آخَري وَأَنَا فِي بُرْهَةِ عَدَمْ
كَذَيْلِ ثَعْلَبٍ ذِئْبِيٍّ طَوِيْلٍ وعَريضٍ، بَرَزَ فَوْقَ أُفِقِ السَّمَاءِ الْبَعِيْدِةِ قَوسُ ضَوءٍ كَامِدِ أَبيْضَ اللَّوْنِ مُصْفَرَّهُ، ومَعْ بُرُوْزِه، غَابَ الْقَمَرُ، وغَابَ حَدُّ الْتِقَاءِ الأَرْضِ بِالسَّمَاءِ، وتَلاشَى أُفُقُ لِقَائِهمَا الْمُمْكِنْ، وتَداخَلَ بَعْضُهُمَا بِبَعْضٍ، وغَابَا؛ فَإذَا بِالْحُلْكَةِ السَّدِيْمِيَّةِ السَّوداءِ تَغْمُرُ الْكَونَ كُلَّهُ، وتَحْتَجِزُ إِشْراقَ شَمْسِ تُكَابِدُ مَخَاضَ الإشْرَاقِ، فَتَنْفِي، بِاحْتِجَازِهَا الشَّمْسَ إمْكانِيَّةَ بُزوْغِ فَجْرٍ بَدا أنَّهُ كَانَ يَتَهيَّاُ لانْبِثَاقٍ يَحْمِلُ فِي أَطْوائِهِ وعُودَ طُلُوعِ نَهَارٍ آخَرَ، وتُغَيِّبُ الْآفَاقَ والْأَبْعَادَ مُلْتَهِمَةً، فِي جَوْفِهَا الْمُعْتِمِ الْغَائِرِ الْقِيْعَانِ، مَا بَدا لِمُخَيَّلَتِيَ الضَّرِيْرَةِ أَنَّهُ بَصِيْصُ ضَوءٍ مَسْكُونٍ بِنُورٍ شَمْسٍ يُهَيئُ الْكَونَ لَاسْتِقْبَالِ بزوْغِ فَجْرٍ كَانَ يَتَهَيَّأُ لانْبِثَاقٍ سَيَأْتِي بِنَهَارِ يَومٍ جَدِيدْ.
***
أَظْلَمَ الْكَونُ الَّذي يَضُمُّني والدَّانُوبَ، فتَلاشَيْنَا وشُرْفَتَيْنَا في سَدَيْمِ عَتَمٍ حَالِكِ السَّوَادِ، فَإذا بِالدَّانُوبِ يُغَطِّي شَفَتَيْهِ بِراحَةِ كَفِّه، ويَهِمْسُ فِي أُذُنِي: "إنَّهُ الْعَدمُ"، فَهَمَسْتُ فِي أُذِنِهِ: "أَليْسَ جَميْلَاً أَنْ نَكُونَ مَعَاً فِي الْوجُودِ والْعَدمْ؟! أَلَيْسَ جَميْلَا؟!"، فَأَحْسَسْتُ بيَدِهِ الرَّاعِشَةِ تُلامِسُ، فِي حُلْكَةِ الْعَدَمِ، يَدِيْ، فِيْمَا هُوَ يَهْمِسُ، بَصَوتٍ أَشَدَّ خُفُوتَاً، فِي أُذُنِي:
"آهٍ، نِعَمْ، تِلكَ خُلَاصَةٌ مَا فَتِئَتْ جُذُورُ شَجَرَة الْحَيَاةِ المتَجَلِّيَّةِ عَلَى ضِفَّتيَّ تَمْهِسُ بِهَا فِي أُذُنَيَّ، وَمَا انْفَكَكَتُ عَنْ سَمَاعِ رَنْيْنِهَا فِي ضَمِيْرِ أُمِّنَا الْأَرْضِ، وفِي ضَمِيْريَ، ومَا كَفَّ أَثِيْرُ الْوُجُودِ عَنْ حَمْلِهَا إِلَّيَّ عَلَى مَدَى الْأَزْمِنَةِ، ومَا انْكَفَأْتُ، لِلَحْظَةٍ، عَنْ مُتابِعَةِ صَبِّهَا في آذَانِ قَاطِني ضِفَّتَيَّ مِنَ الْبَشَرِ، ولَا سِيَّمَا مِنْهُم أُوْلَئِكَ الْمأْخُوذِينَ بِكَمَالٍ ذَاتِيٍّ أَعْجَزَهُمْ تَوَهُّمُهُ عَنْ السَّعْيِ لإدْراكِ إِنْسَانِيَّتِهم، وإِكْمَالِ نَقْصِهِمْ، عَبْرَ الانْفِتَاحِ السَّويِّ عَلى آخَرِيهم وأَسْوائِهِمْ مِنَ الْبِشَرِ الإنْسَانِيينَ الْقَاطِنينَ ضِفَافِيْ، وضِفَافَ أَقْرَانِي، وأَشِقَّائِيَ وشَقِيْقَاتِيَ الأكْبرَ، والْأَعِمَقَ تَجْرُبَةً، والأَغْزَرَ عَطَاءً، مَنِّي، لِكَونِهِم سَابِقِيَّ في خَوْضِ التَّجَارِبِ، وبِنَاءِ الْحَضَاراتِ، وإِثْرَاءِ الْوُجودِ، مِنَ الأَنْهَارِ، والبُحَيْراتِ، والجَدَاوِلِ، واليَنَابِيْعْ.
