العرب يكتبون القصص

الاثنين 2015/06/01
لوحة: كمال بلاطة

لطالما كان فن القصة بالنسبة إلى قراء العربية مدخلا مبكرا إلى الأدب الروائي. فجلّ قراء الرواية كانوا، في بدايات علاقتهم بالقراءة الأدبية، أشخاصا شغوفين بقراءة القصص القصيرة، كما هو الحال بالنسبة إليّ، فقد بدأت رحلتي مع هذا الجنس الأدبي الممتع من خلال القصص المترجمة والمنشورة في المجلات الأدبية أولا قبل أن أتحول، كغيري، إلى قراءة القصص المجاميع القصصية التي كانت تصدر في القاهرة وبيروت ودمشق.

كتابي القصصيون الأوائل كانوا غالبا هم أنفسهم كتاب جيلي والأجيال اللاحقة: انطون تشيخوف، غي دو موباسان، إدغار ألن بو، في الدرجة الأولى، وبعدهم سلسلة من الكتاب بينهم سومرست موم واميل زولا، واناتول فرانس، وكافكا، ود. اتش لورنس، وكبلنغ، ولاحقا عدد أوسع من كتاب العالم غير الأوروبي، آخرهم وأحدثهم عزيز نيسين وساحر السرد الأميركي اللاتيني غابرييل غارسيا ماركيز.

لكن هذا لم يكن إلا المدخل المشوق إلى جنس أدبي سيكتبه العرب أيضا، وسرعان ما سيتبين لنا كم إن هذا الجنس الأدبي متحول ومحير في لغته وأخيلته وموضوعاته، وكذلك في قلق كتّابه، وصعوبة وصولهم إلى النجومية، خصوصا عندما نيمّم شطر العرب منهم.

***

كانت أولى القصص العربية التي قرأتها في أواخر الستينات هي "الأخوات الحزينات" لنجاتي صدقي الذي كان له الفضل، أيضا، في اطلاعي المبكر على قصص تشيخوف وغيره من كتاب القصة الروس، وكان قد ترجمهم في وقت أسبق أواسط الأربعينيات. وبعد قصص صدقي، قرأت لمحمود تيمور وكنت مولعا بما هو أبعد من القص والسرد. ولعي كان بالنثر بما هو فن، فأسرني جبران في "النبي" والرافعي في "أوراق الورد"، وأدهشني الأخير في وصف "المجنون".

بسرعة كبيرة، كان لابد للقاريء أن يصل إلى قصص الكتاب العرب من أمثال الرائد يوسف إدريس، ويحيى الطاهر عبد الله، وإدوار الخراط، وبدر الديب، وغسان كنفاني، وسعيد حورانية، وحسيب كيالي، فزكريا تامر. ثم ابراهيم أصلان، ومحمد خضير، وكوكبة لا تحصى من كتاب القصة القصيرة في مصر والعالم العربي.

وعلى رغم ما طال فن القصة القصيرة من تهميش غير متعمد، ولكن بسبب طفرة صعود الرواية في العالم العربي وهيمنتها في العالم، فإن فن القصة القصيرة في العالم العربي سرعان ما كرس أسماء أدبية، لمجرد أن أصحابها كتبوا القصص كغسان كنفاني. ثم سرعان ما راح النقد الأدبي يفرد اسمين ويبرزهما، واحد في مصر هو يوسف إدريس، والآخر في سوريا هو زكريا تامر.

بدهي القول إن لغة القصة القصيرة عند يوسف إدريس سوف لن تكون نفسها عند تامر، فالأول شقت لغته نفسها في أرض السرد القصصي القائم على التقاطات مدهشة للواقعية في كثافة تعبيرية تلبي مفهوم القصة القصيرة وتحافظ في الوقت نفسه على فكرة الحكاية بعيدا عن أي تطلب شعري. بينما حملت لغة الثاني مؤثرات أكبر جاءت عن طريق قراءته للقصص المترجمة ذات المنحى الشعري والكابوسي وأدب تيار الوعي.

