلما اشتقنا لقضاء يوم من الجوع بما كان يسمى شاطئ عكاشة، والذي لم يكن لا شاطئا ولا هم يحزنون، بقدر ما كان عبارة عن مكب لنفايات مجارير المدينة والمعامل المجاورة لها.
أتذكر، الآن، كل ذلك وغيره كثير، وأقول في خاطري، لقد كانت مجرد حياة رثة و»مليئة بالثقوب»، ثم أرجع لأضيف: لكن مذاقها، مع ذلك، كان له مفعول العسل على اللسان!

ثم فجأة اختفى كل شيء، لتبدأ معه حياة أخرى جديدة، كان من اللازم أن يصبح لها هي الأخرى مذاقها الخاص بها. لتبقي ذكرى موطن طفولتي -الذي أمر بجانبه من حين إلى آخر- مجرد شريط من الزفت الأسود تذرعه سيارات المتعجلين من المسافرين، ولا أحد منهم فكر لحظة في أن يلقي تحية لأهل الأرض السابقين؛سكان حي بن امسيك الصفيحي طيب الذكر والذكرى، الذي كنت واحدا من ساكنته.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.