وَكَذَلِكَ عَبْرَ الانْفِتَاحِ السَّويِّ عَلَى آخَرِيْهِم وأَغْيَارِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ الإنْسَانِيينَ الْعَامِريْنَ، بِدأَبٍ مُثَابِرٍ وَجَلَدٍ خَلَّاقٍ، شَوَاطِئَ آخَرِيْنَ مِنْ آخَرِيَّ كالبِحَارِ، وَالْمُحِيْطَاتِ، والسَّاكِنِينَ، فِي تَسَاكُنٍ حَمِيْمٍ وتَعَايُشٍ ثَرِيٍّ، كُلَّ سَاحِلٍ، وهَضْبَةٍ، وجَبَلٍ، وبُقْعَةٍ، وحَيِّزِ في شَتَّى جِهَاتِ أُمِّنَا الأَرْضِ الْمَعْمُورَةِ بِالْحَيَاةِ؛ أُولَئِكَ الْجَاعِلِيْنَهُ مَمْلُوءَاً، والْجَاعِلِيْنَهَا مَمْلُوءَةً، بمَاءِ حَيَاةٍ، والْحَرِصِيْنَ، أَبَداً، عَلَى إِفْعَامِهِمَا بِكَدِّ إنْسَانٍ مُبْتَكرَ حَيَواتٍ وخَلَّاقَ وُجُودْ.
غَيرَ أنَّ أغْلَبَ قَاطِني ضِفَّتَيَّ مِنَ الْبَشَرِ لَم يُصْغِ، لِسَبَبٍ أَو لآخَرَ، إلَى قَولِي، فِيمَا عَمَدَتْ قَلَّةُ قَلِيْلَةٌ زَعَمَتْ لِنَفْسِهَا تَمَايُزاً عَنْ سِوَاهَا مِنَ النَّاسِ، لَيْسَ إلى السُّخْرِيَةِ مَنِّي ومِنْ نَصَائِحي وأَفْكاريِ فَحَسْبُ، بِلْ وإلَى التَّوحُشِ في التَّعَامُلِ مَعِي عَلى نَحوٍ انْتَهَكَني بِجَسَامَةٍ مُنْقَطِعَة النَّظِيرِ، فَأَنْهَكَني، وأفْسَدَ يَنابِيْعي، وجَفَّف حَلْقِي، وجَعْلِني مَحْضِ شَيءٍ يَسْتأثِرونَ بِهِ لِأنْفُسِهِم دُونَ سِوَاهُم، أَو مَحْضَ ضِرْعٍ لُإشبَاعِ جَشَعِهمْ النَّهِمِ الآسِنِ الَّذِي لَا يُشْبَعُ، ولِإطْفَاءِ حَرائقِ اشْتِعَالِهم الشَّهْوَانِيِّ الَّتي لا تُطْفَأُ، ولإِرْوَاءِ ظَمَئِهمِ غَيرِ الْقَابلِ لإِرْوَاءٍ أَبَداً."
