آلاف‭ ‬الرؤوس‭ ‬المقطوعة ورأس‭ ‬الشاعر

الخميس 2015/10/01
لوحة: أسامة دياب

"ميليشيا‭ ‬الثقافة" ‬جماعة‭ ‬شعرية‭ ‬في‭ ‬الفوضى‭ ‬العراقية‭ ‬الشاملة‮ ‬

‮ ‬يتساءل كثير من المثقفين العراقيين منذ سنوات طويلة، إن كان المرجل العراقي سيواصل إنجاب أجيال ثقافية، تتصدى للأسئلة الثقافية الجديدة في ظل الفوضى الشاملة التي تعم البلاد، إضافة إلى الانقلابات التكنولوجية الشاملة، التي غيرت طبيعة تلقي الثقافة وإنتاجها وتوزيعها‭.‬

ويجيب المرجل الثقافي العراقي المتسائلين على الدوام، بتقديم مفاجآت تكشف عن ظواهر ثقافية، توازي في نتاجها وانفعالاتها ما يحدث على الأرض العراقية، وتتفاعل في الوقت نفسه مع أحدث ما تنتجه الثقافة العالمية، بل وتفجر مفاجآت جديدة في أدواتها، التي تقطف روح المرحلة الصاخبة، مثلما حدث طوال أكثر من 6 عقود‭.‬

وتكاد الجماعة الجديدة التي أطلقت على نفسها اسم “ميليشيا الثقافة” تكون الأكثر تعبيرا عن المرحلة، لأنها تتماهى مع أعمق ما قذفته الفوضى العراقية من ميليشيات التطرف والطائفية والقتل منذ عام 2003، وهي تحاول قراءة الواقع وتفسيره عبر أدوات ثقافية تعكس ذلك الواقع‭.‬

ولتكون المجموعة صادقة مع موقعها من الثقافة وانصهارها في الفوضى العراقية، فهي ترفض إعلان بيان تأسيسي، لأنه عملية تقنين تحبس إصرارها على التجريب والتفاعل مع الثقافة العالمية والواقع العراقي، لذلك شطبت أيّ إشارة إلى مسألة إصدار بيان للمجموعة‭.‬

ميليشيا الثقافة ترسم كل يوم عبر نشاطاتها الغريبة وغير المسبوقة، ملامح منفلتة من أيّ تصنيف، لتتماهي مع جنون الواقع العراقي، ويبدأ ذلك من إطلاق اسم “ميليشيا الثقافة” على نفسها، لتحاول إيجاد معادل ثقافي لانتشار الميليشيات في العراق، والذي لا يقتصر على الميليشيات المسلحة بل يمتد إلى جميع مظاهر الحياة العراقية القاسية والمتطرفة‭.‬

تستمد نصوص أعضاء ميليشيا الثقافة مفرداتها بشكل أساسي من مظاهر الفوضى والدمار بوصفها استخدامات شعرية كالمفخخات والمقابر والألغام، في محاولة لتفسير الواقع المتفجر والمجنون ثقافيا‭.‬

ويقول أعضاء ميليشيا الثقافة إنهم لا يكتبون الشعر بل يزاولونه في حياتهم اليومية في محاولة لتحويل الشعر من الفضاء التخيلي إلى فضاء الفعل والاستخدام والانطلاق من الواقع بوصفه معيارا أسياسيا لنشاطهم الثقافي‭.‬

إنها قفزة ثقافية كبيرة للالتحام بالواقع العراقي المجنون، وهي تعد بتقديم قراءة ثقافية غير مسبوقة في درجة تفاعلها مع الواقع‭.‬

قلم التحرير

كاظم‭ ‬خنجر

سياحة في المقبرة

في ظل الطلقة والسكين، في ظل العبوة والهاون، في ظل السيارات المفخخة وصواريخ الطائرات، في ظل الكاتم والصائت، في ظل المثقب والتيزاب، في ظل الأحزمة الناسفة وعيون المخطوفين المعصوبة.

في ظل الجثث المقطعة التي غالباً ما يحدث أن تُخلَط أجزاؤها من أجل جثة تامة المظهر تُسلَّمُ إلى الأهل الذين يدركون أن الرأس هو نفسه لكن الأجزاء ليست كذلك، نتبادل أعضاءنا حتى في الموت.

