تلك‭ ‬التي‭ ‬قالت

الثلاثاء 2015/08/18
الفنان: عاصم الباشا

5 ‬قصص

الرهان

توارت الشاحنة عن أنظاره، لكنه تبعها بسمعه حتى غاب صوت محرّكها وأطبق الصمت‭.‬

تركوه ممدّدًا على الأرض، معفّرًا، بفعل حبيبات الرمل على وجهه المتعرّق إذ رموه أرضًا من الشاحنة‭.‬ ودّ وهو في الهواء لو تدقّ عنقه فيرتاح، لكن عنقه تشنّجت لا غير من شدة الألم في ساقيه‭.‬ حدث ذلك قبل أن يقيّدوا يديه من وراء ظهره ويوثقوا بالحبل ذاته ساقيه المكسورتين المثنيتين إلى الوراء‭.‬

عندما أطبق الصمت طفق يفكّر: « إنه الموت البطيء إذًا «، ثم أضاف متحسّرًا: « أما كان بمقدورهم إطلاق رصاصة في الرأس؟ كان بصدد التقرير إلى أي الجانبين ينقلب، عساه يخفّف من الألم، عندما سمع عن بعد رشقات رصاص جاءت غزيرة في البدء ثم منقطعة، فطلقات متفرقة بعد حين، ربما ثلاث أو أربع، فأدرك أنهم أعدموا رفاقه التسعة‭.‬

قرّر الانقلاب على جانبه الأيمن‭.‬ فعل ذلك حابساً النفس لشدة الألم‭.‬ ما أن عاود هذا نبضه الرتيب البغيض تذكّر ما قاله الرقيب للمجنّدين اللذين حملاه ليرميانه من الشاحنة، وكان أحدهما السائق دون شك:

- قالوا ثلاثة أو أربعة أيام ويصلحون البلدوزر‭.‬ أراهن ألف ليرة أننا سنلاقيه ميتًا‭..‬

وهو يتساءل الآن منقلبًا على جانبه الأيمن ما إذا كان بمقدوره حقًا انتظار البلدوزر‭.‬

غرناطة ‭ ‬27‭/‬7‭/‬2003

بريق‭ ‬العتمة

شرعت نافذة غرفتها في الطابق العلوي بحذر شديد، فتهادت نسيمات بين خصلات شعرها المنفلت وداعبت أعلى صدرها فارتعش النهدان الوليدان‭.‬

توخّت الحذر كيلا يسمع جدّها شيئًا، فهو ما زال يقظًا أمام جهاز التلفزيون العتيق‭.‬ أما جدّتها المريضة فقد ساعدتها على الرقود في سريرها وناولتها دواء ما قبل النوم‭.‬ لعلها تغطّ بسبات عميق الآن‭.‬

كانت العتمة مطبقة، لكنها كانت تحملق في أعماقها عساها تلمح شيئًا‭.‬ حنقت على القمر لغيابه، وعلى السحب التي حجبت أنوار النجوم الخافتة‭.‬ بدا لها أن الطبيعة برمّتها قرّرت السكون‭.‬

أربعة عشر عامًا تكفي للبدء بقلق الوجود‭..‬

فتاة نمت في كنف جدّيها بعد مقتل والديها جرّاء قصف حدث في حرب قديمة‭.‬ كانت رضيعة آنذاك‭.‬

فتاة وحيدة تحاول التفتّح على الحياة‭..‬ حياتها الخاصة وسط عجوزين‭.‬

وكل ما تبتغيه فتاة في الرابعة عشرة هو التأكد من أنها غدت إمرأة‭.‬

كانت تنتظر من العتمة إشارة، حضورًا وُعدت به، ليثبت لها أن تلك النظرات الخاطفة في طريقها إلى المدرسة ما كانت سرابًا‭..‬ تنتظر ما يؤكّد لها أنها إمرأة، وأن بمقدورها أن تسترسل بالحلم‭.‬

سمعت جدّها يناديها وخُيّل إليها أنه يصعد الدرج من وقع عكّازه، فسارعت إلى إغلاق النافذة وأدارت لها ظهرها الناحل الهشّ، وارتقبت وصول الجدّ عندما سمعت صوتًا يصرخ في الخارج: «أحبّك!»

