ريشة لن تخذلني

الخميس 2016/09/01
لوحة: فادي يازجي

أفتح مخبأ طفولتي لا لكي أشفى من ألم الحنين فقط بل لألوّن ماضيا رماديا بريشة مكثّفة الألوان. بعد ربع قرن أجاهد كي أرتب أحاسيسي المطوية على شاكلة قصة تصرخ بصمت وتلوّن بهدوء وتبكي بابتسامة، كما كان يفعل جدي تماماً. نعم جدي الذي علّمني استعمال سلاحه لمواجهة أيّ اضطراب يمكن أن يجتاحني على غفلة.

ما قد يكون؟ لما اختزلتُ أرض جدي العزيزة برشّة حجارة مدعوكة بنور وظل؟ ما قصة الكرسي الخشبي المتواجد في كل لوحة من لوحاتي؟

كانت جلساتي المطوّلة في منزل جدّي وجدتي لها طابعها المميّز، فكم جذبتني تلك الزركشات المنمّقة بهدوء! خاصةً وأنّ منزلنا كان له طرازٌ حديث مختلف تماماً عن منزل جدي. من الصعب عليّ أن أنسى مثلاً ذاك السيراميك المزركش بالأرابيسك. ها أنا ذا أرسم الكرسي، أزيد عليه بعض الإضافات التي هي توجّهنا، من خلال ارتباطها بعناصر أخرى، نحو إيحاءات سريالية رمزية.

جامعةً كل هذه الرموز (الكرسي الخشبي، التفاحة، السيراميك المزركش،…)لأوصل بينها خطوطاً غير مرئية، أوجد بينها علاقات فنية، تشكيلية، ضمن تأليف يعطي للكرسي مركز الثقل في اللوحة.

لقد كرّستُ للكرسي عدة أعمال فنية جاعلةً منه البطل الأساسي على مسرحي التشكيليّ، فهو الشاهد على تلك الأنامل ، بصمات أنامل لطالما اغرورقت في التراب علّها تفتّش عن كنز، على الأغلب هو رائحة الذكريات المغسولة بطفولة نضجت قبل أوانها.

لم يبق من الماضي إلا السكينة التي كان يستعين بها جدي كردّ على ثرثرة جدتي التي لا تنتهي، كل ذلك قابعٌ في عمق ذاكرتي، كيف له أن يجابه كل ذلك الضوضاء دون أن ينطق حتى بكلمة، كأنّي به يطبّق مقولة «إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب». من هنا جاءت لوحتي مبسّطة برموزها، ساكنة بهدأة ألوانها، عبّرت عن ذاتها بحكمة عارف أنّ للبوح فقط مكانا على الورق وعلى القماش المغرّى بلعبة الحصى والتراب!

أين جدي؟…

إنّي على يقين أنّه بقي حياً في وجداني، يكفي أني أكتب عنه ولأجله، أيامنا وأشياؤنا المشتركة لن تمحَى، علّمني درساً في بالغ الأهمية ولو مؤخراً، هو سلاح الصمت الأكثر فعالية في مواجهة ثرثرة العالم الخارجي، والاستمتاع بالغوص في لعبة التأمل.

اليوم أسلّم هميّ لريشة لن تخذلني، بل تكتبني مادةً وروحاً من خلال كل إمضاء أختم به لوحتي. جدّي لم يتنازل عن كرسيّه البسيطة، لأجل هذا الوفاء أنفض عن جسدي ولهذه اللحظة كل الأوجاع محوّلةً إياها إلى عود كبريت لا يحترق كغيره، بل يكتب بحرارة:

إليك… طالما أنا على قيد الكتابة!

إليك… تتمة رموز تحكي حكايا أخرى!

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.