مفردة “الموت” ضيقة، لا ترتقي إلى ما أتحدث عنه، بخلاف مفردة “القتل” التي تأخذ بأطراف القصد.

ندور منذ ولادتنا في مفرمة الدين والسياسة. الدورة التي لا تفرمني، تفرم أخي أو صديقي أو أيّ إنسان من هذه الأرض.

ما عاد يعنيني هذا كلّه، فالتمرين المتواصل عمل على تدجين غريزة الجلال في القتل الذي تحوّل إلى خبر في تلفاز أو حكاية على الغداء.

أخرج كل صباح ومعي يقين أن القتل لا بد منه، نعم، لا بد منه، لأن خراطيم الإطفاء لا تأتي في كل مرة لإطفاء شيء، وإنما لبعثرة برك الدماء وغسل الشارع. يحدث هذا من أجل خداعنا كي نمرّ على الإسفلت نفسه من جديد.

الأمكنة التي نقطنها ليست مُدناً. إنها متاحف للقتل والخراب. ما يُنقَل للدفن وهمٌ وكفن. أقصد أن الذين يُدفَنون في المقابر الأساسية ذات التاريخ الطويل، هم غير الذين يودعون في مقابر جماعية.

لكل مجزرة مقبرة جماعية أود تسميتها بالمقبرة “الديلفري”. غالباً ما تُنشأ بطُرُق غريبة وفق طلبات خاصة. وقتها تلقائي ومكانها عام، فقد تجدها في الساحة العامة أو في طريق العمل أو خلف منزلك، بخلاف المقابر الأساسية المتصلة الزمان والثابتة المكان.

ما جاء سلفاً، يشمل رؤية كلٍّ من مازن المعموري، كاظم خنجر، علي تاج الدين، علي ذرب، أحمد عدنان، عباس حسين، أحمد ضياء، حسن تحسين، وسام علي، وقد قررنا الآتي:

إن ما نكتبه يُقرأ في المقابر حصراً.

عدم وجود أيّ متلقٍّ حيّ خلال القراءة. الموتى هم المغزى، والقصد أن نتوحد معهم، لا سوانا ولا سواهم.

هذا ليس رثاء لأحد، إنما فضٌّ للحواجز بين الحياة والموت.

ملاحظة: كانت القراءات شعرية.

2

(نزهة في محمية السيارات المفخخة)

ما يحدث من قتل، بحاجة إلى كتابة تتماهى معه. إذ لم يعد ممكناً أن نكتب عن الدم بغير الدم، وأن نرى وعيوننا مفقوسة. نحن لسنا ببغاوات لواقعٍ ما، ولسنا تجار جثث. كما ولا تعنينا وظائف الأدب وأشكاله.

نحن نسعى إلى منهج يتقارب مع آلاف الرؤوس المقطوعة والأعضاء المحترقة والأجساد التي تناثرت ولم يعثر على أجزائها. نحن بحاجة إلى موضوع يتساوق مع أطنان الشظايا الواقفة في المنزل والسائرة في الشارع والجالسة في المقهى.

نجوتُ من حزام ناسف في شارع المكتبات، ومن مكان ملغوم (ابن النما) وثلاث سيارات مفخخة، الأولى في رأس شارعنا حي الطيارة، وأخرى وكانت الأقرب في كراج باب الحسين، والثالثة في الخسروية، وطلقة جندي أميركي. فقدتُ العشرات من عائلتي وأصدقائي. إنها سطوة القتل التي تمرسوا وتمرسنا عليها.

من هم؟ ومن نحن؟ كلانا لا يعرف. لكننا ندرك جيداً في سرّنا أنها أنياب الدين التي تنبت على أعناقنا.

عقب المقابر الإنسانية، اخترنا هذه المرة المقابر الصناعية. وأيّ صناعية؟! إنها مقابر السيارات المفخخة مفتوحة الفم التي بلعت تلالاً من السنوات، حتى وضعناها بالقرب من مساكننا، لا لنتذكر عبرها وإنما لنواصل وجودنا فيها.

