أبواب الخلود
“أخي ثیو، يستعصي عليّ شرحها. البؤس غدا أبديا ولون السماء في الصبح معتم كالليل. أما نعيق الغربان فنذير وحدة موحشة. حتى كنيسة أوفيرس هجرها البشر وأصبحت مأوى للأشباح. لقد انعقد لساني وغدا ثقيلا عسير الحركة؛ تأمل ما سنته فرشاتي وستفهم ما أحاول شرحه” (فنسنت فان غوغ).
تحور ألم الجسد إلى لوعة نفسية أشد وطأة عندما نهض الرسام أخيرا، فوجع الجسد تنمل تدريجيا ثم تلاشى مع وصوله حضيض الكرب والحسرة. وقف بجانب النافذة بالكاد يحمل وزنه، يبحلق في الأفق، لا يدري إن كان ذاك الوميض هو انشقاق نور الصبح أم غسق الغروب؛ فلقد تخلى منذ زمن عن متابعة الزمن. ترك محله الذي علق فيه أياما يتأمل عتمة الحياة، وجر ساقيه بصعوبة إلى تلك الرسمة العنيدة. وقفت الرسمة بزهوّ قبالته معتلية حاملها، متحدية من أضنته مهمة إنهائها، ومتمردة على مصير أسود يرمز للظلم وعشوائية الوجود. حدق في الكهل المنهك أدریانوس، وقد أراح مرفقه على فخذه وغطى وجهه بكفیه حسرة وغما؛ فلم يلبث يتأمله لوهلة حتى اختطفته الذكريات مجددا من مهمته. تحسس أذنه المقطوعة وتساءل إن كان منبع ذلك الإثم كرامة أهينت أم رغبة لاشعورية لجلب الانتباه كما يدعون. لكن حدسه مازال مرتابا بأن السبب ليس إلا توافق ذلك المطر المتصل والغيوم السوداء مع خبر زواج أخيه ثیو. عندما حاول غوغان تفسير فشله بعجز كامن عن فهم الجمال، تملّكته رغبة جامحة بإيذاء أحد. وبما أن إيذاء الغير عنده من المحال، أسقط أذاه كتضحية على أذنه. تضحية لم تشأ الأقدار أن تفهم، حتى من أقرب الناس إليه، مما ترك جرحا غائرا في نفسه. بعدما استفاق من تلك الذكريات الكئيبة، اتخذ قراره بخلط اللونين البني والرمادي لوضع الطبقة الأولى.
ارتعد من مثقال البؤس ومقدار الفجيعة التي أسقطته ألوانه تلك على الرجل المسكين وكأنه يراه لأول مرة. سقطت عندئذ القشة الأخيرة التي قصمت ظهر اليأس. هرول إلى الُدرج الخشبي وأمسك به. منعه تصور فاجعة أخيه حتى الآن من فعلها؛ لكن یأسه وصل إلى عمق لا يصله الخيال. فتح الدرج بید ترتعش؛ أمسك السلاح وتأمله متسائلا “أبه الخلاص حقا؟”. وجهه إلى صدره، ثم ابتسم وأغلق عینیه. أطلق رصاصة فاشلة اخترقت صدره واستقرت بجانب فقرات ظهره مخطئة إصابة أي عضو مهم. “هل انتهى كل شيء؟”…. فتح عینیه مشمئزا من سخرية الحیاة التي تشبثت به رغم زهده بها. تجسس مدخل الرصاصة ليتبين أن الدم یسيل بوفرة، فنزلت عليه غبطة مبهمة. سار الى الخارج بيسر، رغم جرحه الغائر، وكأن الحياة عادت إليه. جال بين سنابل القمح بشغف، يريد أن يتنفس الهواء ويحس بعلیل الحیاة لآخر مرة داخل صدره. لم يرَ عتمة أو غربانا ولم يسمع نعيقا، بل عصافير تغني في سماء صافية زرقاء تبعث للأرض ضياءً ذهبية تلون به حقل القمح. وقف بين السنابل مذهولا من هذا التغير الطارئ. رجعت الحياة للحياة، وعادت الألوان تملأ الأرض والسماء. هبطت حينها أطروحة على عقله أوقدت في فؤاده نارا:
لا بد لهذا الجمال من سبب، ولا بد من وجود جمال أبدي بعده. هي حقيقة لا دخل للدین أو العقل بها، بل هي حجة الجمال وحده.
تمثلت أمامه فجأة صورة أدريانوس بألوانها القاتمة، فأصیب بالذعر وصاح بأعلى صوته “لا یمكن أن تكون تلك النهایة”. ركض إلى الداخل بعنفوان، دافنا يده في جرحه الغائر ليكسب بعض الوقت. فتح خزنته وأخرج علبة ألوان زاهية أكل عليها الدهر ولم ترَ النور منذ زمن. هرع إلى اللوحة ودفع ألوانها القاتمة أرضا. انسابت فرشاته بسلاسة بين الألوان الحية والرسمة، وكأنها تختار الألوان من نفسها لتحقق بذلك قدرا ليس أمامه إلا أن یصیب.
لا تقلق ولا تجزع يا صاحبي. لیست النهایة بل البدایة، أراك شارفت واقفا على أبواب الخلود.
ربما نعجز عن تصور الجمال الذي تجلى أمام فان كوخ. جمال قد يضني تخيله أرباب الرسم الانطباعي في زمانه. إلا أن مخاض البؤس أنجب أملا، فَفُتِحَ صندوق الجمال أمامه وفاض نورا وهاجا لوهلة عابرة، وهبت له بين انعتاقه وفنائه.