قضبان القطارات والنافذة والغابة

ليس للأمر علاقةٌ بالصخب، فلقد كانت طفولتي في غُرفةٍ تُطلُّ على قضبانٍ حديديةٍ لا يمرُّ يومٌ دُون أن تهرولَ فوقها القطارات.

كيف كنتُ أنامُ إذنْ وهذه القطارات بزمجرتها تمرُّ كلَّ ليلةٍ قريبًا مِن نافذتي؟ كيف كنتُ أنامُ في غرفةٍ ذاتِ نافذةٍ ضيقةٍ تُلهب الشُّمس حوائطَهَا طوال اليوم في صيفٍ يُمزِّق الرُّوح؟

هل كانت رائحة أبي الذي يلفُّ ذاتَهُ عليَّ هي ما كانت تُطمئنني مِن غضب القطارات؟ هل كانت يَدُهُ التي دائمًا ما أمسكتْ بزجاجة ماءٍ باردةٍ يُداعبُ بها رقبتي وظهري هي ما تهوِّنُ عليَّ هذا القيظ؟

أتذكَّرُ ذلك اليوم، الذي قبَّلني فيه على وجنتي كعادتِهِ، ثُمَّ دفعني بربتةٍ على مؤخرتي -دائمًا ما صاحبها ضحكٌ- لأذهب إلى مدرستي؛ كُنَّا قد توصَّلْنا قبلها بأيَّامٍ قليلةٍ إلى اتفاقٍ؛ أن أذهب إلى مدرستي وحدي، أنا ابن العاشرة لم أعدْ صغيرًا، أعلنتُ التمرُّدَ، وأعلنَ الهزيمة.

يومها، عندما عدتُ، بعد 6 ساعاتٍ مِن خروجي، كانت البناءة تمتلئُ بنساءٍ يتَّشحنَ بالسواد، وأمّي التي كانتْ في منتصف الثلاثينات تبكي، وتقول لأُخت أبي «حسني مات… حسني مات يا أمل، وهو لا يزالُ ابن الخامسة والأربعين… حسني مات».

تجمّدتُ. تمزّقتُ. ونسيتْ جفوني أن تجفلَ، ونسيَ قلبي أن يدفع الدَّم إلى بقية جسدي، فتهاويتُ.

هل حزنت القطاراتُ عندما مات أبي؟ ألهذا توقَّفَتْ عن المرور أمام بيتنا؟ ألهذا خلعوا القضبان الحديدية في الأسبوع التالي لموت أبي؟ ولم يعد القطارُ إلى مدينتنا مِن يومها؟

أنا اليوم تركتُ مدينة طفولتي، تركتُ آثار قضبان قطاراتها، ضجيجها، والبيت الذي أصبح أكثر برودةً منذُ مات أبي؛ أنا اليوم هنا في هذه المدينة التي توقظني كلَّ ليلةٍ، لأرى شمسها المتردِّدة تتلصَّصُ عليَّ، بينما أنا جالسٌ، أتنقَّلُ بذهنٍ مُفتَّتٍ، بين قائمة موسيقى تمتلئُ بالجاز والباروك دون ترتيبٍ، وبين قصائد مُتشظِّيةٍ برِّيَّةٍ للكُرديِّ سليم بركات؛ الكرديُّ ابن الغابة.

الكرديُّ الغابة. الغابة التي هي أمي. أمي التي عوَّضتْني بصمْتِهَا وعتْمتِهَا عن رائحة الأبوة. الغابة التي هي أبي. أبي الذي ضمَّد فراغ قلبي، بعد أن خذلني أبي ومات وأنا ابن العاشرة.

الآن هي السَّادسة صباحًا بتوقيت القاهرة المقهورة، الآن هي السادسة صباحًا بتوقيت شمسٍ تشرق على أرضٍ ليس بها جديدٌ، كما يبدأُ بيكيت روايته الأولى «ميرفي»، التي ظهرتْ رُوحُهُ فيها مُتشبِّعةً برُوح جويس؛ هل كان بيكيت يبحثُ عن أَبٍ هو الآخر، فوجدَهُ في جويس، ثُمَّ تمرَّد على أبيه، فتركَهُ، وترك الإنكليزية كُلَّهَا، باحثًا في الفرنسية عن أُمٍّ، حنونٍ، دُون سطوةٍ، وانسحاقٍ؟

هل سأكتبُ روايتي الأولى وأنا مُتشبِّعٌ برُوحِكَ أيُّها الكرديُّ القابع في أقصى الشمال؟ أيُّها الكرديُّ الذي يكتبُ بعربيةٍ تنتزعُ جموحها مِن ذاتها؛ هل سأتناسى الوحشة التي تتركها في هذه المدينة، الوحشة التي تتركها في كلِّ مدينةٍ؟ لا أعرف، وربما لن أعرف يومًا.

أبي، المغترب في لغة الكتابة، أبي البعيد القابع بقلب غابةٍ في أقصى الشمال، ربما لن تصلَكَ يومًا رسائلي.

لكنِّني أعرفُ أنَّكَ ستدركُ أيُّها الكرديُّ، بطريقةٍ ما، أنني -ولدُكَ- هنا، وسط كلِّ هذا الضجر، أؤنسُ وحشتي بوحشية لُغتِكَ، بحزنها، وصخبها ورائحتها المفعمة برائحة الغابة.