***
أَمْسَكْتُ بِيدِ الدَّانُوبِ، سَوِيِّيَ وآخَرِيْ، ومَضيْتُ وإِيَّاهُ نَخْطُو في حُلْكَةِ دُروبِ الْعَدمِ وسَوادِ سَديْمِهِ الْخَانِق، وَشَرَعْتُ أُمَرِّرُ لَهُ، بِلَمْسِ أَصَابِعِ الْكَفِّ وصَفَاءِ ملْمَسِ رَاحَتِهَا الْمُتشَابِكةِ الْخُطُوطِ معْ خُطُوطِ رَاحَةِ كَفِّهِ، مَا بَثَّتْهُ فِي أَثِيْرِ فَضَاءَاتِ الرُّؤَى عَبَاراتٌ كُنْتُ أَهِمسُ بِهَا، فِي دَخيَلةِ نَفْسِي، إِلَى نَفْسِي وإليَه، مِنْ مَعَانٍ وخُلَاصَاتٍ، ثُمَّ هَمَسْتُ، بِمحَبَّةٍ غَامِرَةٍ، إِلَيْهْ:
"قَدْ أَدْرَكْتُ مِنْ قَوْلِكَ الْمُكْتَنَزِ حَرْفَا حَرْفَاً، وكَلِمَةً كَلِمَةً، فِي صُلْبِ وُجْدَانِيْ، كُلَّ مَا كُنْتُ أُدْرِكُ، مِثْلُكَ، يَومَ كُنَّا مُؤَجَّلَيِّ الْوجُودِ فِي وُجُوْدٍ سُلِبْنَاهُ قَسْرَاً، مِنْ حَقَائِقَ رَسَخَتْ فِي الْوجُودِ فَحالَتْ دُوْنَنَا وأَنْ نَعِيشَ في رِحَابِ الْحَيَاةِ، ومَدَارَاتِ الْوجُودِ، هَذِه الْحميميَّة الصَّادِقَةِ الصَّافِيَة الَّتي تَجْمَعْنَا الآنَ فِي حُلْكَةِ إظْلَامِ الْعَدَمِ وسَوادِوِيَّةِ سَديْمِهِ. إنَّهِما حُلْكَةٌ وَسَوْدَاويَّةٌ لا نَعْرُفُ إلى أيْنَ تَأْخُذَانِنَا أَو كَيْفَ سَتَنْتَهِيانِ بِنَا، غَيرَ أَنَّنَا نَعرِفُ أنَّهُما قَدْ أَطْفَأَتَا، هُنَا في بُرْهَةِ الْعَدمِ هَذِهِ، الأَنْوارَ الْبَاهِرةَ الَّتي أَخَذَتِ بَشَراً مَنَ الْبَشَرَ إِلى انْبِهَارٍ عَظِيمٍ بِأنْفُسِهِم حالَ دُونَهُم ورؤْيَةِ مَا يَشُوبُ هَاتِةِ الأنْفُسِ مِنْ نَقْصٍ وقُصُورٍ، ومَا يَنْخَرُهَا مِنْ خَواءٍ، ومَا يُعَشِّشُ فِي خَرَائِبِهَا مِنْ فَسَادْ؛ فَشُكْرَاً لِلْعَدمِ الَّذي جَمعَنِي وإيَّاكَ هُنَا، وَالَّذِي وحَّدَنَا، وَالَّذِي جَلَّى في مِرايَانَا أَجَلَّ مَا فِي كَيْنُونَتِتنَا الْحَميميَّةِ الْملتحَمَةِ، وَأجْملَهُ، وأَبْهَاهُ، وأَعَزَّهُ عَلَى نَفْسِ الْوجُودِ الحَقِّ التَّوَّاقِ إلى أبْصَارِ تَجلِّيَاتهِ فِي مَرايَا حَيَواتِنَا الْحيَّةِ وهِيَ تَعْكِسُ إشْعَاعَاتِهَا صَفْوَاً إِنْسَانِيَّاً جَميْلاً يُشِعُ مِنْ بُؤرِ صَفَاءِ مَراياهُ الْمُكْتَنِزَةِ نُبْلَ غَايَاتهِ، وسُمَوَّ مَقَاصِدِهِ، وإِنْسَانِيَّةِ مَرَامِيهْ! وشُكْراً لِنِداءاتِ الْعَدَمِ الَّتي وَضَعَتْ الْبَشَرِيَّةَ بِأسْرِها في قَاربٍ واحدٍ يُوشُكُ عَلَى غَرَقٍ طُوفَانيِّ لا قَيَامةَ لَهَا مِنْهُ، ولا بَعْدَهُ، إِنْ لَمْ تُدْرِكْ إِنْسَانِيِّتها قَبْل انْدِلَاعِ أَعْتَى مَوجَاتِ الطُّوْفَانِ، وآخِرِهَا."