انتفض قلبها الصغير وراح يرقص في قفصها الصدري، وتسارع سريان الدماء في كيانها‭.‬

وابتسمت، لأنها رأت بريق العتمة‭.‬

1-8-2009

التركة

بهدوء من أدرك أنه ما من جدوى، لأنه آيل إلى عدم، رمق برودة المسدّس مديدًا في استلقائه على الطاولة الخشبية، أمامه‭.‬ خطر له أن يذكر والده، فآلة الرحمة جلّ ما تركه المرحوم إلى جانب ديون ما من مسدّدٍ لها‭.‬ جاء به يومًا ملفوفًا بمنديل، يذكر أنه وضع اللفافة أمامه على الطاولة، خشبية أيضًا، لكنها كانت طاولة أخرى‭.‬ لم تخرج الأمّ عن صمت ذعرها الأبديّ ولم تتبدّل سحنتها عندما خلع المنديل وأراهما بريق المعدن‭.‬ «ستّ رصاصات عيار تسعة جاهزة للإطلاق وقت الحاجة» قال ذلك وكأنه يقرأ في كتيّب للتعليمات ، أو كأنه يتلو الفاتحة، ثم أعاد لفّه بالمنديل بتؤدة، استدار وسار خطوات أربع ليرفع ذراعه عاليًا ويودع اللفافة أعلى الخزانة: «هنا، لوقت الحاجة»‭.‬

المنديل نسيج قطنيّ لا لون له، وكأنه دليلٌ، وهو مرتمٍ إلى جانب التركة: أوراق لم يعن بدراستها وكلّ ما يعرف عنها أنها وثائق ديون يلحّ بعض دائنيها في تحصيلها، ممّا ينغّص عليه التنفّس‭.‬ فوق رزمة الأوراق صفحة مصفرّة دوّنت عليها قائمة الدائنين والمبالغ التي بخّرها والده ما بين قمار وعاهرات وصفقات خاسرة‭.‬ مات أبوه بغتة، وما لبثت أن تبعته الأمّ صامتة على عهده بها‭.‬

سكن برهة أخرى بعد أن ذكر كلّ هذا وهيئ له أنها النهاية قد حلّت بتدبيرها الحكيم ورصانتها المطلقة‭.‬ مدّ يده وحمل الأداة ليفاجأ بها خفيفة‭.‬ وضعها في جيب سترته الأيمن بعد أن ملأ جيبه الأيسر بنقود معدنية تسنّت له والقدّاحة «رونسون» الثقيلة ومفاتيح الغرفة التي التجأ إليها بعد أن صودر بيت الأهل، وسبحة كهرمان لا يذكر كيف حصل عليها‭.‬ وضع كل ذلك ليوازن وضعه المسدّس في الأيمن‭.‬ حمل قائمة الدائنين واستطلع السطور دون أن يقرأ ثمّ طواها وحفظها في جيب السترة الداخلي وخرج إلى ذلك اليوم المشمس ليبحث عن دائنٍ ما آيلٍ مثله إلى عدم‭.‬

غرناطة ‭ ‬1995

تلك‭ ‬التي‭ ‬قالت‭ ‬لي

بمجرّد أن رأتها تهبط من سيارة أجرة صفراء توقّفت في الخارج قالت لي إنها لا تطيق خالتها‭.‬ بعد ذلك أصبحت أرقب الخالة بفضول أكبر‭.‬

كنت قد انتقلت إلى ملحق بنايتنا المشتركة قبل أيام والتقيت «التي قالت لي» (لا أعرف اسمها) في متجر البقالة المجاور لمدخل البناية‭.‬ قالت لي ذلك دون سابق معرفة، وكأنها تفكّر بصوت عال‭.‬

كانت الخالة على جانب من الفتنة رغم اقترابها من سن اليأس، وذلك على عكس «من قالت لي»، فهذه تسير بدأب وثبات إلى شمطاء الأدبيات التقليدية، روحًا وقالبًا‭.‬

من هنا فضولي وبدء انجذابي نحو الخالة، وتبيّن لي فيما بعد أنها كانت مرتبطة في الخفاء برجل ما مجهول، متزوج وأب لسبعة أطفال، وأنه كان يتستّر ليلقاها في شقة معارة ناحية حيّ «ركن الدين»‭.‬

انقضت أشهر واستفحلت مشاعري تجاهها سرًا، بينما كانت تلتقيه بين خفاء وآخر، إلى أن حلّ يوم تبدّلت فيه الأمور‭.‬ فقد مات والد الخالة وغدت الوريثة الرئيس لإقطاعية شاسعة في نواحي الغوطة، فانقلبت حال العشيق الذي طلّق أم أولاده السبع وصار يلاحق الخالة بالزواج، وهذه محتارة لا تدري، بينما اشتد حنق «التي قالت لي» واستشرى ليشمل ذكرى أمها المرحومة لأنها أصرّت أن تسكن أختها في بيتهم‭.‬

لكن‭..‬ لنرتب الأمر‭.‬ لنعد قليلاً ونستعرض الأمور بجلاء أكبر: كان هناك زوجان رزقا بابنة وحيدة («التي قالت لي»)، وكان الزوج زير نساء، تجحظ عيناه إذ تريان الأنثى، أي أنثى، وكان قد أدرك استحالة الأمر مع الخالة، أخت زوجه، التي لم ترتخ أبدًا أمام مساعيه‭.‬ سرعان ما تكدّرت الحياة الزوجية، ولم يحتمل قلب الزوجة فطقّ يومًا بحضور أختها وبنتها وبنت الجيران، معكّرة بموتها حياة الزوج ذي العيون البرّانية الذي ما لبث أن أُصيب بهوس الموت إلى درجة احتقنت فيه عيناه الجاحظتان في إحدى الأماسي لتغوران بغياب الجميع ولحق بزوجه إلى حيث لا رجعة ولا نظر‭.‬