***

ليس المقصود من هذه الكلمة الشروع في تقييم جمالي أو أدبي لقراءاتنا المبكرة أو المتأخرة في فن القصة القصيرة، ولا حتى للنصوص المنشورة في هذا العدد، فهذا لو حصل سيبدو ضربا من الهرطقة الأدبية، والتجاوز على القاريء وتوقعاته، وربما مصادرة على فكرة الاختيار نفسه.

ولابد من الإشارة هنا إلى أن تواصل "الجديد" مع كاتبات وكتاب هذه النصوص بهدف جمعها وتقديمها للقراء لم تحكمه ظروف مثالية، حتى لا نقول إنها غير طبيعية أبدا. وذلك لاعتبارات شتى تتعلق بقلق العيش في ظل الأحوال العاصفة، وفي قلب الانتفاضات والحروب واللجوء والتشرد عبر المنافي الذي عصف بالأفراد والجماعات. فلم تعد هذه الاحوال، كما اتضح في السنوات الخمس المنصرمة، محصورة بشعب، كما هو الحال بالنسبة إلى أهلنا الفلسطينينن، ولكنها عمت فشملت اللبنانيين والعراقيين والسوريين والليبيين واليمنيين وغيرهم، عصفت بمجتمعاتهم الثورات، وشهدوا القتل والمآسي الفردية والجماعية، وباتوا في خضم تجارب غير مسبوقة بالنسبة إليه.

ليست أحوال كهذه مثالية لكتابة الأدب، فالأدب لا يكتب في قلب العاصفة، ولكن بعيدا عنه وقد هدأت البراكين والعواصف، وصفت سماء الإنسان.

***

هل أكتب هذا لأعطي لهذا العدد، الذي قد يبدو للقراء مفاجئا، مبررات ما، كأن أطلب حكما نقدياً مخففاً على قصص هذا العدد، أم لأقول في نهاية الأمر أن إصدار عدد من القصص القصيرة في قلب العاصفة هو ضرب من المغامرة المفتوحة على شتى المخاطر، ولكن أيضا على مفاجآت سارة؟

لاجواب، عندي، هنا، فالقصص وقص القصص، هي الفكرة، والهدف أولا وأخيرا هو استكشاف ما إذا كان العرب مازالوا يكتبون القصص القصيرة بشغف يستدرج قراء مازالوا يحبون قراءة القصص.

***

هنا في هذا المجموع القصصي، ولا أقول هذا "المختار" وفيه قصص لأسماء أدبية جديدة، جاورت قصصا لبعض أكابر كتاب هذا الجنس الأدبي في العالم العربي، نحن ربما لا "نقصّ عليك أحسن القصص". ولكننا نقصّ القصص كما أتيحت؛ قصصا تقليدية السرد، وأخرى تجريبية، قصصا تنهل من موضوعات الواقع، وأخرى من شطح الخيال، قصصا تظهر فيها شخصيات لها ملامح يعتني الكاتب بتظهير صور لها في حالات مألوفة، وقصصا يبنيها كاتبها من مجرد حالات أو تهيّؤات، أو خيالات غريبة، ولا يظهر فيها غير صوت غائم، أو صوت كاتبها. فالقصة القصيرة اجتازت مسافات بعيدا عن أصلها في الحكاية، لكنها عنيت مرات بما يجعلها تتأرجح بين سرد الحدث وقصّ الرؤيا، فهي لا تزال في أرض القصّ، وفي بعض حالاتها نجدها استدخلت في بنيتها الشعر، بلغته الكثيفة، ولازمنيته، وببرق ما يلمع فيه متجاوزا حدود الواقع إلى أفق مفتوح على كل ما لا يمكن توقعه، وحيث الكثافة القصوى عبر خيال جامح وخيط يصل لغة القصّ بالسحر واللغز، والغرابة؛ أي بالشعر

لندن يونيو/حزيران 2015

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.