***
شَدَّتْ يَدُ "الدَّانُوبِ"، آخَرِي وشَرِيْكِيَ الْحَميْمِ فِي رِحْلَةِ الْبَحثِ عَنِ الْحَيَاةِ في دَائِرةِ عَدَمٍ مُتَخَيَّلِ مِنْ قِبَلِ مُخَيِّلَتِهِ ومُخَيِّلَتِي الْمًسَيَّجَتَيْنِ الآنَ، بِأَمْرِ رُؤْيَا الْعَدمِ الْكُورُونيِّ اللَّعِينِ، شَدَّتْ عَلَي يَدِيْ، وَرَاحَ يَهْمِسُ فِي أُذُنِي، بَصَوتِ أَخْفَضَ وَقْعَاً مِنْ ذِي قَبْلٍ، وأَخَفَّ نَبْراً: "حيِنَ تَنْقَضِي بُرْهَةُ الْعَدَمِ هَذِهِ، إِنْ انْقَضَتْ مُنْتَهِيَةً عَلى خَيرٍ، سيَكُونُ الأَمْرُ شَأْنُكَ، أيُّهَا الإْنْسَانُ الإنْسَانُ، سَيَكُونُ شَأْنُكَ مَعِ نَفسِكَ، ومَعَ الْبَشَرِ، ومَعِ الأَرْضِ، والطَبِيْعَةِ، والْحَيَاةِ، والْكَونِ، والْوُجُودِ، ومَعْ كُلِّ آخَريكَ وأَسْوِيَائِكَ فِي كُلِّ الأَحْيَازِ والْمَسَاحَاتِ والمَجَرَّاتِ والْكَواكِبِ والْأكْوانْ!
سَيَكُونُ الأَمْرُ أَمْرُكَ، والشَّأنُ شَاْنُكَ، أَيُّهَا الإِنْسَانُ الْإنْسَانُ. ولَيْسَ لِي، كَمَا ليْسَ لِسِوايَ مِنْ أَقْرَانِي، ومِنْ نُظَرَائي في الْوجُودِ وأَشْبَاهي، مِنْ شَأنٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ سِوَى أَنْ نُسَانِدَكَ ونَدْعْمِ خِيَاراتِكِ الطَّالِعةِ مِنْ صُلْبِ إنْسَانيَّتكِ الْجَامِعَةِ، ومنْ جَوهَرِ غَايَاتِ وُجُودِكَ، ومَعْنَى مَعْنَاهُ الْمسْتَجيبِ لِجَوهَرِ وُجودِ الْوجُودِ الْمُطْلَقِ، ولِمَقَاصِدِهِ، ومَغْزاهْ!
أَمَّا الشَّأْنُ الَّذِي يَخُصُّني، وأُخْلِصُ لَهُ، فَهْوَ أنْ أُجُلِّي فِي الْوجُودِ جَوْهَرَ طَبيْعَتي، ومَاهِيَّتي، وَغَايَاتِ وجُودي، إِنْ حَقِيْقَةً أَو مَجَازاً، فَأَنَا كَائنٌ طَيبعيٌّ كَما تَعْلَمْ، ومَا لِي مِنْ وظيُفَةٍ حقيقيَّةٍ إلَّا أَنْ أَمدَّ الْبَشَرَ بِأسْبَابٍ مِنْ أسْبابِ الْحيَاةِ الَّتي ليسَ طَمْيِيَّ ومَائِيَ، والأشِيَاءُ والكائِنَاتُ والْمَوجُوداتُ الَّتي فِي جَوفِي، أَو الَّتي تُحيطُ بِي، أَو تَنْداحُ فِيَّ، أَوْ تَمْخُرُ عُبَابيَ، أوْ تَعْلُوني وهيَ فِي الأصْلِ مِني، بِأَقَلِّهَا ضَرورةً للْحيَاةِ، وبِأعْلَاَهَا شَأْنَاً يَحْتَاجُهُ الْبَشَرُ، وبِهِ يَحْيَا الإنْسَانُ، ويُزَيْدِهُ، إِذْ يَأْخُذَهُ مِنِّي ويَعْتَني بِهِ وبِيْ، ثَرَاءً وَغِنَىً.
وَأَمَّا مَجَازِيَّةُ وُجُودي وَوُجُودِ أَقْرَانِيَ مِنْ أنْهَارِ الأَرضِ وبِحَارِهَا والْمُحِيْطَاتِ، فَإنَّمَا تَتَأْتَّىَ مِنْ أَنَّنَا نَمْنَحُكُمْ، بِلَا مِنَّةٍ، تَصَوَّراً كَامِلَاً يُعْلِمُكُمْ، إِنْ أبْصَرْتُموهُ بِإِمْعَانٍ وتَبَصَّرْتُمْ، بِصِدْقٍ، فِيْهِ، كيْفَ، عَنْ حَقٍّ، تَكُونُ الْحياةُ الَّتي أَنَا وأَسْوائِيَ أَنْهَارٌ حَقِيْقِيةٌ تُمَرْئِي صِوَراً جَلِيَّةً مِنْ صِورِ أَنْهَارِهَا الْمَجَازِيَّةِ الْعَدِيْدةِ، والمتُتَوِّعِةِ الْمجَالَاتِ والْحُقُولْ!