النتيجة: الخالة العزباء وبنت الأخت «التي قالت لي» أصبحتا وحيدتين‭.‬ أربعينية وجذّابة الأولى وعشرينية غير مريحة المظهر الثانية‭.‬

وكان الكره قد تنامى قبل حفلات الموت المذكورة، إذ سبق أن تلاعب الرجل الخفي، وهو والد السبع بنات آنف الذكر، بخلايا الرغبة لدى الفتاة غير الجميلة بحثًا (في تلاطم المشاعر التي تطحش أحيانًا) عن لحم طري وفتي ومغاير، إلى أن التقى الخالة ذات الرغبة المختمرة فتناولها سائغة‭.‬

هكذا هرب الزبون من فتاة بدأت تسأم التصور وممارسة العادة السرية‭.‬ فبدأت الكراهية إياها‭.‬

المهم، عندما غدت الخالة ثرية أدركت أن الحصول على دِيَكة أسمن من الخفي المنجاب أمر يسير لكثرة من حام حولها بتبدّل شروطها‭.‬ وما أن هجرته لتنتقي آخر من الزحام حتى اكتشفت، في لحظة مباغتة، أن ابنة الأخت صارت تحبها كثيرًا لأنها تركت لها الرجل الخفي الذي أسرع وتزوجها، ليس نكاية بالخالة، بل هروبًا من مجاعة مؤكّدة، ولأن «التي قالت لي» ورثت بدورها جانبًا من الأملاك لا يستهان به‭.‬

رأيت من جانبي وقتذاك، ولأنني لا أكتفي بالشرط الذي يحيط بالإنسان (ربما لأنني ميسور الحال) بل بماهيته في فراغ الشروط، أنني لا يمكن أن أكون في هذه القصة لسببين: لأنني أرفض أن أكون مجرّد ديك آخر في الزحام، ولأنني همت ببنت الجيران التي حضرت موت والدة «التي قالت لي»، أي ابنة الرجل الخفي‭.‬

لكنني قررت تسجيلها، لعل وعسى‭.‬

ثم أنني، بعد تسع سنين من تزوجي بنت الجيران وإنجابها لي أطفالا سبعة، ما زلت أحوم بشكل أو بآخر حول الخالة، العزباء والفاتنة دومًا‭.‬

غرناطة، 27 /09-2002

خواطر‭ ‬أخيرة

1

عندما افترى عبد الباسط القرضاوي على القوم وقال إن العدوّ قادم من جهة الشرق كانت الضيعة مستغرقة في همومها اليومية‭.‬ فبدأ اللغط وانتهى هدوء الطبيعة‭.‬

ارتأى رهط ضرورة الإجلاء وارتأى آخرون الاستعداد للمقاومة، بينما رأى المختار أن التفاوض هو الأنسب ووافق رأيه جمع آخر من أهالي الضيعة‭.‬

لكن المقاومين رفضوا الاقتراح وسخر منهم دعاة الرحيل, وكانت الأمور لتجري بهدوء لو لم يصفع فرد من المقاومة آخر من دعاة الهروب‭.‬ كانت الصفعة كافية ليقتتل الجانبان‭.‬ حاول المختار وجماعته التدخّل فباتوا ما بين ضحايا وجناة‭.‬

فكّر عبد الباسط القرضاوي بكل هذا وهو قاعد على كرسي الطائرة التي ستقلّه إلى استراليا، لأنه كان يعرف أن ما من عدوّ قادم من الشرق‭.‬

2

ألف أحبّ باء، لكن باء كانت تحبّ تاء‭.‬

التقى ألف يومًا بالتاء فتضاربا إلى درجة الإنهاك، لكن التاء وجد القوة الكافية ليُفهم الألف أن في الأبجدية حروفاً أخرى‭.‬

فقضيا العمر متنقّلين بين الأحرف‭.‬

وانتهى الأمر بالألف والتاء بأن أنهيا حياتيهما في وحدة قاتلة لأن بقية الأحرف ما عادت تثق بهما‭.‬

وكذلك انتهت الباء التي أفاقت متأخرة وأدركت أن الأبجدية شاسعة، لكنها وجدت كل الأحرف مشغولة‭.‬

3

مررت اليوم بسوق الحميدية‭.‬

رأيت الجميع وكأنهم كما يجب أن يكونوا‭..‬ ووجدتني منهم، فرفضت

عرجت على سوق العصرونية وسرت حول القلعة لأجد مقهى متأوْربًا جهة النهر‭.‬ جلست على مقعد في حديقة، وقلت لنفسي: أنا من أشاء أن أكون وليس كما يريد سوق الحميدية‭.‬

وها أنذا، بعيدًا عن كل ذلك، أكتب هذا الهراء.

أيّار ‭ ‬2009

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.