كلما رأيتُ لجنة مكافحة المتفجرات مجتمعة تحاول كسر زجاج سيارة مشبوهة، شعرتُ بأنها اللحظة الأخيرة لبقاء أعضائي متصلة. فانفجار السيارة المفخخة مختلف عن سواه من أنماط التفجيرات الأخرى. فالمشهد كالآتي:

جناحٌ للقطةِ على سياج دائرة الكهرباء.

جناحٌ للسياج.

جناحٌ لسبعة عمال بناء.

جناحٌ لرأس بائع الخضروات.

جناحٌ للخضروات.

جناحٌ لساقَي طفلة وهي في طريقها إلى المدرسة.

جناحٌ لحقيبتها.

جناحٌ لجلود ركاب الباص.

جناحٌ للدراجة الهوائية وراكبها والخبز الذي معه.

جناحٌ للإسفلت وأعمدة الكهرباء ولافتات المحال.

جناحٌ لطبلة الأذن.

جناح للعاجل في التلفاز.

هكذا هي السيارات المفخخة وهي تمنح الأجنحة لكل شيء. لذا جاء قرارنا أن الكتابة لا يمكن أن تكون أو تقدَّم إلا هناك، حيث المئات من البقايا التي لم تمنح أجنحة إلى الآن.

شارك في الفعل، كل من: مازن المعموري، كاظم خنجر، علي ذرب، حسن الغبيني، أحمد جبور، علي أصلان، حسن تحسين، عباس حسين، وسام علي، محمد كريم، أحمد ضياء، وعلي تاج الدين.

أحمد‭ ‬ضياء

ميليشيا الثقافة مرحلة انتقال واسع في عالم الشعر. إذ من خلالها نتمثل الحياة اليومية بكل خياراتها ومصنفاتها الواقعية بعيداً عن التكلف وبعيداً عن أيّ استعلاء على حجم الأزمة، بل هي تحاول أن تقتحم كافة تفاصيل الحياة وفق مدركات الوعي التي تمتلكها.

تضم الميليشيا بين ثناياها دروبا من التمرد والتجريب، فهي لا تبقى ساكنه في ظروف رجراجة.

كل ما هو واقعي تضعه الميليشيا تحت مجهر الشعر والمناقشة ليكون مفتتحاً لمشروع جديد غير منحاز لأيّ طائفة أو فئة معينة. كل ما تطمح إليه ميليشيا الثقافة هو المضي بالإنسانية بوصفها استعدادا شعريا نحو آفاق جديدة.

نريد الابتعاد عن الأبراج العاجية التي سجن فيها معظم الشعراء أنفسهم، وانهمكوا في مشاكل ميتافيزيقية، ورحّلوا الماديات إلى خارج حياتهم. ميليشيا الثقافة في موضع تجريبي قابل للتغير حسب متطلبات المكان والأزمة.

مازن‭ ‬المعموري

تنبثق حركة ميليشيا الثقافة من وعي حاد بأزمة الإنسان في العراق تحديدا، وسط شحوب الحياة ودمار الحروب التي وضعتنا كأفراد وشعراء أمام مسؤولية التعبير عن موقفنا تجاه الموت المجاني اليومي.

نحن هنا نعيش على حافة الموت كل لحظة حيث أصبح من الممكن سرد الأحداث اليومية في نسق شعري مكثف، يركز على فنتازيا الموت ومشاهد الواقع كما هي دون مجازات أو استعارات لفظية أولا، واستخدام الصور والفيديو بصفتها لغة العالم المعاصر ثانيا.

وهو ما وجهنا لاعتماد مبررات استخدام مفاهيم ما بعد الشعر بوصفها وقائع شعرية وليست تاريخا مسرودا لدرجة أن هذه السرود تتجاوز التاريخ لتصبح نصوصا أدبية أو فكرية جامحة تثير صدمة الآخر وتتجاوز نسق التلقي القديم.

حسن‭ ‬تحسين

حينما تنصهر الثقافة الواقعية برمتها تتكور كوكبه من الشعراء معلنةً تسميات ملائمة عما نحنُ فيه (ميليشيا الثقافة) لكن بوجهها الآخر الثقافي والضارب لكل ما هو تقليد أي صناعة ثلة ميليشياوية مبطنة بقوة كونكريتية.