هَلْ تَفْهُمِني يَا شَرِيْكي؟ هَلْ تَفْهَمُني؟ وإِذْ أَفَهَمُ أَنَّكَ تَفْهَمُ أَنِّي أُخَاطِبُكَ، فِي بُرْهَة الْعَدَمِ الَّتِي تَجْمَعُنَا الآنَ، بِوصْفِكَ، مِثْلِيْ، حَقيْقَةً ومَجَازاً، وتَجلِّيَاً وُجُودِيَّاً لُغَوِيَّاً، وَواقِعِيَّاً، مُمْكِنَ الْوُجُودِ لِجَوْهَرِ فِكْرةِ الإنْسَانِ الْإنْسَانِ، فَإنِّي لَأسْئَلُكَ: هَلْ تُوافِقُني الرَّأيَ فِي مَغْزى قَوليَ إِنَّ الْبَشَرَ لَفِيْ أَمَسِّ حَاجَةٍ الآنَ، كَمَا قَدْ كَانَ حَالُ حَاجَتِهم فِي كُلِّ حَيْثٍ وآنٍ بجَائِحَةٍ وبِغَيْرِ جَائِحَةٍ، إِلَى إدْراكِ غَايَاتِ التَّبادُلِيَّةِ الحَمِيْمِيَّةِ الْخَلَّاقَةِ الْقَائِمَةِ، مُذْ بَدْءِ الْبَدْءِ، بَيْنَ الحَقِيْقَةِ والْمَجَازِ، والَّتي تَسِمُنِي وإيَّاكَ الآنَ، وإِلَى اسْتِلْهَامِهَا فِي كُلِّ مَسْعَىً لإدْرَاكِ إِنْسَانِيَّةٍ حَقَّةٍ، ولابْتكارِ حَيَاةٍ حَيَّةٍ، ولِإِثْرَاءِ وُجُودٍ هُوَ عَيْنُ عَيْنِ الْوُجُود".
***
هَمَسْتُ، مِنْ فَوريَ، فِي أُذِنِ نَهْرِ الْحَيَاةِ، شَريْكِيَ الْقَارِيِّ الأُوروبيِّ فِي رحْلَةِ النُّزُولِ الْهَادِئِ الْمُسْتَكِيْنِ إلى مَهَاوي الْعِدمِ: إِنِّيْ لأَفْهُمُكَ، وَإِنِّيْ لَأُقَاسِمَكَ التّبَصُّرَ والرَّأي، وإِنِّي لأُدْرِكُ مَقَاصِدَكَ، وأُجْزلُ إِلَيْكَ الامْتِنَانَ عَلَى صَداقَتِكَ ونُبْلِ صَحْبَتكْ، وعَلَى إخُلاصِكِ الْعَالِي لِجَوْهَرِ طَبيْعَتِك، وعَلَى صَفَاءِ بَصِيْرَتِكَ، وصِدْقِ نُصْحِكْ.
ولا أَحْسَبُ إِلَّا أَنَّكَ تُقَاسِمُني الْحَاجَةَ إِلَى رَفَعِ آيَاتِ امْتَنَانٍ، مِنْ أَيِّ لَونٍ ذِيْ مَعْنىً، لِهَذَا الْفَايْرُوسْ البُيُولُوجِيَ النَّانَويِّ الْجَائِحيِّ الْخَفِيِّ، الْمُتَوَّجِ مِنْ قِبَلِ مُسْتَقْبِلِيْهِ الْفَرِحِينَ بِهِ مِنْ وُحُوشِ الْبَشَرِ بِاسْمِ :"كُوفِيِد التَّاسِعِ عَشَرْ"، ورُبَّما، أَيْضَاً، إِلَى كُلِّ مَا أَحَاطَ بِمَجِيْئِهِ، وباسْتِطَارةِ شَرِّه الْحقيقيِّ، أَوْ الْمُضَخَّمِ الْمزْعُومِ، مِنْ أُمُورٍ وعَقَابِيلَ، وذلِكَ لِمَا وفَّرَهُ كِلَاهُمَا مِنْ تَحَدِّيَاتٍ وُجُودِيَّةٍ عَاجِلَةٍ ودائِمةٍ، ومِنْ فُرَصٍ إِضَافِيَّةٍ لِإجْرَاءِ مُرَاجَعَاتٍ نَقْدِيَّةٍ جَذْرِيَّةٍ، ومِنْ مُحَفِّزَاتٍ حَاسِمةٍ تَسْتَنْهِضُ وعْيَ الإنْسَانِيينَ مِنَ النَّاسِ وتَحُثُّهُم على الانْخِرَاطِ فيِ حَرَاكٍ جَمعيِّ مُسْتَدامٍ يَسْتَهدِفُ إنْهَاضِ وعْيٍّ إِنْسَانيٍّ جَمْعِيٍّ، وبَلْوَرةَ إِدْراكٍ وُجُودِيٍّ شَامِلٍ وعَميقٍ، ورُؤى مُستقْبَلٍ إِنْسَانيٍّ مَفْتوحَةٍ عَلَى أَوسَعِ مَعَاني الإنْسَانِ والْحَياةِ والوجُودِ، وأَعْمَقِ ومُمْكِنَاتِهَا وأَغْزَرِهَا، وأَجِملِهَا، وأسْمَاهَا، وأبْهَاهَا.
