الرأسمالية الشمولية والعالم العربي

الأربعاء 2017/02/01
لوحة: يوسف عبدلكي

ما لفت انتباهي في هذا الحوار هو إرجاع سلافوي جيجك كل ما يحدث، اليوم، في العالم إلى «نفوذ الرّأسمالية الشّمولية، التي تلتهم كلّ ما تمرّ عليه»، ليس لأنني أنكر دور وتأثير الرأسمالية لا سيما وقد انتصرت اليوم كليّا في كل بقاع العالم على وجه التقريب، وإنما لأن مثل هذا التفسير بعامل واحد لا يساعد على فهم التقلبات والحروب الجارية اليوم في العالم العربي. هذه التطورات التي جعلت وفق تعبيره بلدين عربيين «بصدد التغيير أو الاختفاء: العراق وسوريا»، يرجعها جيجك إلى مجرد كون الغرب يتدخّل كثيراً، بشكل مبالغ فيه، في دول عربية، وعالمثالثية».

هذا التفسير أحادي العامل يعني أنه لا توجد، من وجهة نظر جيجك، عوامل أخرى داخلية، كالاستبداد وتوريث الحكم وطبيعته القبلية والطائفية، والفساد، وهلم جرا، كان لها بدورها، وعلى الأرجح بشكل أساس، تأثيرها في إخفاق الدولة الوطنية العربية وتمزقها وانهيارها وتشرذم شعوبها إلى طوائف وقبائل، ووقوعها تحت الاحتلال من جديد. هذا دون أن نذكر دور الفاعلين الإقليميين.

القول إذن بأن الأمر كله راجع إلى تدخل الغرب هو في الحقيقة قول بنظرية المؤامرة الكونية التي يحاول النظام السياسي العربي أن يتهرب عبرها من مسؤولياته التاريخية في ما يحدث اليوم من تشرذم وحروب وتفكك في البلاد العربية. ما من شك، كما يقول سلافوي جيجك، أن «التّدخل الأميركي في العراق حطّم أشياء كثيرة مهمّة»، لكن النظام السياسي العربي لم يستخلص العبرة من هذا الغزو الأميركي ولم يقم بإدخال أيّ إصلاحات جوهرية على نظامه في اتجاه بناء الشرعية التي تقوم عليه الدولة الحديثة، الكفيلة وحدها بالحفاظ على وحدة الوطن والشعب.

لقد كان من الواضح منذ الغزو الأميركي للعراق بأن النظام العربي البوليسي يشكل خطرا على «الأمن القومي» لكل بلاد من بلدان المنطقة بالنظر إلى ما يحدثه من هشاشة في الصف الداخلي نتيجة طبيعته القائمة على القوة والعنف وليس على مبدأ الشرعية. لقد استمر النظام العربي كما كان وكأن العراق لم يتعرض قط للغزو، ربما ذلك لأن النظام البوليسي العربي يهمه مصير حكمه أكثر مما يهمه مصير الوطن، ذلك الوطن الذي كان إنقاذه يقتضي إدخال إصلاحات عميقة وحقيقية.

لكن جيجك، على ما يبدو، لا يؤمن بمثل هذه الإصلاحات في العالم العربي، بحجة أن « الديمقراطية تتعارض مع الإسلام» إذ أجاب بـ»نعم» عن سؤال يتعلق بما إذا كان يرى وجود تعارض بين الطرفين، الديمقراطية والإسلام. وإذا كان فهمنا صحيحا لقول الفيلسوف السلوفيني بأنه «سيصعب تبني الديمقراطية في العالم العربي، لأن من أخطاء الغرب أنه خذل القوى اليسارية في العالم العربي وسلّم تلك الدول للأصوليين»، فإن هذا يعني، إلى جانب وقوعه في التناقض، أنه لا يبدو معارضا للتدخل الغربي في العالم العربي إذا كان ذلك لصالح اليسار، وهو الذي سبق وأن نسب إلى هذا التدخل كل مآسي العرب، فإن عدم إيمانه بإمكان الديمقراطية في المنطقة العربية مرده إلى أن هذه الديمقراطية ستأتي بالإسلاميين إلى الحكم.