تمثل الميليشيا مجموعة من شعراء يختلفون عن الأنماط السابقة. حيثُ كل منهم يختلف عن الآخر في الصياغة والأسلوب، لكنهم يتشابهون في رفض التزييف الوجودي للأيقونة الدامية التي اخترقت فضاء الشعر.

وها نحنُ كل من مازن المعموري وكاظم خنجر وأحمد ضياء وعلي تاج الدين وعلي الذرب ومحمد كريم وأحمد جبور وحسن تحسين ووسام علي… ميليشيتنا تحمل أسنانا غير مسوسة ثقافياً.

علي‭ ‬تاج‭ ‬الدين

ميليشيا الثقافة: هي حركة ثقافية عابرة للشعر. إنها مليليشيا، أيْ قوة ثقافية تجابه الموت وتقف بالضد منه، وهي بالطبع تعمل خارج إطار الدولة وهيمنتها، خارج مؤسساتها، خارج أحزابها وما تحمل من أيديولوجيّات ساهمت بشكل أو بآخر بتحطيم البلد وثقافته معاً.

جزء من أهدافها أنّها تحاول تغيير الأساليب النمطيّة للأدب عموماً وللشعر خصوصاً، باختراقها مواقع وأماكن لا يفكّر بها الأدباء النمطيّون أو يهابونها كالمقابر البشريّة ومقابر السيّارات المفخّخة وحقول الألغام وسيارات الإسعاف ومفاعل تمّوز النووي.

قراءاتنا تتم في مكان مختلف عن الأماكن التي يُلقى فيها الشعر كالقاعات المغلقة. كما كان زيُّ الشاعر الميليشياويِّ مختلفاً أيضاً ومتحرِّرا من قيافة البدلة الرسمية للشاعر النمطيِّ، بل ربّما كان الشاعرُ نصفَ عريانٍ أثناء فعله الشعري كما فعل الشاعر مازن المعموري والشاعر أحمد جبّور.

كذلك الوقفة المتعارف عليها خلف منبر الشعر قد انتُهِكَتْ، واللغة الرومانسية السائدة، بل إنَّ الشعرَ فيها قد أصبح مذاباً في المسرح والفوتوغراف والسينما لتكون الميليشيا أوّل حركة تحقق (النصَّ المفتوحَ) عمليّاً وخارج إطار الورقة أو كما أحب أن أسميها بـ”شعريّة الفن”.

محمد‭ ‬كريم

منذ رعونة حُكّمانا والمثقف العراقي خاضع للسلطةِ خوفاً من رصاصها وطمعاً في دنانيرها. لم نشهد حراكاً ثقافياً يردّ بقوةٍ الحقيقة، التي لم نعها لحدّ الآن إنّ للرابر سلطة على السلطة لا تساوي أمامها سلطة مثقفينا شَعْرَةً واحدة.

الكثيرون هاربون داخل حفرةٍ أسموها الرمز أو الرومانسية أو السلام أو السريالية.. إلخ.

لستُ ضد السلام أو الحرية لكن أن تكون ضد الحرب ليس معناه أن يكون نصّك لافتة تقولُ (لا للحرب) فقط، لأنّ التطبيل للسلام في حد ذاته استسلام.

الوقوف ضد الحرب يتحقق بالوقوف ضد الحرب جسداً ونصاً، بمعنى إنّ رأسك/نصّك سيكون ضريبة موقفك. والواقع العراقي اليوم محكوم بميليشيات دينية/سياسية/إرهابية تفرضُ وتتدخل وتحذف وتضيف وتقتل وتُكفّر وتُهجّر وتُحلل وتُحرّم، رغمَ أنفِ الجميع وفق منطقٍ واحد أما/أو بمعنى (إذا لم تكن معي فأنتَ ضدي).

كل هذا يفرضُ تأسيس ميليشيا ثقافية تحارب هذا المنطق بأسلوبهِ وأدواتهِ وبنفسِ القذارة التي تُستعملُ ضدنا.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.