فَكُلُّ هَذِهِ التَّحَدِّيَاتِ الْوُجُودِيَّة، والْفُرصِ الإِضَافِيةِ، والْمُحَفِّزاتِ الْحَاسِمَةِ الْحَاثَّة، قَدْ نَجَمَتْ، كَمَا تَعْلَمُ وأعْلَمُ ويَعْلَمُ آخَرُوْنَا، عَنْ مَجِيئِ فايْرُوسٍ نَانَويٍّ ضَئِيلٍ أَرْغَمَ مَجَيْئُهُ، كَمَا نَشْرُهُ وتَرْوِيجُ وُجُوْدِهِ، وعَجْزُ الْعِلْمِ الْمُصَفَّى مِنَ الإنْسَانِيَّةِ عَنْ تَطْويقِهِ، وكَبْحَ جِماحِهِ، واجْتَثَاثِ جُذُوْرِهِ، أَرْغَمَ الْبَشَرِيَّةِ بِأَسْرِهَا عَلَى الْوُقُوفِ، وَرُبَّمَا لِأَوَّلِ مَرَّةٍ فِي تَاريخِهَا الْحَافِلِ بِالتَّوحُّشِ والْحُرُوبِ الْمُدَمِّرةِ والسُّوْءِ، أَمَامَ مَرايَاهَا السَّوْدَاءِ، عَلَّهَا تَسْتَعِينُ بِقَبَسِ إنْسَانِيَّةٍ لا يَزالُ كَامِنَاً فِيها، ليُضِيءَ لَهَا مَرايَاهَا، فَيجْعَلُهَا قَادِرَةً عَلى أَنْ تَتَأَمَّلَ نَفْسَهَا، وعَلَى أَنْ تُدْرِكُ فَدَاحَةَ جَشَعِهَا الْوحْشيِّ الَّذي أَجْبَرَ الْوجُودَ عَلَى التَّدَخُّلِ لِوقْفِهَا عَنِ الإمْعَانِ في تَدْمِيرِ الْحَيَاةِ، وتَعْدِيم الْوُجُود، وَذَلِكَ عِنْدَ شَفِيرِ آخِرِ هَاوِيَةٍ مِنْ هَاوِيَاتِ الْعَدَمِ الْمَاحِقِ الَّذي تَقِفُ مُجْتَمِعَةً، الآنَ، عَلى شَفَائِرِ هَاوِيَاتهِ جَمِيْعَاً.