لكن ما نلاحظه على أرض الواقع هو أن البلدان العربية التي تتوفر على قدر ما من الديمقراطية هي تلك التي سمحت بمشاركة الإسلاميين في العملية السياسية، مثل تونس والمغرب، كما أن البلدان الإسلامية غير العربية التي تعرف حياة سياسية ديمقراطية هي بدورها تلك التي لا تمارس الحظر على الإسلاميين، مثل تركيا وماليزيا، بينما نجد أن الأنظمة العربية التي تمنع الإسلاميين من المشاركة في الحياة السياسية هي أنظمة بوليسية، مثل النظام القائم اليوم في مصر أو في سوريا، ذلك أن إقصاء الإسلاميين من المشاركة في الحياة السياسية ليس في الحقيقة غير رفض للحياة الديمقراطية برمتها، لا أقل ولا أكثر.

ومع ذلك فإن جيجك يقول «أرفض أن نعتمد الديمقراطية الأوروبية نموذجاً»، لكنه لا يستخلص النتيجة المنطقية من ذلك، وهي أن تطبيق هذا التصور على الحالة العربية سيجعل وجود التيار الإسلامي إلى جانب التيارات الأخرى سمة الديمقراطية في هذه المنطقة. والواقع أن هذا الإشراك للإسلاميين في الحياة السياسية، إذا ما قبلوا وتقيدوا بقواعد اللعبة الديمقراطية، قد يكون الطريق الأنجع لإدخال روح العصر في الإسلام من خلال الاحتكاك بالواقع الملموس الذي أدى الابتعاد عنه وكذا الإبعاد عنه بالفكر الإسلامي إلى التحجر والتطرف والعنف. أما القول بأن «الإسلام دين سياسي بامتياز» فهذه قراءة للإسلام من بين قراءات أخرى، وإلا لكان هذا يعني أن إسلام المسلمين الذين يلتزمون فقط بالأركان الخمسة (الشهادة، الصلاة، الصوم، الزكاة، الحج) هو إسلام ناقص.

وقد أوضح محمد أركون بهذا الصدد بأن الظروف التاريخية التي أحاطت بنشأة الإسلام هي التي تفسر تحوّله إلى دولة، بالنظر إلى غياب هذه الأخيرة زمن ظهوره، مثلما أن الفصل بين الدين والدولة في المسيحية مرده إلى الظروف التاريخية التي ظهر فيها المسيح، إذ من المعروف أن الديانة المسيحية نشأت في ظل وجود دولة قائمة هي الدولة الرومانية، علما أن المسيحية بدورها انتهت إلى التحول إلى دولة في القرون الوسطى.

لكن إذا ما استثنينا ما يبدو كأنه تناقض في الرأي حين يقول «أنا أتّفق مع آلان باديو حين يقول إن القرن العشرين قد انتهى. وانتهت معه صراعاته ومصالحه»، قبل أن يضيف بعد ذلك قائلا بأنّ «ما يحصل في سوريا هو أشبه بمعارك الحرب الباردة في الماضي»، أو حين يرجع كل الاضطرابات القائمة اليوم في العالم إلى «الرأسمالية الشمولية» قبل أن يضيف بعد ذلك قائلا «هناك تعارض رهيب بين الشّرق والغرب» مما يعني وجود عوامل أخرى ذات صلة بالصراعات القائمة في المنطقة غير العامل الاقتصادي المتجسّد في الرأسمالية الشمولية، فإنني أوافق جيجك في كثير من آرائه الأخرى، لا سيما تأكيده «ضرورة حماية الدّولة، وتوفير استقلالية وسلطة كاملتين لها، لتستطيع الالتزام بدورها وتقديم الخدمات الأساسية للمواطن، مثل الصّحة والتّعليم».

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.