ولَعلَّ مَا نَحْنُ فِيهِ، فِي هَاتِهِ الْبُرْهَةِ الآنَ، مِنْ عَدمِ سَدِيْمِيٍّ حَالكٍ السَّوادِ أَلَّا يَعْدوَ أَنْ يَكونَ إلَّا حَيَزَاً انْتِقَاليِاً ضِمْنَ أَحْيَازِ أَوْلَى دَوَائِرِ انْبثَاقَاتِ الْوجُودِ والْعَدَمِ، وأُوْلَى مَراتِبِ مُسْتَويَاتِهمَا الْمُتَوَازِيَةِ الثُّنَائِيَّاتِ فِي تَنَاقُضٍ جَدَلَيٍّ، أَبَديٍّ، حَاسِمٍ ومَفْتوحْ. وهُوَ حَيِّزٌ لَنْ يَتَقَرَّىَ فِيْهُ انْتِقَالٌ مِنْهُ إلَّا بِحَسَبِ مَا يَخْتَارُ كُلُّ كَائِنٍ بَشَريٍّ لِنفسِهِ، وإِلَّا بِحَسَبِ مَا يُريدُ لِمَصِيرُهِ، منْ غَيرَ تَقَاعِسٍ وأَعْذَارٍ وذَرائِعَ، أَنْ يَكُونُ: فَإمَّا إِلَي جَحِيْمِ هَلَاكٍ يَقْبَعُ فِي قِيْعَانِ عَدَمٍ مُطْلَقٍ يَلِيْقُ، وحْدَهُ، بِمُفسِدِي الْحيَاةِ مِنْ وُحُوشِ الْبَشَرِ، ويَكْرَهُهُ الْوُجُودُ ويَألَمُ لَهُ، فَلَا يُقْدِمُ عَلَى السَّمَاحِ بِحُدُوْثِه، إلَّا مُمْتَعِضَاً مِنْ بُؤْسِ مَا اخْتارَ الْكَائنُ الْبَشَريُّ الأَنَانِيُّ الْجَشَعُ لِنَفْسِهِ، أَوْ إلَى حَيَاةٍ إِنْسَانِيَّةٍ مُفْعَمَةٍ بِحَيَويِّة الْحيَاةِ وثَراءِ الْوجُودِ، لا يَلِيْقُ سِوَاهَا بِمَا اخْتَارهُ الْإنْسَانِيُّونَ مِنَ الْبَشِرِ، الْمُؤْثِرِينَ آخَرِيْهِم عَلَى أَنْفُسِهِمْ، لِأنْفُسِهِم، ولا يَرُوقُ لِلوُجُودِ الْإنْسَانِيِّ الْحَقِّ أَنْ يُبْصِرَ، بِأُمِّ عَيْنِهِ الْبَصِيْرَتَينِ وفِي أَيِّ مِنْ مَدَارَاتِهِ وآفَاقِهِ، إِلَّا إِيَّاهَا.
***
فَجْأَةً، وبِما يُشْبِهُ انْغرازُ سِكْيْنٍ قَاطِعٍ في هَشَاشَةِ كَائنٍ مِنْ مُخَاطٍ مُتَجَمِّدٍ وهُلامٍ، وَجَدْتُني واقِفَاً، عَلَى رَأْسي، عِنْدَ حَافَّةِ شُرْفَتيَ الْمُسَيَّجَةِ بِنِدَاءَاتِ إِحْيَاءِ الْعَدَمْ، فَأبْصَرتُ آخَري، شَريْكِي في بُرْهَةِ الْخَطْوِ في مَداراتِ الْعَدمِ الدَّائِريِّ دَهَالِيزهِ الْحَلَزُونِيَّة الْمتَخَيَّلَةِ، مُمَدَّدَاً عَلَى صَلِيْبِه عِنْدَ حَافَّةِ شُرْفَتِه الْمسيَّجَةِ بَنِداءَاتِ تَعْديمِ الْحَيَاةِ، ومَمْطُوطَاً، مُسَمَّرَ الْجِسَدِ، عَلَى مَدَى الْمسَاحَاتِ الشَّاسِعَةِ الْمستَلْقِيَةِ، بِرَخَاوَةٍ، أَمامَ السِّيَاجِ، وَورَاءَ السِّيَاجِ، وفِيْ ذَاكِرةِ ذَاكِرَتي الْمُحْتَجَزَةِ، وخَلْفِيْ، وأَمَامِيْ.
وَفَجْأَةً، أيْضَاً، وَجَدْتُ عَقْلِيَ الْمُشْتَعِلِ يُومِضُ بِسِؤَالٍ أَخَذَ يُبلْوِرُهُ، ويَصَوْغُهُ، ويُدَقِّقُهُ، ويُعِيْدُ صَوْغَهُ لِيُقِرَّهُ، ولِيكُونَ بِمقْدورهِ، إنْ أَقَرَّهُ، أَنْ يُوجِّهَهُ إِلَى مُخَيِّلَتَيْ الْعَائِدَةِ، لِتَوِّهَا، بُصُحْبَة مَجَازِ الْحيَاةِ الْأَعلَى: "النَّهْرُ"، مِنْ رِحْلَةِ بِحْثٍ مُشْتَرَكَةٍ عَنِ أَنْهُرِ حيَاةٍ فِي أُوْلَى دَوائِرِ سَدِيمِ عَدَميٍّ مُرَاوِغِ، ولا سِيَّما أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ مَوَّارةً بِمَا اكْتَنَزَتْهُ شَرَائِحُ ذَاكِرَتِهَا النَّانَويِّةِ عَلَى مَدى بُرْهَةِ تِلك الرِّحْلَةِ فِي دَهَاليزِ أَوَّلِ دَائرةٍ مِنْ دَوائرِ عَدمٍ انْتِقَالِيٍّ يُرَاوِحُ بَين مُمْكنَاتِ وُجُودٍ لَمْ يَجْتثَّهَا عَدمٌ بَعدُ، ومُمْكَنَاتِ عَدَمٍ يَتَحَفَزُ للاستِئْثَارِ لِنَفْسِه بَالْوُجُود: هَلْ يُمْكِنْ لِلْعِلْمِ الْبَشَريِّ الْخَالِصِ أَنْ يَكونَ إِنْسَانِيَّاً، عَنْ حَقٍّ، فَيُوقِفُ نَفْسَه، وكُلَّ مُنْتَسِبِيْه، أَمامَ الْمَرَايَا، ليَشْرعُ وإيَّاهُم في اسْتخْلاصِ دُرُوسٍ وعِبَرٍ وخُلاصَاتٍ وُجوْدِيَّةٍ إنْسَانيَّةٍ تَسْتِجيبُ لِنِداءاتِ الْوجُودِ في مُواجَهَةِ اجْتيَاحَاتِ التَّوحُّشِ الْبَشَريِّ والْعَدمِ؟! وهَلْ يُمْكنُ لِلْعِلْمِ الْمُؤَنْسَنِ، الْواسِمِ نَفْسَهُ ومُنْتَسِبِيْهِ بِجَوهَرِ إنْسَانيَّةٍ مَنْشُودةٍ، حَقِيْقيَّةٍ وحَقَّة، أنْ يُسْهِمَ فِي إِنْقْاذِ الْبشَريَّة بِأَسْرِهَا مِن عَدَمٍ ماحِقٍ يَتربَّصُ بِها، اسْمُه "كُوفِيدْ التَّاسَعَ عَشرْ"، عَبرَ اكْتشَافِ ما يَتَوجَّبُ اكْتِشَافُهُ مِنْ عِلَاجٍ فَعَالٍ، أَو الْكشْفِ الْفَوْرِيِّ عَمَّا تَكْتَنزهُ ذاكِرةُ الْعِلْمِ بِشَتَّى مَجالاتِهِ وفُروعِهِ، وَقَدْ تَأنْسَن، مِنْ أَمْصَالٍ وتَطْعِيْماتٍ نَاجِعَةٍ تُعْدِمُ هَذا الـ"كُوفِيدْ" الْوُجُودَ، وَذَلِكَ عِوَضَاً عَنِ الاستمرار في إِفزاعِ النَّاسِ وترويعِهم، واحْتِجازِهِمْ وأسْرِهِم، والْحَجْرِ عَليْهمْ، وعَدِّ أَنْفَاسِهمْ، وتَجْميدِ الطَّبِيْعَةِ وتسْويْدِ عَيْشِهَا، وإنْضَابِهَا وإِضْمارِ جَسَدِهَا، وإماتَةِ الْحياةِ، وإفْقَارِ الْوُجُودْ!
وسيكونُ بِمقدورِ الْبَشَرِيَّةِ الْمُؤَنْسَنَةِ بِأَسْرِهَا، وبِقيادةِ الإنْسَانِييَنَ الْواعِينَ الْعَارِفِينَ الْأحْرارِ مِنَ النَّاسِ، أَنْ تّذهَبَ، مُسْتَعِيْنَةً بشَتَّى حُقولِ المْعْرِفَة الإنْسَانيَّة وبالْعلْمِ المُؤَنْسَنِ الذِي يُصِرُّ، بِاجْتِهَادٍ مُتَواصِلٍ ودَأَبٍ مُثَابرٍ، عَلى أَنْ يَكونَ هُوَ الْعِلْمُ الإنْسِانُ، صَوبَ تَمْكِينِ نَفْسِهَا مِنْ امْتلاكِ جَوْهَرِ إنْسَانِيَّتِهَا، ومنْ إدْراكِ كُلَّ شَيءٍ وكَائِنٍ ومُوجُودٍ، بِلْ والْوجُودِ نَفْسهِ، بِوصْفِهِ كَائنَاً وُجُوديَّاً يِسْعَى، كَمَا الإنْسَانِ، إلى إدْراكِ كَمَالٍ وُجُوديٍّ أَخْصَبَ وأَغْنَى، وأغْزَرَ ثَرَاءً وأَسْمَى!
(براتسلافَا 27 أَيَّار (مَايُو) 2020)